-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

من الأسلوب التصويري الوجداني إلى المأزق التعبيري الصوفي

    
    
                                                      ذ. بوزيان موساوي. وجدة المغرب


               قراءة في قصيدة ( على أجنحة الشوق ) للشاعر المغربي عزوز العيساوي:  

    تمهيد :

         لا يفوتني التذكير في مستهل هذه القراءة لقصيدة "على أجنحة الشوق" للشاعر المغربي عزوز العيساوي، بمسلمة معروفة مفادها كون الشاعر إبن بيئته سواء انخرط فيها، أو رفضها، أو انعزل، أو انسلخ، أو قاطع، أو تمرّد... و تختلف، و تتنوع، و تتعدد أساليب تعبيره، و بُنى نصوصه حسب إملاءات ظروف محيطه و مدى انفعاله معها، و حسب مناعته الفكرية، و الوجدانية و البدنية، و قدرته على التحمل و استيعاب الأحداث المتعلقة بحياته الخاصة و مجتمعه و مدى تأثره بها و تأثيره فيها.
فكلما كان عالم الشاعر بسيطا و مفهموما و مألوفا، و متناغما في استقراره، و في أزماته، أبدع بأساليب نمطية لا تتجاوز الانطباعية و التعبيرية.. و كلما تعقدت تركيبة محيطه و مجتمعه و ساد الغموض و الابهام، و تأثرت مناعته النفسية، و الوجدانية و الفكرية و العقائدية... ، تكون ردة فعله بعنوان الجنوح، و الجموح نحو عوالم اللامعقول، و التجريد اللامفهوم كعالمه. تجريد يمثل أعلى درجة من درجات الغموض والإبهام، يتجاوز الرومانسية التقليدية، ليتوه بالقارئ في غياهب فلسفة "العبث" أو "اللا معقول"، أو في الأبراج العاجية للمتصوفة..
و لنقترب أكثر من هذا الانتقال من الملموس بأساليبه التعبيرية الشعرية المتوارثة، إلى أساليب التجريد بآليات مبتكرة للتوازي، و التشبيه، و التشخيص، و المجاز، و الاستعارة، و الترميز، نقرأ هذا النص للشاعر عزوز العيساوي:                                             

   * على أجنحة الشوق *

"تسافر اليوم حروفي
على أجنحة الشوق.
سَكْرَى من عشق وحنين يتجدد.
تسافر معلنة أني أحبك.
أحبك يا امرأة أمضيت لأجلها
عقودا على باب الانتظار.
ياامرأة ترفض الحب بلون الغرور والاعتذار
أحبك ياامرأة جئتها أعْزَلَ إلا من هذا القلب.
في قلبي أنت تسكنين وبك يزيد النبض.
أحبك وقد كنت في آخر لائحة المعجبين بك
فصرت اليوم بعشقك الخالد الأول والأخير إلى الأبد.
ياامرأة تدرك أن أجمل الفواكه
فاكهة الخريف بعد نار شمس الصيف.
أحبك ياامرأة تعلم أن
السنديان كلما شاخ زاد ظله
وأن أجمل الفواكه عندي
فاكهة خريف نضجت على مهل
وقاومت جفاف العمر وحرَّ الصيف.
أحبك ياامرأة تنسج لي رداء عشقي في سكون الليل.
من كلمات وقصائد وصور.
من خيوط الحرير وأسلاك الذهب
وتلفني بين ذراعيها من روعة حب صار
عندي كالليل والنهار /كالماء والمطر /كالسمع والبصر.
أحبك ياامرأة تحمل في يمناها دفء الشمس
وفي اليسرى ضوء القمر
ليطول بنا الليل والنهار معا
فيدوم هذا الحب خالدا أزليا أبديا
وفي كل يوم يكبر ويتجدد
حتى آخر الأنفاس /حتى آخر العمر."

ديوان ( هوس السؤال )
1 ـ من الأسلوب التصويري إلى المأزق التعبيري:
1 ـ 1 ـ الأسلوب التصويري
نقرأ هذا المطلع:
"تسافر اليوم حروفي
على أجنحة الشوق.
سَكْرَى من عشق وحنين يتجدد.
تسافر معلنة أني أحبك.
أحبك يا امرأة أمضيت لأجلها
عقودا على باب الانتظار."

الزمن الماضي/ المكان: "عقود على باب الانتظار"، و زمن الفعل/ الحاضر/ القرار: "اليوم"، و الفعل/ الحدث: "تسافر"، و الفاعل/ المسافر/ حامل الرسالة: "حروفي"، و الفاعل/ الغائب/ العاشق/ الشاعر/ صاحب الرسالة: "أنا" ("تسافر معلنة أني أحبك")، و وسيلة السفر: "على أجنحة الشوق"، و حالة "المطية" / وسيلة السفر: "سكرى من عشق و حنين يتجدد"... سبعة أسطر قصيرة اختزلت بمهارة فائقة و بحس شاعر موهوب ما يسمى في الكتابة الدرامية المسرحية ب ـ "مشهد الاعتراف بالحب" ـ scène d’aveu ("تسافر معلنة أني أحبك") و اختار له الشاعرعزوز العيساوي حقلا معجميا و دلاليا ـ متداولا و بسيطا في ظاهره (سفر/ حروف/ أجنحة/ إمرأة/ عقود/ باب/ إنتظار..)، لكن بساطة المعجم سرعان ما تتبخر مورفولوجيا مع البنية التركيبية النحوية للجمل التي تجعل القارئ يرتطم مع انزياحات بلاغية، تُخرج الصورة الشعرية من إطارها البانورامي المعتاد، لتلج عالم التجريد.. إذ قد يتساءل أي قارئ:
ـ هل تسافر الحروف
 ـ هل للشوق أجنحة؟    
ـ هل تسكر الأجنحة؟      
ـ هل للانتظار باب؟
من هنا ننتقل مع الشاعر من الأسلوب التصويري الوجداني الانفعالي، إلى "المأزق التعبيري".
1 ـ 2 ـ المأزق التعبيري:
رغم غموض اللوحة في مطلع النص، لا يحس القارئ بغربة حقيقية في ثناياها لأن الشاعر لم يخرج، ظاهريا على الأقل، عن المألوف و المتداول أفقيا .. قد تحيل بالنسبة إليه ـ رغم الانزياحات الأسلوبية البلاغية المسكوت عن أبعادها الخفية في "سفر الحروف"، و "أجنحة الشوق"، و "باب الانتظار"ـ إلى مشهد معتاد في الشعر العربي القديم الذي تفننت بعض أغراضه في وصف السفر و الترحال باعتبار أن نمط العيش القبلي البدوي خصوصا في العصر الجاهلي كان يفترض السفر للتجارة (رحلة الشتاء و الصيف)، أو التنقل على نهج الرحل أو أنصاف الرحل.. مشهد معتاد كذلك حتى في الشعر الغربي، و الفرنسي منه بالخصوص، و لعلّ أجمل ما كُتب في هذا السياق: قصيدة شارل بودلير " دعوة للسفر" Invitation au voyage في ملكوت الشعر..
لكن سرعان ما يجد القارئ نفسه أمام "مأزق تعبيري" ـ كما ينعته صلاح فضل (أساليب الشعرية المعاصرة. ص. 41 ) ـ حقيقي لما يقرأ الفقرة التي تلي:
"يا امرأة ترفض الحب بلون الغرور والاعتذار
أحبك يا امرأة جئتها أعْزَلَ إلا من هذا القلب.
في قلبي أنت تسكنين وبك يزيد النبض.
أحبك وقد كنت في آخر لائحة المعجبين بك
فصرت اليوم بعشقك الخالد الأول والأخير إلى الأبد."
صيغ أسلوب النداء ("يا امرأة") ب"يا"، و هي حرف نداء للبعيد، بُعْد يُبرر السفر بالحرف (السفر شعرا) إلى الحبيب، و ب "امرأة"/ الحبيبة المفترضة، و هو منادى على شكل نكرة تبدو شكليا مقصودة.. لكن القارئ لا يعرف شيئا عن هذه المرأة سوى أنها " ترفض الحب بلون الغرور
والاعتذار".. إلى حدود هذا النداء الشبيه بالمناجاة الذي طعّمه الشاعر بأساليب التوكيد للاعتراف بالحب (تكرار فعل "أحبك" مرتين، و توظيف "قد" قبل الفعل الماضي "أحبك و قد كنت..."، لا نبتعد كثيرا عن الموروث التعبيري الوجداني عند الشعراء الرّمانسيين .. و قد يذهب البعض إلى القول بأننا أمام نفس نمطية نزار قباني (شاعر المرأة)، كما في الكثير من قصائده، و منها:
" أيا امرأة تمسك القلب بين يديها
سألتك بالله لا تتركيني .. لا تتركيني
فما أكون أنا إذا لم تكوني
أحبك جداً وجداً وجداً.".
هل هو تناص؟.. ربما، لكن الشاعر يجعلنا نتجاوز هذه النمطية لما يُموْقع نظرتنا بين زمنين:
ـ الماضي: "و قد كنت في آخر لائحة المعجبين بك"،
ـ الحاضر: "فصرت اليوم بعشقك.."
و الحاضر في المقطع يمتد إلى مستقبل لا نهاية له، إلى الخلود ("فصرت اليوم بعشقك الخالد الأول والأخير إلى الأبد)، و فكرة الحب الخالد هذه أسالت الكثير من حبر الفلاسفة ، و رجال الدين، و الشعراء منذ الأزل؛ يقول أرسطو إن الحبّ الّذي ينتهي ليس حُبّاً حقيقيّاً.. و الحبّ وكما وصفه سقراط شوق لامتناهي إلى الخلود.. و يقول المتصوف جلال الدين الرومي:
" العشق حياة خالدة... لا أخلى الله الحياة من العشق"..
و بين "كنتُ"، و "صرتُ"، يجد القارئ نفسه داخل مأزق التاويل: حالة "كنتُ في آخر لائحة المعجبين بك" تحيل على وضعية لا لُبس فيها دلاليا، و لا تحتاج للعديد من التاويلات؛ لكن حالة التحوّل عبر سفر مجازي "صرتُ"، تُذكرنا بالطقوس الصوفية ، لأن الصوفية هي صنف من أصناف الهجرة.. فالمتصوف يجيد فنّ النزوح صوب المتعاليات، من الأسفل إلى الأعلى، و من الرض نحو السماء.. يقول أبو العلا عفيفي:" التصوف كالفن لا وجود له بغير عاطفة جامحة"...و في سياق هذا النص، هو النزوح نحو الخلود ("فصرت اليوم بعشقك الخالد الأول والأخير إلى الأبد").. و الخلود هنا لا علاقة له بالمفهوم الديني العقائدي، حيث لا خلود إلا لله، و إنما شبيه بذاك الخلود الذي ميز عبر التاريخ الطويل قصص حب أسطورية تتحدى النسيان منذ عصور كأسطورة "روميو و جولييت" و غيرها...
و قد يتفهم القارئ المهتم بانزياحات اللغة الشعرية هذا التأثيث الفني للنص بأساليب بلاغية ليست في كليتها غريبة على الذائقة العربية، لكن هذا التّموقع بين زمنين: زمن الانتظار "في لائحة المعجبين"، و زمن الخلود، قد يجعل القارئ يستحضر مقولات دينية و فلسفية عن كون الحياة الدنيا مجرد محطة انتظار لأجل الخلود في نعيم، أو جحيم الآخرة... هذا ما يسميه الباحث صلاح فضل ـ "المأزق التعبيري" ـ و يقول عنه: "هو مجرد انتقال من أفق إلى آخر. و قد يكون في الأفق الجديد ما لا تقبله الذائقة.... و كأن القصيدة لا تقول قولا، بقدر ما تشير إلى وضع مأساوي بلغته الذات أولا، و أرغمت اللغة على حمل أعبائه فراغا، و صمتا، و تجريدا".... عالم إبداعي تتخلى فيه العبارات عن حسيتها، كما سنقرأ في ما يلي:
2 ـ تخلي العبارات عن حسيتها المعهودة للتعبير عن حقائق وجدانبية و فكرية مكنونة:
2 ـ 1 ـ نحو حقائق وجدانية مكنونة:
نقرأ:
"وتلفني بين ذراعيها من روعة حب صار
عندي كالليل والنهار /كالماء والمطر /كالسمع والبصر.
أحبك ياامرأة تحمل في يمناها دفء الشمس
وفي اليسرى ضوء القمر
ليطول بنا الليل والنهار معا
فيدوم هذا الحب خالدا أزليا أبديا
وفي كل يوم يكبر ويتجدد
حتى آخر الأنفاس /حتى آخر العمر."

الجلي من خلال هذا المقطع كون الشاعر يوهمنا و كانه عانق من جديد عناصر الطبيعة (الليل/ النهار، و الماء/ المطر، و الشمس/ القمر..) كما عند الشعراء الرمانسيين، لكن سرعان ما نصطدم بانزياح بلاغي من خلال أسلوب التشبيه يعيدنا إلى التجريد (المازق التعبيري) من جديد؛ فوجه الشّبه " من روعة حب صار" بين المشبّه "تلفّني بين ذراعيها"، و المشبّه به " كالليل والنهار /كالماء والمطر /كالسمع والبصر" هو من يحمل في دلالاته الغرابة: العناق عملية حسية ـ حركية ملموسة يمكن ملاحظتها بالعين المجردة..، و تأثير عناصر الطبيعة تشعر به الحواس، و كيفما كان هذا النوع من الإحساس مختلفا، إلا ان طبيعته مادية، نعيها و نستشعرها و نتفاعل معا، لكن أن يكون وجه الشبه إحساسا باطنيا و نفسيا و لا تعريف واضح و مادي محسوس ("من روعة حب صار")، فهذا هو قمة التجريد... لقد قلب الشاعر عزوز العيساوي المفاهيم المالوفة عند القارئ العادي، و كأنه يضفي صفة "العاقل الوحيد" بتشخيص بلاغي ضمني على إحساس مجرّد ("روعة حب")، و بتوظيف صورة عكسية تماما لمفعول عناصر الطبيعة، و كأن الإنسان هو الذي أصبح مشيئا.. أو على الأقل مجرد كائن مستلب...
و قد نذهب بعيد في تأويلنا بطرح فرضيات جديدة على شكل سؤالين سيبقيا معلقين:
ـ هل "روعة حب صار" في سياق هذا النص الشعري تحيل على تلك الصورة الرمزية للحب الخالد؟. ("فيدوم هذا الحب خالدا أزليا أبديا").
ـ ام أن هذا الخلود في حد ذاته نسبي و مؤقت و فان مرتبط بعمر المحب؟ ("حتى آخر الأنفاس /حتى آخر العمر.").
ـ هل هي مفارقة، أم ان "آخر العمر" بالنسبة للشاعر هو "الأبد" ("فيدوم هذا الحب خالدا أزليا أبديا")؟..
2 ـ 2 ـ نحو حقائق فكرية مكنونة:
من الشعراء من يعطي العنان لمشاعره فيبدع في التعبير عن خبايا الوجدان، و منهم من له نظرة رؤيوية فكرية، و منهم من يوفق بين الرسالتين كما الشاعر عزوز العيساوي، نقرأ:
" يا امرأة تدرك أن أجمل الفواكه
فاكهة الخريف بعد نار شمس الصيف.
أحبك يا امرأة تعلم أن
السنديان كلما شاخ زاد ظله
وأن أجمل الفواكه عندي
فاكهة خريف نضجت على مهل
وقاومت جفاف العمر وحرَّ الصيف."

قد يلاحظ القارئ العارف بآليات نظرية التلفظ أنه قبل هذا المقطع من القصيدة أن الفاعل الرئيس في الجملة، و القصيدة هو الحرف (" تسافر حروفي")، و كان القصيدة تصنع القصيدة؛ و حتى حضور الفاعل الثاني بضمير المتكلم "أنا" ("أحبك")، فهو حضور "من يبوح بعاطفة الحب" لكنه لا يفعل... و من غرائب التلاعب الفني بالإسم/ فاعل الجملة، فيتحول إلى "فاكهة الخريف"، و إلى "السنديان".. لبناء صور مجازية عن الحب و الشباب، و نسبية قياس عمر الحب بعدد السنوات، نقرأ:
" السنديان كلما شاخ زاد ظله
وأن أجمل الفواكه عندي
فاكهة خريف نضجت على مهل"...

و على طول النص، يمكن ملاحظة أمرين هامين:
أولهما التقلص المتزايد للأساليب التعبيرية، و الاكثار الواضح من الأساليب التجريدية..
و الأمر الثاني يكمن في اعتماد حقل معجمي و دلالي بعناوين السفر، و الشغف، و الذوبان، و الخلود..
و هما أمران يلمحان ـ كما عبر عن ذلك أحد النقاد في سياق مشابه ـ لعنصر ـ التغريب لذات الشاعرـ الذي يجد نفسه ربما في مواقف يصعب عليها إيجاد شيء من التجانس بينها و بين مبتغياتها. فهي ـ يضيف نفس الناقد ـ في خضم النفق الحياتي لا تجد متشبثا تتمسك به، فتنعم بقليل من التأمل و الرؤية الغارقة في الغياب..



تعديل المشاركة Reactions:
  من الأسلوب التصويري الوجداني إلى المأزق التعبيري الصوفي

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة