recent
جديدنا

تائه في الوطن



خليل عثمان / خاص سبا


إلى الذين فقدوا حضن الوطن ولا زالوا يحلمون ...!
وأخيراً وبعد سنين طوال تضع الحرب أوزارها في وطنه، لبى نداء قلبه، أبقى أسرته هناك، لملم أشيائه، حمل حقيبته وغادر المكان الذي آواه خلال سنوات تغريبته.

أخذ صوت المطر يتساقط ويضمحل في فراغ الليل، وهو يتوغل داخل السيارة، وكأن به يختبئ بين السحاب كي يصل بلمح البصر إلى مدينته البعيدة.

اجتاز ساحة المدينة الأوروبية التي يقطنها بصخب، السيارات تلتهم الشارع التهاماً والسير إلى المطار ما يزال طويلاً، بدأت الأصوات ترن في أذنيه كناقوس خطر، وكان عليه أن يستوعب مشاعره في تلك اللحظة، فقلبه يرتشف قطرات من الشوق وهي تزداد وتنهمر كلما اقترب خطوة إلى موطنه، السيارة التي تمضي به إلى المطار تمزق صمت الليل، وتسابق الزمن، مد يده متحسساً وجهه الصارم ذا التجاعيد وتمتمت شفاه بصوت مخنوق:
-         ليت الزمن يتآكل منتهياً عند نقطة البداية! لتحملنا إلى أعوام الطفولة الأولى، حيث الحياة مع الشمس والعفوية، لعن الله الحرب والغربة...!

بينما هو قابع في مقعده بالطائرة، عادت به الذاكرة حينما وطأت قدمه بلاد الغربة لأول مرة، وقتها كان الليل في ساعاته الضبابية الأولى، لطمته لفحة هواء باردة كالكفن على وجهه، وكأن الجليد يحيط به، وقد تبدد الليل والفجر يفسر عن يومه الجديد، ريثما تنفجر الشمس في المشرق فتشع الآفاق بالنور.
ولكن لم يحدث شيء من ذلك التنبؤ، ففي صباحه الأول كان للضباب والغيوم رأي آخر.

ولكنه لم يكن يريد إقناع قلبه وعقله بأن غربته سوف تستمر كل تلك السنين، ويصبح أسيرا للنستولوجيا وهو يعاني هناك في أقصى شمال العالم، وطغى عليه رغبة بالبكاء أقوى من أي وقت مضى انفجر في رأسه بركان... الدوي يتردد... ولكن هيهات...!

وها قد حطت الطائرة على أرض الوطن، ومعها تنهمر الدموع من عينيه، ويبدأ إحساس مفاجئ يهيمن عليه، وهو يخطو خطواته الأولى على ذلك التراب المقدس بعد كل تلك السنين، ولكن هل هذه هي المدينة التي كان يصبو إليها وينتظر رؤيتها، أم أنها لم تعد تعج بالبهجة والحياة كما كان يتخيل؟! سار قليلاً ثم ارتمى على مقعد بجانب بوابة المطار.

كانت النسمات تقتحم مساماته، وهو يستنشق عبق مدينته من جديد، ثم أطلق تنهيدة ومعها بلع دخان سيجارته بشراهة مخيفة، غلبه الشرود، تخيل أناساً لم يراهم منذ زمن، وكأن به يشاهد أطياف بشر منسيين يمرون أمامه، بينما الليل يزداد سواداً وصمتاً وهو يتوغل غرقاً في نشوة عارمة لم يتذوقها منذ مدة طويلة...!

أكمل طريقه إلى الحي الذي كان في يوم ما ملعب صباه وكل ماضيه، دخل المنزل، أشعل النور، فبدا ضوء المصباح الخافت في الردهة يهمس في ملل، المكان صامت وكئيب، أحس أن قواه تضمحل، جذبت الذكريات قدميه إلى اجتياز عتبة الدار ورؤية العش الذي شهد على ولادة طفليه، والملاذ الدافئ الذي طالما وجد فيه السكينة والهدوء...!

أرهقه كل شيء، وشعر بتصدع في قلبه فآوى إلى سريره والذي أثقله الغبار، لم يتمكن من الخلود للنوم، تملكته الرغبة في شرب التبغ مع القهوة، ربما هرباً من آثار حلمه الذي لم يكتمل، فأحضر قهوته التي جلبها معه، تناول علبة تبغه، أراح رأسه على الوسادة، كان شاحب الوجه غائر العينين وكأن عربة الزمن انحدرت به نحو الشيخوخة وهو لم يتجاوز سن الخمسين.

ثم أشعل التلفاز، المذيعة تبتسم كفراشة تتراقص على بتلات الزهور، أدار المحطة على فيلم مصري، لم يأخذ منه الاهتمام في البداية ، ولكنه ما لبث حتى أصبح مندمجاً معه أيقظه صراخ مزعج صادر من الشاشة؛ فالبطل يصرخ في وجه القاضي الذي أصدر براءة القاتل قائلاً له:
-         هذا قانون ساكسونيا...!

وكأن به يصرخ في وجه عبثية الكون وعدمية العدالة لدى البشر، إلا أن متعته لم تدم، فقد انقطع التيار الكهربائي.

تثاءب وهو يرفع نفسه من الفراش بثقل، مد يده إلى منضدة بالقرب منه ليتناول كأس الماء، ويكمل قهوته في العتمة بعد أن أطفأ الشمعة الوحيدة على المنضدة، وتمدد على سريره طمعاً في النوم، ولكن مفعول البن قد غلب نعاسه، وهنا تسللت الأفكار إلى رأسه المتصدع من جديد وبدأت تتزاحم، حاول أن يضبط حدود مخيلته اللعينة تلك، لكن الصور تتناسل دون انقطاع، إلى أن غرق في سباته.

في الصباح لم يتناول شيئاً، فرغبته الجامحة في رؤية مدينته طغت على كل غرائزه، بدا الشارع حزيناً، فالصور باتت تتحرك أمامه، الأفواه تتكلم بتلعثم، أراد أخذ قسط من الراحة في المقهى المفضل لديه، لكنه ما إن دخله حتى بدأ شيء ما يخيفه... يثير القرف في نفسه، يشعره بضياع، لم يجد منفذاً للهروب، فهذا المكان طالما كان ركنه الأجمل في زمن ما قبل أن تدق الحرب طبولها، ويهيم على وجهه مع أسرته...!

بدا وحيداً تلفه الحيرة ويطغى عليه الشرود ولأول مرة يدرك بقيمة الأشياء الثمينة التي تختفي دون مقدمات.

أثقلت الذكريات رأسه، فعاد خائباً إلى بيته وإلى حجرته وارتمى على الأريكة. وها هي الأيام تمضي به... وهو تائه ومغلوب على أمره وقد فقد بوصلة الحياة...!

آلاف من الصور والمواقف تزاحمت في رأسه، ماتت الكلمات داخله؛ الحزن يركض على وجهه بدأ يشعر بالوحدة بلا أسرة، بلا أصدقاء، بلا انتماء، وهو لم يكمل شهراً بعد؛ في مكان كان في يوماً ما الأكثر دفئاً وحناناً له.

بقي له هاجس أخير وهي جارته «خجو» والتي هيمنت على جزء من قلبه أيام مراهقته، ثم تاه عنها...
هل تكون هي محطته الأخيرة هنا وقد مضى على وجوده ثلاثون يوماً من الإحباط والتعب؟!

وما زاد من رغبته تلك، رؤيته كل مساء لذلك الرجل الذي يدخل بيتها ويصدع قلبه كلما لمحه من بعيد، سيما بعد تأكده من عدم زواجها إلى تلك اللحظة فمن يكون؟ ومع أول شحوب النهار توجه إلى باب بيتها تقوده شهوة عاصفة تأخذه إليها وتلفحه...!

طرق بابها، أقبلت إليه ووقفت أمامه. كان في عيونها ظل محترق من الكآبة، وعلى رأسها شعر أشعث لم تربطه كبقية النساء، وعندما نطقت أدهشته عباراتها والتي فاحت برائحة أمل مرهق، وهي تطلب منه عدم الدخول فهي لوحدها في البيت...!

خذله العقل بسكوتها؛ كبلته حبال مجدولة من ماض قديم، ولكنه سرعان ما بادرها بسؤال كالسم:
-         أتصاحبين يا «خجو» بعد هذا العمر؟!

لطمتها عبارته، وتدحرجت من عينيها الدموع، احتبست في صدرها صرخة كانت على وشك أن تنطلق، طالما كان هذا الرجل هو هاجسها وفارس أحلامها، فالأيام الخوالي والذاكرة المتخمة بعشرات الأشياء الجميلة التي جمعت بينهم لا يمكن تجاهله، ثم تسللت بغير إرادة في جوف الماضي، ولاحت ابتسامة متعثرة على منحدرات وجهها وعادت إلى الصمت.

أما هو فإن تراجيديا الزمان والمكان جعلت من لسانه العابث يتلكأ بين أسنانه ويتماوج في عبث فضولي:
-         أيعقل أن تكون هذه المسنة هي خجو؟!

كان يشعر بحنين جارف إلى سماع صوتها ومن ثم معرفة سرها. نظر إلى عينيها ونطق جملته الأخيرة بنبرة متعالية لا تخلو من الإهانة:
-         ولكنك تستقبلين ذلك الرجل كل مساء...؟
-         مَن؟ مصطفى؟!
-         ذاك الرجل هو أخي المسكين، أنسيت مصطفى الذي ضاع ثلاثون عاماً من عمره في السجن، وتمكن من الخلاص بعد أن تم قصف السجن أثناء الحرب، والآن هو يعمل كبائع متجول ويعود في المساء.

استدار مبتعداً أخذ يستنشق الهواء بعمق وأحس بأن حواسه تشكو الصراخ لأنها لم تنعم بمرأى هذه الأرض، فكل شيء قد تبدل، معالم مدينته، محتويات منزله، والبشر الذين حلم برؤيتهم، لم يبق للحياة معنى هنا في معقل ذاكرته! فكان قراره العودة إلى بلاد الضباب والثلوج حيث كان، سيما وأنه اندمج مع وحدته وغربته تلك.

في ليلته الأخيرة وعندما عاد إلى بيته كان محطم الوجدان، انتابته رغبة بحضن دافئ لامرأة تنسيه ثلوج غربته الجديدة وهو في مدينته.

قبل المغيب كان يتوجه إلى المطار، صعد الطائرة، نظر من نافذتها إلى الأسفل، كانت كل الطرقات والأزقة والأماكن مسرحاً حياً تنبض في جنباته الذكريات والشجون، وتروي مصيره الذي يحوك نسيجه الآن نحو الضياع والأسى، وكأنه طائر مشرد في سماء غريبة.

google-playkhamsatmostaqltradent