-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

لا حبر هنا... أسماء من لحم ودم! «الشهادة الأولى»



جان بابيير / خاص سبا


... رؤية مانو لهيمن وهي تكزُّ على أسنانها، وتلطم صدرها، وتنتف شعرها اجتثّت قلبه من صدره، لفظته السعادة كما طُرد آدم من الجنّة، وأقام في زنزانته. بعد المذبحة ساءت حالته كثيراً، وكانت الهجرة أقلّ ضراوة من ليلة المذبحة، ومزّقت روحه، نظر إلى وجهه من خلال المرآة، شعر بأنّه غريبٌ عن نفسه، طالت لحيته وازداد الشيب في رأسه، كأنّه كبر دفعة واحدة، وقد تهدّل شعره الأجعد فوق عينيه، هو في الأساس طويلٌ ونحيفٌ، لكنّه بدا أكثر نحافة من قبل، بسرعة مسّد على بطنه وعصره دون أن يرفع رأسه وكزّ بأسنانه متألّماً قائلاً:
-         قوارض تتغلغل في أحشائي، انكسرت من الداخل كزجاج النوافذ في القصف، لقد انهارت جدراني الداخليّة.
وجلس متهالكاً على نفسه يحضن ألمه، وتمتمَ بينه وبين نفسه:
-         لن يجيب أحد عن هذا السؤال: مَن قام بالمذبحة؟ ولماذا؟ أين هم الجناة؟ أمّا الضحايا فأعرفهم.

هؤلاء الذين سوف أسرد موتهم جزء من قصّة كاملة ناقصة الأركان من الجناة وتامّة بالموت، خلعت المدينة روحها، واتّشحت بالسواد واكفهرّ وجهها، لم تكن تريد رؤية هؤلاء الوحوش وهم يدنّسونها، حتّى النجوم كانت ترسل أضواء حزينة.

قبل قدوم مانو وهيمن بيومين قدمت عائلة بوزان كنجو من تركيا؛ بوزان وزوجته سميرة وابنه مهران وابنته يارين ذات الاثنين والعشرين عاماً، كانوا قد قدموا من ميرسين، حسب الأخبار التي وصلت إليهم كان الوضع مطمئناً. جاء ليفتح من جديد محلّ الصاغة الخاصّ به ويرمّمه من جديد بعد أن طاله القصف، ناموا مثل كلّ الكوبانيّين، كالمعتاد مثل كلّ ليلة، لم يخطر ببال الكوبانيّين أيّ شيء في تلك الليلة.

أمّا في فجرذلك اليوم فلم يسمع أحد أصوات الديكة؛ لأنّ لعلعة الرصاص كانت أعلى وغطّت على كلّ شيء،اشتدّ صوت الطلقات، انتفضت قلوبهمفي المنزل، ذهب بوزان، ونظر في النافذة، وعاد قائلاً لزوجته:
-         إنّهم يقتلون الجميع.
دقّ قلب سميرة، وهي تسأل صباح كوباني، الذي يثرثر مع الطلقات: ماذا يحدث؟ وإلى الآن لا أحد يجيبها على سؤالها، مَن قام بالمذبحة؟ هناك أسئلة لا أجوبة لها، خلال رشقة رصاص أخرى، النبض يتسارع في القلوب، بيتهم ذو الطابقين والمدخلين؛ أحدهما في جهة الشرق والآخر في جهة الغرب، بيتهم الواقع بالقرب من ساحة الإكسبريس. في ليلة المذبحة، وفي الساعة الرابعة صباحاً سمعوا صوت الرصاص، ومن خلال النافذة نظر بوزان فشاهد مجموعة من الملثّمين يقفون في الشوارع وهم يقتلون الناس،كانوا يرتدون أزياء قوات الحماية الشعبيّة، ومازال بوزان في حيرة من أمره، فآثر البقاء في النافذة ليستفهم عمّا يجري؟ مرّت درّاجة ناريّة أطلقت عليه النار، بعد أن سقط على الأرض كانت ما تزال عجلة الدرّاجة الخلفيّة تدور بالقرب منه، جاء أحد الملثّمين وركله، ليتأكّد من موته، ثم فتّش ثيابه وأخرج شيئاً ما من جيبه، مرّ شخص آخر فرموه ببنادقهم أرضاً، في هذا الوقت خرجت عائلة من نفس الشارع الذي تسكنه عائلة بوزان من الجهة التي تقابلهم فأمرهم أحد المسلّحين بحركة من يده بالعودة إلى داخل منزلهم دون أن يتعرّضوا لهم.

مازال بوزان يراقب من النافدة دون أن يراه أحد من الملثّمين، انتابه القلق، تغيّرت ملامحه، نظر خلفه مرّة، ثم حدّق ثانية من خلال النافذة إلى الخارج. ارتدى في ذلك اليوم المشؤوم العجوز عرزا موته، وهو أيضاً من قرية سوسان ومن أبناء عمومة بوزان، ويبلغ من العمر خمسة وثمانين عاماً، كان قد خرج باكراً قبيل طلوع الشمس، وهو يحثّ خطاه الهادئة المتأنّية متوجّهاً إلى بعض أعماله، وما إن وصل إلى ساحة إكسبريس، حتى استوقفه مسلّحو الغدر ورموه بعدّة طلقات.

بدأ الرجل بالصراخ، وطلب النجدة، فجسده الهزيل وعمره الكبير لا يحتملان الجروح، وظل صدى صوته يصدح في آذان كلّ الجيران المحاصرين ساعات طويلة، فتمنّى له بوزان في داخله الموت، كان أنيناً مؤلماً وصراخاً قاسياً وصل إلى أبعد بيت في الحيّ...!! حتى سنين عمره الكثيرة لم تشفع له وهو يستغيث طالباً:
-         أريد دمعة ماء لأرتوي، أو رصاصة لتنهي ألمي!

كان أحد المسلّحين يهيم بإشعال سيجارته، ثمّ نبّهه الآخر مؤشّراً إلى لثامه لكيلا تعرف ملامحه، فضحك بصوت عالٍ، وأعاد السيجارة إلى علبة الدخان، كان طويلاً ونحيفاً متمنطقاً بندقيّة روسيّة، ولم يكن يظهر من ملامحه شيء سوى عينيه، كانوا بالقرب منه، ولم يطلقوا عليه رصاصة الرحمة، كأنّهم كانوا يسخرون من كلّ الشرائع ويقولون: أيّ ترس سوف يحميكم اليوم من سيوفنا وخناجرنا؟ ولم يكن أحد يعلم أنّهم أطلقوا عليه الرصاص في مواضع عدّة غير مميتة من جسده؛ ليجعلوه يتألّم أطول فترة ممكنة ليستلذّوا بساديّتهم ويشبعوا غريزتهم، ثمّ رموه في حفرة قريبة ليموت نزفا!!

قال صاحب السيجارة موجّهاً يده نحو الحفرة التي يرقد فيها عزرا:
-         هذا هو قبرك، أليس واسعاً؟
حينما شاهد بوزان كلّ ذلك وهو عاجز عن تقديم يد العون، عاد إلى زوجته وابنته وبعجلة خاطبهما:
-         تعالي أنت ويارين!
وتعاونوا على سحب الثلّاجة في المطبخ عن الجدار قليلاً، ووضع زوجته وابنته خلفها؛ لكي يخفيهما ويسترهما ثم قال:
-         أنا لن أخفي نفسي حتّى يعلموا أنّ البيت مسكون.
ثم وجّه كلامه لابنه مهران:
-         اذهب خارجاً، اصعد إلى السطح!
من خلف باب الثلّاجة نادته زوجته:
-         استيقظت باكرة، وكنت على البلكون، شاهدت شهباً كثيرة سقطت من السماء.
ردّ عليها بوزان:
-         لقد تراءى لك ذلك.
لكيلا يشعرها بالخوف أكثر، ثم أعادت سؤالها:
-         ما بال السماء تسقط النجوم؟
بينما كانت يارين ملتصقة بأمها مرعوبة، وهي تتمسّك بالجدار الوحيد أمّها، طُرق على الباب وبصوت كرديّ كحليب الأم نادى أحدهم:
-         افتحوا الباب! لا تخافوا! نحن هنا من أجل حمايتكم.
ما إن دخلوا – وكان بوزان ينتظرهم على الدرج – حتّى صعدت مجموعة من الملثّمين كانوا يخفون وجوههم القبيحة وأعمالهم الشنيعة خلف اللثام. خاطبه أحدهم باللهجة الكوبانيّة:
-         أنتم كفرة وعملاء!!
فردّ عليهم بوزان:
-         بل أنتم العملاء والخونة!! كيف تقتلون الناس في الشوارع؟ ألا تخافون الله؟
فيرمونه بالرصاص أوّلاً في صدره، فينادي بصوت فيه حشرجة:
-         لقد قتلوني ابني مهران.

كانوا في مواجهات على تخوم القرف، لكن هذه الحقائق مثقلة بضريبة الوجود في مشهد عبثيّ يطال كرامة الإنسان، الخوف الذي امتلك كلّ كيان يارين التي استحالت إلى جزء من الجدار، وهي تحتمي بأمّها كما كانت يوماً تلتصق بمشيمتها مطالبة بحقّها في العيش، كان عليه حسبما خطّط مسبقاً ألّا يخبر أحداً أنّه هناك أشخاص آخرون في المنزل، لكن الألم أفلت من لسانه اسم مهران، انتبه إلى نفسه "ما كان يجب أن أذكر اسم ابني" لقد فات الأوان، وندم لزلّة لسانه.

ومن ثم رموه ثانية بطلقة أخرى وبدم بارد، دم القاتل، فيرأسه مباشرة، فتطاير الدم وجزء من دماغ رأسه على زوجته وابنته فسقط أرضاً على ظهره.
أحدهم أمر الملثّم الأقرب إلى بوزان بلهجة كرديّة صافية وأمر ضبابيّ:
-         أجهز عليه!
فردّ عليه:
-         لقد شبع موتاً!

كان الموت في ذلك الصباح يتحدّث بلغة كرديّة، كانت جراحه عميقة وكبيرة وأوسع وأعمق من مساحة الإصابة في جراح بوزان وأكبر من كوباني، تنفّست يارين بصعوبة وهي مذعورة، رويداً رويداً غادرت الصور خياله المذعور واختفت، لكن مازالت عيناه مفتوحتين تحدّقان في الفراغ وتحتقظان بصور القتلة في بؤبؤيهما.

بعد سماعه من على السطح أصوات الطلقات داخل المنزل والجلبة التي أحدثوها، نزل مهران مرتبكاً وغاضباً وفقد صوابه حينما شاهد هؤلاء القتلة يرتدون ثياب "YPG" فاشتبك معهم بالأيدي وكان يحمل في يده قدراً، فضرب أحدهم على رأسه ممّا أفقده رشده، وأحدث جرحاً عميقاً في جبهته، وظهر أثر الدم على أسفل القدر ووجّه كلامه لهم:
-         من أثداء أيّ كلبة شربتم حليبها المسعور؟

وحينها انشغلوا بقتل مهران، فوجدت أمّه وأخته أنّ الفرصة سانحة، ومن خوفهما من الموت الذي يلقي بظلاله عليهما هربتا من البلكون وقفزتا إلى بيت الجيران، ووصلتا إلى بيت عصمت حسكه وزير الدفاع في الكانتون، ومن هناك هربت يارين وأمّها من المدخل الآخر إلى أحد بيت الجيران فخرجت مجموعة من الرجال ببنادقهم لتؤازرهما، واشتبكوا مع الملثّمين، وبذلك تمّ إنقاذهما من براثن الموت المحتّم. وبعد مضي ساعات عادت يارين ثانية إلى البيت، لتأخذ أموالها والذهب، لكنّها وجدت أنّ ذهبَ محلّ الصاغة مسروق بأكمله ووالدها وأخوها مقتولان يسبحان في دمائهما، فقامت بتغطيتهما بالحرامات وجلبت جواز سفرها وجواز سفر والدتها، في هذه الأوقات كانت ابنتهم مجدولين محاصرة في بيتها القريب من الحديقة بعد سماعها صوت الطلقات القادمة من منزل والديها، لم يقبلوا أن يدفنوهم في مقبرة كوباني، بل في سوسان قريتهم. هذا ما حدّثتني به يارين ابنتهم، أيّ سفالة تحطّ من الإنسان لينزل إلى الدرك الأسفل من الانحطاط؟؟



من رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك»
يتبع...
تعديل المشاركة Reactions:
لا حبر هنا... أسماء من لحم ودم! «الشهادة الأولى»

kaya heci

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة