مصطفى تاج الدين الموسى
أحياناً،
ثمَّةَ أسئلةٌ غريبة تتجوَّل في عقل هذا الكائن البشري، الذي هو أنا، ولا أعثرُ
لها على إجابة، ولا أفهمُ لماذا عقلي مختصّ باختراع الأسئلة الغريبة؟
هذه
الليلة، وبعد كأسين من الخمر في خمَّارة على ضفَّة البوسفور بدأتُ أتساءل في سرّي:
ما هي العلاقةُ بين الحارات العتيقة في دمشق القديمة، وبين نهدين ممتلئين وشهيّين
لامرأة جميلة؟ أنا متأكد، يوجد علاقة بينهما، لكني لم أعرف الآن ما هي، وأنا
أتجرَّع كؤوسَ الخمر.
بعد
منتصف الليل عندما خرجتُ من الخمّارة ومشيتُ قليلاً وأنا أجرُّ رجليّ وأترنّح
متعباً، اكتشفتُ أنني نسيتُ في الخمارة على الطاولة اسمي، والقدَّاحة أيضاً،
انزعجتُ كثيراً بخصوص القدَّاحة، ثمّ فكرتُ أنه بإمكاني شراءُ اسم جديد وقداحة
أخرى من أقرب حانوت... لم أرجع إلى الخمارة لكنْ كنتُ متأكداً أنني دخلتُ تلك
الخمارة منذ تسع سنوات، وقد خرجتُ منها منذ دقائق.
وقفتُ
وراقبتُهن بصمت، بناتٌ جميلات يصعدن بصخب إلى السفينة مع ضحكاتهن، لا أعرف ما هي
جنسياتهن، لكنَّ لا أعتقد أن ضحكاتِ الفتيات الجميلات خاصة بلغة أو شعب.
بدا
لي صدى ضحكاتهن من البعيد وكأنه موسيقى قديمة نسيتُ أين سمعتُها.
تبحر
السفينة وتبتعد ببطءٍ، إلى أين تذهب هذه السفينة وعليها الفتيات الجميلات؟ تساءلتُ
ثمّ صرختُ بخوف:
-
لا
تتركيني وحيداً أيتها السفينة؟
لكنَّ
السفينة لم تهتمَّ بصراخي، مضت مبتعدةً لتدخلَ عتمةُ الليل فوقَ البحر، تركتني
السفينة هنا على ضَفة البوسفور وحيداً، على حافة الأربعين من عمري، وأخذتْ كلَّ
الفتياتِ الجميلات، ورجعتْ بهن إلى هناك، إلى البعيد، إلى طفولتي.
-
مرحباً
أبو الشباب، على ماذا تتفرج يا أخ؟
وقف
بجانبي شاب لا أعرفه، سألني محتاراً، ثمّ ناولني سيجارة بدت لي كرشوة حتى أجيبَهُ،
أخذتُها دون أن أنظر في وجهه.
-
أتفرج
على سفينة كانت هنا، أبحرتْ منذ قليل، ورجعت إلى طفولتي...
-
هل
أنت شاعر؟
التفتُ
إليه وأجبتُه غاضباً:
أعوذ
بالله... بشرفك، هل شكلي شكل شعراء؟ أعوذ بالله، أنا من عائلة محترمة، كان من
الممكن أن أكونَ مهندساً معمارياً، لكنَّ الحرب عندما جاءت منذ تسع سنوات أجبرتني
على الهرب إلى هنا و...
-
هل
أنت مخمور؟
-
نعم...
وبدون قداحة..
أشعل
سيجارتي وهو يترنح، ثمَّ قال لي بكلمات ممطوطة وهو يضحك:
-
تعال
معي، قد تمرُّ من هنا شرطة مكافحة الشعراء، ويشتبهون بنا، ويلقون القبض علينا،
والله عيب، بعد سنوات من عملي في تجارة المخدرات يعتقلوني بتهمة شاعر! وعندما أصير
في السجن... جماعة المخدرات يشيرون بسبابتهم لي، ويقولون ساخرين "شاعر"!
بصراحة،
خفتُ.. يعني كلُّ شيء يُحتمَل إلا أن تلتصقَ بنا تهمة شعراء، مشيتُ معه نميل على
بعضنا مبتعدينِ قليلاً عن البحر.
حاولتُ
أن أتذكر أغنيةً حلوة، أي أغنية أحبها، لكنني فشلت.. دائماً، عندما أحتاج أغنية من
تلك التي أحبها في لحظة حرجة من حياتي، تخذلني كل الأغاني التي أحببتها في حياتي.
-
أنا
أشرب خلف تلك العربة الخشبية لبيع السمك المشوي، إنها عربتي، وأنام خلفها كلَّ
ليلة..
هززتُ
رأسي وهو يشير إلى عربته، ثمَّ جلسنا خلفها على سجادة متواضعة، ابتسم لي، واستدار
ليفتحَ درجاً أسفل العربة، ويُخرجَ منه زجاجة خمر وكأسين، ناولني كأساً ثمّ صاح
بي:
-
بصحتك...
-
بصحتك...
وشربنا
معاً، تحدثنا قليلاً، وضحكنا، لم نسأل بعضنا عن اسمي واسمه، أعتقد أنَّ الخمرة
التي شربناها، وتلك السفينة التي رجعت إلى حيث نتمنى أن نرجع، جعلتنا ننسى كلَّ
شيء، شربنا إلى أن سألني:
-
ماذا
تعمل حالياً؟
-
مممم
لا أتذكر، في كل ليلة أنسى شخصيتي التي أكونها في النهار، وفي النهار أيضاً أنسى
شخصيتي التي أكونها في الليل..
كان
يسكبُ كأساً جديداً سرعان ما توقف، وكأنه يخشى أن يقدم كأساً على حسابه للأعداء.
-
هل
أنت شاعر؟
-
أعوذ
بالله، بشرفك هل هذا شكل شاعر؟ أنا من عائلة محترمة، كان من الممكن أن أكون تاجرَ
أقمشة مثلَ أبي، لكنَّ الحرب التي جاءت منذ تسع سنوات أوصلتني إلى هنا و..
ناولني
الكأسَ وقد شعر بثقة بنفسه، صرختُ به:
-
بصحتك...
-
بصحتك...
كان
ينظر إلى جانبي، عندما سألني، لكنني كنتُ متأكداً أنَّ السؤال لي:
-
من
أين أنت؟
-
لا
أتذكر تحديداً من أين أنا، ولكن أنا متأكد أنني في عام 1857 كنتُ في مدينة اسمها:
دمشق، نحن الآن في أي سنة؟
فكَّر
قليلاً، أشعل سيجارة، احتار.. سرعان ما قال لي:
-
لا
أعرف نحن الآن في أيِّ سنة، لماذا أسئلتك صعبة؟
بعد
قليل مرت من أمام العربة فتاةٌ متشردة، وانتبهت لنا، جلستْ معنا وهي توزِّع علينا
ابتساماتها، تأملتنا، شاهدتْ في عينيَّ سفينةً ترجع إلى طفولتها، فتجاهلتني حتى لا
تبكي، تأملتْ صاحبي، ثمَّ فهمتْ أنَّ هذا الشاب هو صاحب هذه الزاوية وزجاجة الخمر
والسجائر والقداحة.
عرضت
الفتاة علينا وهي تغمز صاحبي أن تمنحنا فرصة لتأمل نهديها، بشرط أن تحصل على كأس
وسيجارة.. ضحكنا معاً، هي وهو وأنا وبقايا مدينة في رأسي، ثمَّ سكب لها كأساً،
وأشعل سيجارة ثمّ ق
دمها
لها.
شربنا
معاً عدة كؤوس، ودخنَّا السجائر، وضحكنا وغنينا أغنيات لا نحفظها بشكلٍ كامل، من
بعيد كان صوتُ السفن يعزفُ لنا مقطوعاتٍ موسيقيةً غيرَ مكتملة.
شربتِ
الفتاةُ، ودخَّنت كثيراً، كانت تنظر أحياناً إلى البحر بحزن خفي.. همست لي مخمورة
وهي تكاد تبكي:
-
للأسف
تأخرتُ عن السفينة التي غادرت منذ قليل إلى طفولتك..
كل
امرأة عاهرة وملاك في الوقت ذاته، خليط غامض، لكن يصعب على كائن ينسى قداحته واسمه
في الخمارات مثلي، أن يعرف متى تكون هذه المرأة ملاك، ومتى تكون عاهرة.
دسَّتْ
سيجارةً أخرى بين شفتيها، نظرتْ إلينا بخبث وهي تلتقط بأصابع يديها طرفَ قميصها،
تمهَّلتْ قليلاً وهي تراقب عيوننا التي تأهبت ولمعت، تماماً.. مثلما انفتحت ستارة
مسرح في دمشق، بداية مسرحية حضرتها في عام 1857، رفعتْ هذه الفتاة قميصها وهي تضحك
وغطَّتْ به وجهها بخجل طفولي.
تأملنا
نهديها، فتذكرتُ مدينةً نزحتْ عنها منذ ألف سنة، أعادت الفتاة قميصها وهي تضحك،
أشعلتُ سيجارة، وقدَّمتُها لها وأنا أهمس وأميل على الأرض، وكأنني أسجد في صلاة
صلَّيتُها للمرة الأخيرة منذ عشرين سنة:
-
سيجارة
لهذا البياض اللانهائي..
أخذتْها
مني بانزعاج، وهي تسألني بغضب:
-
هل
أنتَ شاعر؟
-
أعوذ
بالله.. بحياة أمك هل شكلي شكل شاعر؟ أنا من عائلة محترمة؟ كان من الممكن أن أكون
خياطاً في معمل الخياطة الذي تملكه أمي، لكنَّ الحرب التي جاءت منذ تسع سنوات
أجـ.....
هي
تذكرت أمها، أنا تذكرتُ أمي، الشاب صاحب عربة السمك تذكر أمه، لا أمها ولا أمي ولا
أمه في هذا العالم، إنهن الآن في العالم الآخر.
لا
أتذكر متى ذهبتْ هذه الفتاة، ولا كيف نمتُ، فجأةً استيقظتُ في الصباح الباكر، كان
الشابُّ صاحبُ العربة يرتب عليها الأسماك التي وصلته منذ قليل، والناس يعبرون هنا
وهناك.
نهضتُ
ومشيتُ، صرخ الشاب من خلفي:
-
انظر
إلى الضفة، السفينة التي ذهبت إلى طفولتك في الليل رجعتْ منذ قليل..
استدرتُ
إليه، وصرختُ به غاضباً:
-
هل
أنت شاعر؟
وضع
سبابته بشكل عامودي على شفتيه مشيراً لي:اصمتْ، تلفَّتَ حوله ليتأكد أنَّ أحداً لم
يسمع اتهامي له بأنه شاعر، خوفاً على سمعته، وخوفاً من تراجع مبيعات سمكه، قال لي
بثقة:
-
أعوذ
بالله، أنا من عائلة محترمة، وصاحبُ أفضل عربة لبيع السمك المشوي على ضفة البوسفور...
ابتسمتُ
له ومشيت، أوقفتُ سيارة أجرة لتنقلني بسرعة إلى غرفتي، حيث أخذت حمَّاماً سريعاً
وفنجان قهوة ثقيلة.
غيَّرتُ
ثيابي وخرجتُ إلى عملي، وكأنني مخلوق آخر.
حاولتُ
في الطريق أن أتذكَّر الشخص الذي كنتُه في ليلتي السابقة، للأسف لم أتذكر.
-
أين
كنتُ ليلةَ البارحة؟ اتصلتُ بك عدة مرات ولم تجب؟
سألني
زميلي في العمل، أجبتُه دون أن أستدير له:
-
كنتُ
في دمشق، أتفرج على أجمل حارتين في العالم...
-
ولاه!
هل أنتَ شاعر؟
-
أعوذ
بالله، أنا من عائلة محترمة...