فاتن حمودي
المفكرد. أحمد برقاوي ( كوميديا الوجود الإنساني ) الطريق إلى الموت هو الذي يجعلنا نعيش كوميديا الحياة
" تتجلى كوميديا الجسد في مراقبة الذات لفنائها، للطريق الذي تسلكه نحو الموت، لتحولات الجسد أمام عينين تتحولان إلى ثقوب فاقدة بهاءها وجمالها، ليس الحديث جاريا حول الموت، بل حول الطريق إلى الموت، وعندي أن الطريق إلى الموت هو الذي يجعلنا نعيش كوميديا الحياة". ص55
أبدأ قراءتي الخاطفة لكتاب "كوميديا الوجود الإنساني"، هذا العنوان المفتوح على الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية، الذي جعل من مسرح الحياة مادة حقيقية للنص والتجربة، فما الذي دفع المفكر د.أحمد برقاوي إلى هذا العنوان الذي يفتح أمامنا الكثير من الأسئلة، عن ماهية الكوميديا، وعن نقاط اللقاء مع التراجيديا، و التوقف عند مسائل الوجود كماهية مرتبطة بالإنسان، فهل الوجود الإنساني ورحلة الحياة عبارة عن كوميديا؟ وأي نوع من الكوميديا هي؟
في هذه القراءة أركز على مقولة "لانهائية معنى الكوميديا" أي على مبدأ "الاختلاف"، طالما أن العنوان يحيلنا إلى الشعر والفكر والفلسفة، ويعيدنا إلى العمق البعيد لماهية الكوميديا التي لاتنفصل في لحظتها الوجودية عن التراجيديا في أوج حضورها الإنساني......
العنوان وحده بحث مفتوح على الفلسفة والوجود، والعمق الحقيقي لمعنى الكوميديا، وفي سؤال الماهية ندرك أن الأغريق لم يميزوا بين شخوص الكوميديا وشخوص التراجيديا، كما لم تكن الغاية من الكوميديا دائما مجرد إثارة الضحك، ولم يكن في مراحل لاحقة هذا المفهوم للكوميديا من أجل الخفة أو إثارة الضحك، بل كان يحمل عمق السؤال الوجودي، وربما سيرة ذاتية حقيقية لتنامي الكوميديا، كفن وأدب وطبيعة فكر.
يبدو أن فيلسوف الأنا الدكتور أحمد برقاوي، أراد أن يمضي في هذا الكتاب نحو ما يقارب الحياة من حيث الموضوعات والحكايات، وما يمسنا من قضايا،يقول:" الأنا هي التي تمنح الوجود معناه الإنساني، فالزمان هو زماني الإنساني، زمان ماضي أنا وحاضري، حاضري أنا ومستقبلي مستقبلي أنا، ودون هذا لا ماهية للأنا"..
تناول في "كوميديا الوجود الإنساني"، كوميديا البدء، وكوميديا الجسد، والألم والرقص، وأسطورة الفصل بين الجسد والروح، .متعمقا في مفهوم اللذة، والمتع المتنوعة، كاشفا عن معنى الألم النفسي،وشذراته التي تشكل تكثيفا عاليا للحظة فلسفية وشعرية معا..
من خلال تجربته الخاصة، يحكي عن اكتشاف الكوميديا، يقول:"في يوم ميلادي العشرين كتبت مقطوعة لم أدر أكانت نثرا هي أم شعرا، سخرت فيها بالمحتفلين بيوم الميلاد بوصفه عيدا، وأذكر أني كتبت، اي غباء هذا هو الغباء البشري، أيحتفل إنسان بفقدان جزء من وجوده في الزمان، إم إكتشافي كوميديا الوجود عبر أكتشافي تناقص وجودي مع الزمان، وأن الزمان يقضمني رويدا رويدا".225
ورغم النهايات الماساوية أحيانا، والتي تنحو نحو التراجيديا، إلا أنه يتوقف عند فرح البدايات وكوميديا النهايات، هذا التوقف يعيدنا إلى وهج الروح في عزها، وفي الوقت نفسه يذكرنا بشعر درويش الذي حفظناه عن ظهر حب،" لماذا الفرح بالبدايات؟ لأن البداية مشروع، والمشروع امل وحلم، لأن الأمل والحلم يمنحان الإنسان فاعلية، البداية هي المستقبل، البدايات تحررك من العالم الرتيب وتشعرك بأنك ذاهب إلى عالم جديد". 215
هذا يعيدنا إلى لحظة شعرية توقف عندها الشاعر محمود درويش حين قال:"
لا أُريدُ منَ الْحُبِّ غَيْرَ الْبدَايَةِ، يَرْفو الحَمَامُ
فوْقَ ساَحَاتِ غَرْنَاطَتِي ثَوْبَ هَذَا النَّهارْ
أول الحب، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط ناي، وخوف
الغزاة من الذكرياتْ.
على هذه الأرض سيدة
الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارتْ
تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة".
إذا كانت الكوميديا الإلهية بطلها دانتي، فإن كوميديا الوجود الإنساني بطلها المفكر والفيلسوف أحمد برقاوي، الذي مضى معمقا ومرسخا خطابه الفلسفي حول الأنا، منتقلا من الأنا المجرد إلى ظهوره بوصفه وجودًا إنسانيًا
""في اكتشاف كوميديا الوجود الإنساني يكتشف الإنسان وجوده كما يجب أن يكون ..وتغدو الذات عزيزة ومعتدة بذاتها إذ لاشيءيجبرها على إراقة ماء الوجه...لاشيء يستحق العيش في كنف النذالة من اجل شيء سيغدو ماضيا" 226
فرح البدايات وكوميديا النهايات
نهاية الفرح العظيم تراجيديا من نوع غير مالوف، ان البطل يموت وهو حي 218
موت البطل حيا خليط عجيب وغريب من مأساة وملهاة اجتمعتا لتقدما لنا صورة لفرح البدايات وحزن النهايات
"إن اسطع مظاهر الكوميديا الإنساني هي كوميديا النهايات وبخاصة نهايات الأقوياء حين يتحولون إلى ضعفاء".223
الكوميديا من خلال الأنا ..من خلال الزمان..."يجب ان يبقى الإنسان مؤلفا للكوميديا حتى يقع على خشبة المسرح صريعا"..225
في هذا العمل نبصر الابتسامة الساخرة، والتي تكون بمنأى عن فكاهة الكوميديا، فهل ترانا نبتسم ولو مجرد ابتسام للمفارقات الفاجعة، هو ما نلمسه ونسمع صوته، حين يقترب برقاوي من الجسد- الكوميديا المحزنة، هذا النص الذي يأخذنا إلى الخيام"لبست ثوب العيش لم استشر"، وصيرورة تحولات الجسد من الولادة وحتى الموت،
ويقترب هنا من واقع نعيشه، حين يحكي عن استغلال الإنسان للجسد بشكل بشع، حين يجعله يتألم، أوموضوعا للأنتقام وتفريغ الأحقاد"كل قوة تمارس إحداث الألم سلطة لاقلب لها أصلا، وإذا ما تأملت تاريخ التعذيب لوجدت العجب العجاب من قدرة الإنسان على إحداث أشد الآلام لجسد حي يئن، من ضرب الأجساد الغضة للأطفال إلى اقتلاع الأظافر وحتى إحراق الجسد، لقد كانت السجون والأقبية المكان الأثير لدى ساديّ السلطة لممارسة التعذيب". 54
ولأن الجسد هو القطب الحقيقي للوجود الإنساني، فإن كوميديا الجسد تتجلى في مراقبة الذات لفنائها،" الطريق إلى الموت هو الذي يجعلنا نعيش كوميديا الحياة"55
هذا الكلام يعيدني إلى كتاب عالم المعرفة (23)، وما قاله جروتجان عن الكوميديا:" إن المهرج هو ما تنطوي عليه الحياة من حزن، فإذا كان ذا قامة مأساوية، وعظمة حقة، أنتهى به الأمر أن يمثل لنا الموت، وهذه هي النقطة التي تلتقي عندها التراجيديا مع الكوميديا فيكونان رمز الحياة الإنسانية"
يدفعني "تراجيديا الوجود الإنساني" لإستعادة الروائي الفرنسي بلزاك فيالكوميديا الإنسانية، والتي ا‘عتبرها بمثابة الف ليلة وليلة في رسالته الشهيرة إلى السيدة هانسكا، في أكتوبر/تشرين الأول 1834 واصفاً للمرة الأولى التصميم العام لهذا العمل الأدبي. هذه المقارنة تبيّن تأثير القصة الشرقية في كتابات بلزاك، بما تحمل من شهوانية، وبالبعد الفلسفي الذي تنطوي عليه، كما تعلن عن أهمية الطابع الشامل للعمل الأدبي المذكور الذي خُصّص للوصف الكامل للإنسان والمجتمع، والتي تعكس الجدلية بين الحضارات من خلال الوجود الإنساني .
والبرقاوي أعادني إلى جحيم دانتي ، في الكوميديا الإلهية، والتي تعد من أهم وأبرز الملحمات الشعرية في الأدب الإيطالي، والتي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، والجنة، يقول دانتي "إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم"، فالمدانون في الجحيم هم أولئك الذين فقدوا القدرة على التفكير والإدراك والفهم. وهو عندما ينظر إلى أعماق الإنسان يرى أن قلبه يتآكله الحسد والبخل والطمع .
. وعند شكسبير، اقترنت الكوميديا بالفاجعة، إقحام الضحك لحظة الكشف التراجيدي، السخرية البدئية التي تجري على لسان البهلول في مسرحية الملك لير، وهنا تستوقفنا الإبتسامة الساخرة والتي تكون بمنأى عن فكاهة الكوميديا، فهل ترانا نبتسم ولو مجرد ابتسام للمفارقات الفاجعة في مأساة أوديب.
ومما لاشك فيه فإن . شكسبير و موليير يعدان من بين المشاهير الذين كتبوا عروضاً كوميدية، تلتقي مع اللحظة التراجيديا للوجود الإنساني
. وتعتبر رواية «الشرط الانساني» لأندريه مالرو، صورة للأفراد وهم يجابهون التاريخ بكل قسوته، كما يجابهون الأجهزة العسكرية والسياسية في الآن نفسه، كل هذا التداعي، دفعني إليه ما يطرحه برقاوي، في "كوميديا الوجود الإنساني"،
والذي ينطلق فيه من من خطاب الأنا الفلسفي، يقدم نماذج وحكايات، للأنا، الأنا السوي والأنا اللاسوي، الأنا الوضيع والأنا النبيل وانشطارات الأنا، والأنا ونفي الآخر، والأنا وأيديولوجيا القتل، والموت، والحنين والاغتراب، والوجود الهزلي، والأنا واللعب، ووعي الوعي؛ وعي البداية والنهاية، خطر النسبية المطلقة، متسائلا من ذا باستطاعته أن يتصور الحياة بلا مفكر وشاعر وروائي ومسرحي.
ومما لاشك فيه، فإن المفكر والفيلسوف والشاعر د.أحمد برقاوي، يقدم نظرة تتسم بالسخرية من الوجود الإنساني، يكشف عن المعنى العميق لمفهوم العقل في كلّ حالاته التراجيدية والكوميدية، وعن معنى الحب، وعن تلك النهايات التي تولد مع الإنسان منذ الصرخة الأولى..يطرح سؤالا وجوديا جديدا.. في زمن ما عادت فيه التراجيديا و لا الكوميديا تؤديان نفس الوظائف كما في المسرح الاغريقي العتيق.. سؤال ابيستيمولوجي جديد.. غاب عنه فلاسفة المشاريع النسقية الفلسفية بعيد موت الايديولوجيات........
كوميديا الوجود الإنسان
تأليف الدكتور أحمد برقاوي
دار كتاب للنشر والتوزيع ط أولى 2018