-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رواية «وهل من فرق؟»: أزمة الاندماج والانتماء في بلاد اللجوء



سربند حبيب

 

الصبر جميل، والأجمل أن يكون ثمرته نتاج أدبي، مجو ويس، عندما كان طالباً في الجامعة، أعطاه الدكتور المحاضر رسالة لم يفتحها إلا بعد أن ثقل كاهله، فقدْ صبر لمدة أربع وعشرين سنة، وعندما فتحها أخيراً، لم يهدأ باله، شيء من الغثيان أصابه، فهرع إلى الكتابة، كأنما طيف يطارده ليروي لنا أحداثاً حقيقية لشاب طموح هاجر بلاده؛ بسبب الحرب والدمار والفوضى، واستقرّ به الأمر في أوروبا.

بثمانية فصول شيقة غير معنونة، وعبر مائة وست وعشرين صفحة، يأخذنا الكاتب في رحلة ما بين حاضر مُعاش (هولندا)، وماضٍ هو مسقط رأسه (سوريا)، في روايتها الأولى، الصادرة عن دار (آفا) للنشر.

يفتتح الرواية بمشهد من الحاضر، وبينما كان سيوار، بطل الرواية، ذاهباً لإحدى مقابلات العمل، يتلقّى رسالة من صبري، صديق طفولته وشبابه، الذي لم يلتقِ به منذ فترة طويلة، وكان في شوق للقائه.

يستخدمَ الكاتب في عمله تقنية تيار الوعي، فنكتشف من خلالها جوانب سيكولوجية وبيولوجية في شخصية سيوار، وكذلك من خلال سيرته الذاتية التي يقدّمها لمقابلة العمل، فهو رجل خمسيني أرمل، يتميز بدقة المواعيد، واثق من نفسه، حاذق، طموح، ومتمرّد. لم ينجح في حياته الزوجية، فبعد موت زوجته بمرض السرطان، عاش حرّاً، وقرر العيش لوحده، كانت التدريس مهنته الأساسية، وقد مارس مهناً كثيرة في حياته.

يعيش سيوار حالة نستولوجيا دائمة؛ حيث يقوم بإسقاط الحاضر على الماضي، فقبل دخوله مبنى للمقابلة يشدّ انتباهه مشهد فتاتين في الشارع، تتبادلان القُبل بشهوانية، يعيد هذا المشهد إلى ذهنه حدث من الذاكرة، عندما خاض تجربة مراقبة منزل جارته جميلة، التي اختلت مع صديقتها نجلاء ذات مساء، فقام سيوار بتسلق السطح ليختلس النظر من إحدى ثقوب الجدران، فيرى حالة غريبة، فكر كثيراً بمنطق وفضول طفولي: «قد يكون هذا من ألعاب الفتيات»، وبالرغم من عدم فهمه لما يجري أمامه، إلا أنه انتابه متعة مختلفة وشعور نادر، فيقول في الصفحة الخمسين:

«في النهاية أصبح بطء أداء الحديث سيّد الموقف، فزادتِ الفتاتان من النظرات في جسد بعضهما البعض بدلاً من الكلام، فكانتا تمعّنان النظر برشاقة في حمّالة الصدر فالبطن فالساقين، إلى أن بدأت في لحظة ما شفاه إحداهما ترتخي على فم الأخرى. وبعد تنافرٍ مؤقّت وحديثٍ قصير قامتا بمبادلة حمّالتي الصدر على سبيل التسلية، فتشاركتا في ارتداء الأبيض والأسود. وفي لحظات المبادلة رأى سوار نهوداً صغيرةً متكوّرةً ومرفوعةً بكبرياءٍ شديدٍ للأعلى، حيث تختلف حلماتها عن حلمات نهود النساء الريفيات اللواتي تُرضعن صغارهن بعفويةٍ على أرصفة شوارع السوق. وهنا تنحَّت زجاجة البيرة الفارغة والكأسين عن بؤرة التركيز، وبدأ يرى الصغير أشياءً لم تخطر بباله ولم يسمع عنها في حياته من قبل».

من خلال هذا الترابط يتطرق الكاتب إلى قضية المثلية الجنسية، التي كانت وما تزال محظورة في المجتمعات الشرقية، بينما نراها في معظم الدول الأوروبية مباحة، فقد شرعوا بزواج المثليين تطبيقاً لمبدأ الحرية الشخصية.

يسرد الروائي الأحداث بضمير الغائب، حيث يتبنّى وجهة نظر البطل، فينسى القارئ وجود الراوي، ويكون مع سيوار في سير الأحداث، وأحياناً يصبح هو نفسه البطل يقود تلك الأحداث، فاللغة الشخصية موجودة هنا بقوة، فنحن هنا أمام سرد شفاف ولغة جميلة وسلسة بعيدة عن أية زخرفة أو الرمز، هي لغة الحياة حاضرة وبقوة، تمنحنا تأشيرة الولوج لعمق الحدث.

نتلمّس في الرواية قضية أخرى، وهي الاندماج في المجتمع الأوروبي وحالات الطلاق التي كثرت في الآونة الأخيرة، ففي المجتمعات الشرقية تكون المرأة مقيدة، وهي الطرف الأضعف في العلاقة الزوجية، وبحكم العرف والعادة وسمعة الأهل، يعتبر الطلاق بمثابة وصمة عار للمرأة، لذلك كان قليلاً جداً، فنرى الكاتب يوظّف قصة صبري للغوص في تلك القضية، فبعد لقائه بسيوار في موقف عاطفي مؤلم، تتأزم الأحداث، فيقصّ صبري ما حدث له والدموع ترسم أخدودين لامعين على وجنتيه، حيث ترك زوجته وأولاده واختار العودة إلى الوطن.

فصبري كغيره من اللاجئين حمل الوطن حقيبة، باحثاً عن الأمان في بلاد اللجوء، وبعد استقراره هناك خسر أسرته، فما كان أمامه إلا العودة إلى حضن الوطن، وهو ما سنشعر به في الصفحة الرابعة والستين، قائلاً:

«بعد أن غادرت ابنتي إلى لندن وابني إلى شقّته، ولم يبقَ سوانا في البيت، فكّرت وكأني ألقي نظرةً أخيرةً على جثمان أحد المتوفين، بالرابطة التي تجمعنا كزوجين فلم أجد فيها ما يُسرُّ نفسي لمتابعة بقية حياتي معها، حيث لا اتفاق بيننا ولا حاجة عاطفية مشتركة. فوصلت إلى قراري النهائي، وقمت برمي الكرة في ملعبها كما كانت تفعل معي دائماً، بعد أن أبلغتها نيتي بالعودة إلى الوطن فرفضت مصاحبتي، وأكّدت أنها لن تبرح هذه المدينة، لتبقى على مقربة من والدتها وإخوتها في أوروبا. جاء هذا الموقف المتوقّع متناغماً مع قراري من ناحية وكإعلان عن وصولنا إلى طريق الهجران رسمياً من ناحية أخرى. وبزيارتي لك بدأت بشقّ طريقي الخاصّ دون أن أغيّر الرابطة الزوجية أية أهمية بعد الآن. فلست قلقاً حول شكل حياتي الجديدة ومضمونها، لأني اعتدت على العيش مع زوجة حاضرة كجسد ومعدومة كروح، فكان شعور الوحدة صديقي الصدوق الملازم لي، وكل ما عليَّ القيام به أن أجد رفيقاً يتناغم مع وحدتي النفسية، ربما سأتمكن حينها من تنفس الهواء النقي فيما تبقى لي من السنين.أنا بحاجة إلى الراحة يا صديقي».

تطرّق الكاتب أيضاً إلى طبيعة العلاقات الشخصية ومدى قدرة اللاجئين على الاندماج، نرى سيوار قد اندمج بسرعة مع المجتمع الجديد، بالرغم من اختلاف الثقافات والعادات، لكن فضوله يثير فيه الرغبة في البحث عما هو غير مألوف بعكس صديقه صبري الرجل الذي ناضل في سبيل الوصول  مع عائلته إلى برّ الأمان بعيداً عن سعير الحرب، ليعود وحيداً ويجمع ما تبقّى من شتاته حيث ينتمي.

إن الوصف في العمل الروائي هذا كان وصفاً بارعاً قوياً، من وصفه للشخصيات والأماكن وأسلوب التصوير، فنرى الكاتب يغوص في أغوار الشخصية، حيث يقوم بتصوير المعالم الداخلية للشخصيات وخاصة شخصية البطل، فمن خلال تيار الوعي تتطوّر الحبكة الدرامية وتتأزم الأحداث، وكذلك تنمو الشخصيات بتقنية «فلاش باك».

«وهل من فرق؟»، عمل روائي، تناول قصة إنسانيةٌ مُؤثرة، تُلامس مشاعر المتلقي، وتبحث في خبايا النفس عن أزمة الإنسان في بلاد اللجوء وصراعه الوجودي. كون الرواية فتحت أبواب قضايا حياتية عدة، إذ طرح ويس في هذا العمل قضية الثالوث الاجتماعي: الحبّ والزواج والطلاق، وكذلك قضية المثلية الجنسية وقضية الهوية والانتماء، والتحديات التي يواجهها اللاجئون في الحفاظ على هويتهم الثقافية، لكنني لم ألتمس الحل من وجهة نظره ككاتب، باعتباره لاجئاً وجزءاً من تلك القضايا، فمثلاً قضية الطلاق التي أغلبها تكون من طرف الزوجة كان بإمكانه طرح فكرة الاستثمار الإيجابي من القانون الأوروبي بما يعود بالنفع عليها وعلى أسرتها وعدم استغلال انحياز القانون لها، فهي بذلك تجبر الرجل على تفضيل نار الحرب وأزيز الرصاص على جحيم الطلاق، فالفرق أوحد بين الجحيمين، في الأول نسمع صوت وجلجلة صيحات المقتولين، وفي الثاني يقتل الجميع بصمت مطبق.

 

تعديل المشاركة Reactions:
رواية «وهل من فرق؟»: أزمة الاندماج والانتماء في بلاد اللجوء

Kaya Salem

تعليقات
    تعليق واحد
    إرسال تعليق
    • محمد مسلم الابراهيم photo
      محمد مسلم الابراهيم29 أبريل 2024 في 6:03 ص

      كل التوفيق و النجاح في الالمام بجمع جوانب الرواية الى المزيد من القراءات التي تلخص لب الرواية والايحاطه بها من جميع الجوانب التي تلخص الرواية و تفيد القارىء في استخلاص ما هو مفيد مختصرا الجهد و الوقت...

      إرسال تعليقحذف التعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة