حسين محمد علي
-
برمدا ... نهاية رجل مرتشي !
رجل من إدلب كردي الأصل من عائلة من المُلَّاك، كان ذات زمن جزءاً من صورة المشهد الإنساني للبلدة؛
وهو من قرية برمدا، عمل بالأصل في سلك الشرطة ) الجاندرما( ، لكنه سُرِّح من وظيفته في السلك؛ لسبب قد يبدو
تافهاً في حملة الفساد الذي تردّت فيه سورية ؛ لقد ضبط المسكين مرتشياً بليرة
واحدة ....
نعم ليرة واحدة !!!
وهذه الليرة اللعينة كانت سبباً في تغيير مصير أسرة بكاملها ؛ ولدان وبنتان ، ومن هول الصدمة والعار ظلّ مقيماً في البلدة، ولم يغادرها ولم يعد إلى قريته، لشعوره بالخزي والعار، كان رجلاً ضخم الهيكل بوجه تبغيّ صارم ، كأنما جُبِلَ من صخور جبل الزاوية، عمل في مهنة تصليح الدرّجات الهوائية والنارية ، وكان يملك إحدى الدرّاجات الناريّة الكبيرة يحمل عليها الركّاب المنقطعين ، ويوصلهم إلى قراهم بأجر حيث لم تكن السيارات كثيرة ، إضافة إلى ذلك كان مهووساً بصيد السمك من البحيرة ومن الفرات، أعتقد أنّه رحل إلى حلب بعد مكوثه في البلدة لأكثر من ثلاثين سنة .
▪ شيخ نور ... العباءة المرقّعة!
كان يقيم في ( كاني عربان ) ؛ وهو يمتُّ بصلة قرابة إلى ( مجحان آغا( ، رجل حطّ عليه كلّ بؤس هذا العالم، كنّا نراه في رحلاته اليومية إلى سوق البلدة وحواريها، يرمي على عاتقه عباءة حِيكت بكاملها من الرقع الملوّنة وقصاصات الأقمشة، يذكّرني بما آلت إليه الطرق الصوفيّة في الزمن العثماني إلى مجرد دروشة وزهد وطقوس غريبة واعتكاف وقطيعة مع الحياة، كان يمشي هادئاً متمتماً بالصلوات والأدعية، يحمل كشكوله وعصاه، ولكنه كان عفيفاً يرفض التسوّل أكثر من حاجته، فكان يقول : أعطوها لمن هم أكثر حاجة منّي ! يعود عصراً إلى بيته محملاً بقليل من الزاد كفاف يومه، كان يقال: إنّه صاحب كرامات يقضي الليل معتكفاً إلى جانب مزار مشته النور ، وقد شُوهد مراراً في خلواته في ذلك الجبل الموحش يرشف أضواء النجوم وحيداً!
▪ حافظي كور .. البصيرة اليقظى!
كان له حضوره رغم كفاف البصر، ضُرِب به المثل في قوة الحافظة والبصيرة اليقظة، كان يرى أكثر من كثير من المبصرين، يسير بعصاه في السوق المزدحم بكل بداهة ويسير دون أن يرتطم بشيء، حفظ تضاريس الشوارع عن ظهر قلب كما حفظ القران الكريم كاملاً، ولطالما كان أحياناً يدلّ الناس الغرباء على بيوت يقصدونها وسط دهشة الغريب الذي يتبعه ! كان الناس يداعبونه بحبّ وتقدير، ويعرف الناس من أصواتهم،
يردُّ التحية باسم مَن حيّاه، أذكر أنه كان يعمل في تطيين )
من الطين( بيته
كل خريف، فنراه يمتطي الحائط ، ويقرفص على السطح، يعمل بكل خفة ورشاقة، وفي يده أداة التلييس (ملاّ )، وفي تجوالاته كان يتحدث إلى الناس بكثير من الدعابة والطلاوة .
وللتنويه هذه الشخصية هي غير شخصية أخرى تحمل نفس الاسم، واُشتهر بأغنيته عن العساكر الأغرار الذين يُساقون إلى خدمة العلم .
أمّا شخصيتنا هذه فقد كانت رصينة
عارفة واعية، وبيت (حافظي كور) واحد من أقدم البيوت في شارع السراي ، وما زال يقيم فيه أحفاده.
وبالمناسبة فإن اسم ( حافظ ) كان يُطلق على كفيفي البصر احتراما ورعاية لمشاعرهم،
وقد أوتوا قوة البصيرة والحافظة الوقّادة، ممّا يذكّرني بقول لزرقاء اليمامة المبصّرة : يوجعني عمى البصيرة لا عمى البصر !
▪ أوسِب هرزو ... الملّيس والوكيل والمهرّب!
أوسِب صورة قاتمة للأرمن، عمل ملّيساً لدى الفرنسيين، الرجل العاتي الغشوم الذي عرفت قرى كوباني جبروته وعتوه، كان يطلب من القرويين ما لا يملكون ولا يستطيعون؛
تبنَ العدس والسلاح والحنطة، وإذا جاع يجب أن تكون الدجاجة التي تُقدّم له بالسمن العربي عذراء لم تكن قد باضت، ويشوي ظهور الفلاحين بالسياط إذا تأفّفوا .
مرة في غاراته الجهنمية داهم قرية ميناس ، ووزّع الأكياس لتُملأ بتبن العدس ، كان )
هيركو( المسحوق الواقف على باب
الله والناس مستلقياً مكبّاً على وجهه ، تقدّم منه أوسب الجبّار وأهوى عليه لبنة
من الطين )كلبيج ( ، انتفض المسكين من الألم فرأى أوسب
وبحركة ارتكاسية لطم أوسب على عينه، وأردفها بثانية على العين الأخرى ترنّح أوسب من هول الضربتين، واجتمع عليه رجال الدرك، هشّموه ضرباً وسحلاً، واستُدعِيت قوة كبيرة
للانتقام من قرية ميناس المتمردة، ولم تنتهِ معاناة القرية واستباحتها إلا بعد تدخل الآغا بصراوي .
عمل أوسب هرزو فيما بعد وكيلاً لملاّك أرمني في قرية ( أوخان و قينطر( وعاش فساداً كعادته، وحين عاد إلى البلدة أصبح أحد بارونات التهريب،
ومن حوله ( أحمد رشو ومحمد مسي كورو وأحمد صالح وجوجي سائقه اللعوب ووانيص بارسوميان) كان يُهرِّب كلّ شيء ؛ الشاي والدخـــان وورق السجائر والجواكيت والصداري والدحاحيل) الكرات
الزجاجية ، كورله ) ولو تمكّن من الاتّجار بالبشر لفعل !
عرفته مضارب الحجّيّات والكأس والراح والليالي الملاح مع ( يسرى وشاهة وزروك وشموس) نجوم الكبريهات المتنقلة في ذلك الزمان في تلك المضارب ، كانت تُهدر الأموال وتتفجّر في رهط أوسب فقاعـــات (التستسترون ) في خواء من الثعالب وبنات آوى وأغبرة الصيف، وهي تحمل كلمات الأغاني الشهيرة في ذلك الزمان للمطربة سميرة توفيق ... يا هلا بالضيف ... بالله صبو هالقهوة ... زيدوها هيل ... أبو عبدو ياغالي ... عنقو عنق الغزالي ...
وأبو عبدو المعروف بــ ( طوماز( ، كان غليظ قصرات الرقبة ممتلئاً حتى آخره ، وكان يقول معلقاً على تلك الكلمات : أن الحجّيّة كانت تمارس التدليس والكذب ، ولا تريد أن تفرّط بالقافية بين غالي وغزالي ، وتقولب ضيوفها وزبائنها جميعاً مع هذه القافية !
(أوسب هرزو) وصورته وكرباجه وحصانه الجامح أصبح اليوم قيد النسيان بموت الرجال الذين عرفوه، ولن يذكره أحد ولن يبقى إلا في هذه الأسطر التي رسمته فيها وفي نبوءة سوداوية كان أوسب يردّد كثيراً مقولة " Kȋ şemitȋ şewitȋ " : ؛ أي من انزلق احترق
، كاشفاً عن ضلالاته وهذا ما كان يردده أحد أساطين التهريب (
ويسو سينو ) متنبئاً بنهاية فاجعة في سجن النهاية !
وبعد .. وبعد أيتها الوجوه البعيدة في قربها والقريبة في بعدها ! ها أنا ذا أعيد تكوين ملامحك من جديد،
فاعتصر غيمَ ذاكرةٍ هاربة من اليباس ومن خرائط عالم مشغول عنا، أنا الملاحق بعذوبة ما كان من صور ومشاهد ووجوه،
ومتأهب للفيضان كالآبار الموعودة بالامتلاء لا لأفيض على التراب ولكن على أوراقي ، وقبل كل ذلك لكي لا يُتساءل: أين أخفيت كل هذه العذوبات وهذه المرارات يا حسين ؟!!