-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

انتظار أخرس



أميرة مصطفى / خاص سبا





في أقصى الجنوب الشرقي من مدينتنا المنسية، في ذاك الشارع المُفضي إلى الغابة، ترقد امرأة في الواحدة والخمسين من عمرها، في بيت طيني فقير، تسكنه هي وأولادها الأربعة، أو كانوا هكذا.

دِيلان الجميلة، الابنة الوحيدة بين ثلاثة شباب، وقد تزوّجت وهي لم تكمل أعوامها الأربعة عشر؛ لسوء أحوالهم المادية، وسافرت مع زوجها إلى بلاد ما وراء البحار.

فرمان، الابن الأوسط، لقي حتفه في أواخر الشهر الماضي برصاصة مجهولة، عندما كان عائداً من العمل ولم يكن يتعدّى من العمر تسعة عشر ربيعاً وسنبلة، أما هَاوار، ابنها الأصغر مازال الشكّ ينقر عقارب ساعته، لا يصدّق أن أخاه الذي يكبره بربيع ودمعة قد فارق الحياة، فلا يزال يحلُّ عليه ضيفاً في كل ليلةٍ يخبره:
-         أنا هنا إذا أردت أن تحضنني، فقط أطرق أبواب الليل، وابحث عني بين النجوم، ستجد نجمة مشعّة هي أنا ألوّح لك بيديَّ...
أنا الذي خبزت روحي رغيفاً ساخناً، وأطعمته للموت، لعله يكتفي لبرهة، ولكنه دائم الشراهة، حتى أنني بكيت في تلك الليلة نيابة عنكم جميعاً وعن أمي التي أعرف جيداً أن مواسم الورد سيجفّ على خدّيها الورديتين، وأن الحياة ستذبل في حدقتيها للأبد...
آآآآه يا أمّاه! لا تذرفي دمعاً، وأشفقي على طفلك من الغرق في قبره، فقط ضعي يدك على قلبك ونادي بهدوء «فرماااانووو»، وسأسمع صوتك المبحوح المعلّق في هاوية الفقد، وآتيكِ بخطى الشوق ونتعانق، أما أبي الذي لم أره كثيراً، بسبب انشغاله الدائم ليعيلنا، فأخبريه إنني كنت دائم الاشتياق له، ولا زلت.

فتح هَاوار عينيه، وصدى الخيبة يملأ الغرفة، وفراغ مخيف ونور وجه فرمان يشعّ من عينيه اللوزيتين، أتراه كان حلماً أم حقيقة؟ وفجأة يسمع باب غرفته يفتح ويدخل أخاه برخدان، بكر والديه، وعندما قرأ الدهشة والخيبة في عيني هَاوار سأله «ما بك؟»، أخبره عن زيارة فرمان، وعن كل الحديث الذي جرى بينهما، وأجهش بالبكاء.

نظر برخدان إليه من خلال الدموع وقال له:
-         الأجدر بنا أن نبحث عن قاتله، قبل أن يجفّ تراب قبره، ولا نحلم فقط.
-         أين؟ وكيف سنجد قاتله ولم يره أحد؟
-         لا أعلم... كل ما أعرفه أن روحه لن ترتاح، وستظلّ تحوم أرجاء البيت الذي لا تزال رائحته عالقة بكل زاوية، وفي كل وردة، وفي دمنا وملحنا وجراحنا، ومن شعر أمي عندما تقف على عتبة الباب وتنادي: «فرمااااان أين أنت؟ تعال فقد طبخت لك طبختك المفضّلة...، تعال قبل أن تبرد فأنت تحبّها ساخنة، وإن بردت اعلم أنك تشاجرت مع أحد إخوتك، وستتناولها عندما تهدأ، هيا يا بني، حلّ على أمك فجأة، ولا تجعل الخذلان ثالثنا، فأنت ولد حنون، فلا تجعل أمك تنتظر كثيراً، ووالدك الذي منذ رحيلك وهو طريح الفراش ينتظرك في اللامكان وخارج أسوار الزمن».

فرمان... وجع أَمه الأخرس، وداء الذي أصاب أباه، وغصّة في صدر إخوته، رحل دون عودة، ومازال بيتها الطيني يروي للمارّة لماذا فرمان لن يعود؟

الاسمبريد إلكترونيرسالة