-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رصيف الألم وحقيبة الذاكرة


عبدو أحمد



برفقٍ شديد وضع حقيبته المهترئة على المقعد المغبر الموازي لرصيف بال، سجلت ذاكرته الكهلة مقاسات العديد من أقدام المسرعين نحو الحلم أو المنهمكين من وطأة الواقع.

كان يعامل حقيبته برفقٍ شديد، وكأنها كائن بشري، لعلّ ما ذاقه من قسوة الحياة ومرارتها قد خلفت في فؤاده ردّة فعل عكسية، فأصبح رقيق القلب على الرغم من مظهره الخشن وملامحه الجبلية، فوجهه كلوحة ألم تفنّن برسمها أبرع الرسّامين، كتفاه عريضتان، وكأن أثقال القدر قد كان لها دوراً في هذا العرض الصامت المخزن لآلاف آهات التعب والعذاب عميقاً عميقاً في قعر عظامه،ك عادته أخرج من الحقيبة شرابه المفضّل، وتناوله حارّاً، فكان لاذعاً، لكنه تعوّد على تلك اللذوعة منذُ أن كان صغيراً.

وضع بجوارها تلك الصورة القديمة لفتاة جبلية الملامح، بالرغم من أن الصورة قد اهترأت، لكنه كان يتلمّس في تفاصيلها كلّ الحبّ والكثير الكثير من الذكريات،ت تلك الصورة التي تحمل الكثير من أماني الصبا، بالرغم من عوامل الزمن التي جعلت منها بالية، لها انعكاس في صميم فؤاده، تماماً كما لو أن صاحبتها لازالت تهرول إليه كلّ ربيع في طريق مليء بورود النرجس، لكن الرصاص هذه المرّة كان أسرع من الربيع، فكان القنّاص المتمركز على التلة التي كانت عادة ما يجتمعون هناك، ويغرّدون أجمل ألحان الحبّ، كان القنّاص قد ترك الخيار – لآخر رصاصة في آخر دقيقة لمناوبته – بأن تصطاد مَن تشاء، وكأن الموت – المتمثل برصاصة مجنونة – قد كان شاعراً، فاختار الفتاة ذات الثمانية عشر عاماً، ذات الشعر الأسود والخدود الوردية، وما إن اخترقت الرصاصة قلبها حتى تلوّن النرجس بالأحمر النقي؛ لتشكّل منها لوحة ألم على وجه الطبيعة وقصيدة حزن تنشدها العصافير، ففي الحروب تموت الورود قبل موسمها.

منذ ذلك اليوم، وهو يتخذ من هذا المقعد العتيق مكاناً؛ ليجتمع مع حبيبته الصغيرة عبر صورة مهترئة كجسدها الذي نال منه القبر، فيخرج من جيب سترته الرثّة - التي كانت ذات يوم هدية من حبيبته - يخرج علبة السجائر الرخيصة يدخن سيجارة، ويسترجع شريط الذكريات في خياله، ثم يطفئها في راحة يده بهدوء قاتل، يضع الصورة المهترئة قرب زجاجة شرابه الحار، ثم يخرج ورقة بيضاء وقلم رصاص ويكتب:
-        لقد سرق الحرّ نكهة شرابي، والحرب سرقت حبّ حياتي، لكن ما من قوة أو اتفاقية سياسية مشؤومة تمنعني من رسم خريطة بلادي.

وبأناملٍ ترتعش، بدأ يرسم خريطة كوردستان جبلاً جبل، نهراً نهر من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، ولكي يسخر من اتفاقياتهم التي رسمت الحدود بين القلب والعين والرئتين، بدأ برسم تلك الحدود الشائكة المرسومة في خرائطهم اللعينة وبممحاة القلم أزالها جميعاً، وقهقه عالياً، ثم صرخ «تباً لكم سأبقى غصباً عنكم»، ثم وضع الخريطة جانب صورة حبيبته، تناول شرابه، وأشعل سيجارته، حينها كانت ملامح الفجر قد ابتدت.

لقد كانت الرابعة فجراً بتوقيت الوطن الواحد الأوحد.


تعديل المشاركة Reactions:
رصيف الألم وحقيبة الذاكرة

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة