-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

استودعني برحيل أصم


جان بابير

 

في لحظة تتساوى الأشياء في نظرك؛ الخير والشر، في الوقت الذي لا يهمك إن تكاسل المنطق في سيره ككهل أو لم يعد يعنيك مَن يخرج من حياتك كالسهم ويسحب مع الانتزاع قطعاً أخرى من اللحم ويضيف نزيفاً فوق الألم ليضاعف الوجع ذروة سرعته.

 

لا أدري كيف يمكن أن أستوعب كل هذا، هل يعني ذلك أنني أقترب من مغادرة أسوار الوعي، لأرسم مسارات جديدة نحو الجنون؟ ما اعتبرته أجمل وأقدس شيء ينسكب من بين يدي كالماء، لا أستطيع إمساك شيء لمدة طويلة، وها أنا أطلق لحى الخيبات، فلم يعد يعنيني أن يخرج أو يدخل شخص آخر حياتي نيابة عن انتكاساتي الكثيرة. أود أن أطلق شرارة في كومة خيباتي لأحرقني!

وأهرب من الراحلين، وأنصب حقول ألغام للوافدين الجدد في حياتي. هي حرية لن أسمح لأي كائن أن يسلبها مني تحت أي اسم أو عنوان، أكاد أن أقع في حبي أنا فأنا الشخص الوحيد الذي يفهمني.

 

لا أحتمل هذا اللغم في أحشائي أو  ذلك السكّين الذي يحزّ وريدي لأبدأ بشطب  الملامح وتفاصيل اللقاءات التي لم أجنِ منها سوى الخسارة. سأحضن بصدري كل الخيبات، السائمة مني والساخطة علي. يحاصرني أكثر من جيش وتعبث بي أكثر من صِبيَة، ويركلونني ككرة بأقدام طائشة، أكرر العبث، أزن الألم بالغرام كبائع مجوهرات وفي واجهة محل وأمام نظرات المارة أعرض آلامي بالمجان. فقط لو أستطيع أن أكرس لكل هذا الوجع لوحة إعلانات في نسخ مكررة، في كل ساحات المدن، وأكتب تحتها بخط عريض: لم يعش أحد أشقى وأتعس مني في هذه الحياة، سوف يعتاد هذا المتحف من العظام الذي أحمله فوق كتفي فنون الوجع ويعكس هذه الرؤى داخل جمجمتي، وأتجرعها كملعقة دواء مرّ كل ساعة لتنهب المعدة والمري، سوف أغادر مقصورة الكتابة الملكية قريباً وأتساقط قطرة قطرة في نصوص تشبه أنياب كلب مسعور في ساقي المعنى، لن أخاف بعد اليوم من أن أفقد نفسي في موقف يتطلب أن أصلب من جديد، فأنا أمتلك أسباباً كافية لنفي الخوف إلى أقاصي الدنيا البعيدة، خوفي لم يكن الوسيلة بل الغاية لإبعاد شبح التملك أو قفصه المزين بأوشحة الحب التي تأسرني، ولدت لأحارب العبد في داخلي وأحاسب ولادتي، لم أكن في يوم مشاعاً لأكون ملكية خاصة بطابو، كنت وفياً للمقابر أكثر من الأحياء، قد لا أكون على صواب وقد لا أكون منصفاً بين عود ثقاب وغابة، قد أكون أجمل بلا نساء يحطمن إناء قلبي ويسكبن دمه على مفارش الحب. قد أعقد قراني على الوحدة والاكتئاب لأحرق ألبوم حبيباتي صورة صورة، وأضع فوهة بندقية على صدغ كلماتي فأفجر ما دوّنت وأضغط على زناد كلمة الفراق.

 

بصمت مطلق سأرحل عنكن، كقاتل مأجور يركن صوت طلقاته للفضاء الواسع للمغفرة. لن أسمع الشكوى بعد اليوم سأموت أنا قريباً، ولن أجد مبرراً للحياة. تصبح الأمور اعتيادية والخوف يرحل مع كل تفاهتي الكسيحة، سأطوي فصول حكايتنا ورقة ورقة، اذهبي الآن إلى حكاية تعنيك بكل أسباب الرحيل، لم تعد لأصابعي قدرة على النطق، أفك كيس ذاكرتي المحتشد بك وأنثر طحينه حكاية!

 

لن يصبح خبزاً للقاء، ربما لم أخبرك لكني الآن أدوّن أنني رجل معطوب لا يصلح للحب والرومانسية. مازلت أحن إلى ألعابي الطينية، ما عاد الفم يلتهم شفتيك بجوع لقد فقدت شهية القبل ووضعت قلبي على مفترق درب، أو ربما نسيته على مائدة في حانة رخيصة، وربما فقدت معه سجائر حزني أيضاً. أطارد الناس علانية بابتسامتي اللقيطة، لم أخبر أحدا عن وحدتي، ولا العابرون اهتموا بي وأنا أنازع سكرات الموت، ولم تكتشفي أنك كنت تعانقين جثة.

 

أنا لم أكن أنا كنت طيفاً تعباً ملقى في أحضانك، لم يكن لي اسم، بل أنت اخترعتيه، فقد كانت  الشتائم البذيئة حقيقية، شتائم ككرة التنس نتقاذفها بمضرب الوقت. في النهاية تأكدنا أن أحدنا رضع من أثداء كلبة والآخر من حليب الأتان، تأكدنا أننا كنا رعاة بدائيون نضع الشتيمة في مقلاع ونرميها على بعضنا البعض، ونتلصص على أثرها كم نزفت وكم نزفت أنا! وكم حرسنا قطيع العادات...!

 

كلما عبرنا شارعنا معا ازدادت الهوة بيننا، حتى الحمام الصغير أصبح بحجم ملعب تنس، لم تعد تثيرني أردافك المكتنزة، لم يعد تثيرك قبلاتي اللاهثة! مَن وضع روح من في حذاء ضيق؟ بدأت أضحك كثيراً من کلمة (حب)، لم يعد لها مذاقاً، كما لو أنني أتجرع زق من العرق الحار في قيظ الصحراء، وقد تركني العيسو والحوذي لأراقب السراب. كل ما كان يعنيك نكهة التملك وعصا الغيرة الملوحة فوق رأس خطواتي، حينما فزت بك كورقة يا نصيب رابحة، لكن يا لخيبتي لقد فقدت الورقة وخسرت الجائزة.

 

لم يتدخل في الشرخ بيننا أحد من الآلهة إنما كانت شياطيننا، ما كان بيننا انتهى ببكاء ما بعده بكاء. قمصانك فقدت رائحتها وأنا كجثة فقدت الحواس كلها. بعد اليوم، لن ألوّح لأحد خلف نوافذ القطار، لقد شُلّت يدي، فالبرد والحر أيضاً سواء، الشارع والبيت سواء! وكل شيء عبث بعبث. أنا رجل يحتضر دون رغبة مني لرؤية وجهك للمرة الأخيرة وأودع كل هذا المقت قبل أن أغلق عينيَّ. لا يعنيني صدرك لألقي عليه رأسي المثقل بالويلات، فقد صرت أمقت أغانينا بعد كل هذه الهزائم، بنوبة غثيان واحدة استفرغت من داخلي كل الأحلام، وداعاً، ستكونين سعيدة بدوني وتغادرين ذاكرتك!!

تعديل المشاركة Reactions:
استودعني برحيل أصم

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة