-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

الراهبة الجنوية


 

كانت الراهبة التي رأيتها في ذلك اليوم من صيف السنة الفائتة عجوزاً في حدود الثمانين. لم أجدها قبل ذلك في روما، وربما وجدتها فلم أنتبه إليها فما أكثر الراهبات في تلك البلاد. كنت أرى راهبات كثيرات في كل مكان فلا أهتم بهن. لكن جذبني إلى تلك الراهبة سحر غامض فتقدمت إليها بهدوء. كنت منقبض النفس كثيراً وشعرت أنني سأخفف عن نفسي قليلاً إن اجتمعت بها وتبادلت الحديث معها. ألقيت عليها التحية فردت دون أن تنظر إلي: "تفضل اجلس حماك الرب يا أخي". جلست بقربها وصمتُّ مثلها.

أصغينا معاً لثرثرة نهر التيبر القادمة من يميننا. قالت لي بعد موجة صمت: "تبدو غريباً عن هذه الأرض". دهشت. سألتها: "كيف أبدو غريباً"؟ قالت: "تحيط بك هالة الغرباء. أنت نبتة غريبة". ثم ابتسمت و قالت كأنها تواسيني: "لكن لا بأس يا أخي فأنا أيضاً غريبة مثلك. أنا من جنوة". 

حكت لي تلك الراهبة الجنوية أنها شهدت وهي طفلة صغيرة كيف أن الفرنسيين قصفوا جنوة بالمدافع من جهة البحر "اهتزت الكنائس التي احتمينا بها" قالت وهي تحدق في البوابة ثم أردفت: "واهتز عرش الإيمان في قلوب الكثيرين أيضاً". صمتت لتنظر طويلاً في عيني وترى وقع كلامها. وحين رأتني صامتاً لا أجيب، قالت وشبه ابتسامة على فمها "نعم يا أخي. إن الحروب تزعزع العقائد. وإن المَدافع لا تهدم كنائس الرب فقط بل قلوبَ خرافه أيضاً". بقيتُ على صمتي فواصلتْ حديثها قائلة "حين اشتد القصف رأى أبي أن يخرج بنا من الجمهورية التي أصبحت هدفاً لأطماع الفرنسيين.

كانت السفن الحربية تحيط بها من جهة البحر كأشداق الحيتان تطلق حممها والدخان يتصاعد من الخرائب في كل مكان. أتذكر أن أبي قال لأمي وكلاهما يرتعد: "جنوة تنهار. إنني أشم رائحة موت هذه الجمهوربة الهرمة كما أشم رائحة جيفة. علينا أن ننجو بجلودنا يا امرأة". كان هدف أبي كما علمنا فيما بعد أن ينقذ ثرواته وأمواله التي كدسها خلال تجارة العبيد وينجو بها لا أن ننجو نحن بجلودنا. بعد أيام عديدة هدأت المدافع وسكن القصف وفكت السفن الحربية حصارها فحملنا ما نستطيع حمله من أمتعتنا وتوجهنا إلى جزيرة كورسيكا. مات أبي قهراً وتنازع إخوتي على التركة الضخمة، أما أمي فقد أرادت أن تستبد بكل شيء وصارت تشارك إخوتي نزاعاتهم فتعين هذا على ذاك. كنت البنت الوحيدة في العائلة ولم أكن أنزع إلى المال منذ طفولتي. كنت ميالة إلى القراءة والموسيقى أكثر من أي شيء آخر في هذه الدنيا. كرهت الرجال حين رأيتهم يتسببون في الحروب ويقودون السفن عبر البحار لقصف الموانئ ويقودون الجيوش الجرارة إلى ساحات الموت. كرهت الرجال حين رأيت أبي يتاجر بالعبيد وينمي ثروته على حساب دموع أولئك المساكين. سمعته ذات مرة يروي لأمي كم ربح من صفقة بيع عبيد اصطادهم الألمان البروسيون في غرب أفريقيا، رأيت وجهه مستبشراً وهو يعد فلوريناته الذهبية ويصغي لخشخشة الذهب بمتعة فائقة.

أما أنا فقد كنت أسمع نواح العبيد من خشخشة تلك الفلورينات. وبالرغم من أنني كنت طفلة صغيرة إلا أنني فهمت القضايا الكبرى في عالم الكبار.
عرفت أن الشر ذَكَرٌ فعزفت عن الزواج ونذرت نفسي لكنيسة الرب. لم أعد أسأل عن أهل بيتي، لم أعد أسأل عن إخوتي وأمي الذين خاضوا حروبهم من أجل تركة أبي.  كرهت أمي أيضاً حين رأيتها تدير دفة المعركة بين إخوتي الذئاب. تركتهم وآثرت أن أقضي كل وقتي عند الراهبات نتلو آيات الرب ونخدم كنيسته في إحدى قرى الجزيرة.

لكن الحرب قامت من جديد. مرة أخرى هاج الرجال وتداعوا للموت والخراب. ولأن أهل جزيرة  كورسيكا ثاروا على الجنويين فقد رأوا في كل جنوي عدواً. لم أستطع البقاء بين أمواج بحر الكراهية التي أحاطت بي من كل جانب فغادرت الجزيرة قبل أكثر من ثلاثين عاماً. ومع مغادرتي للجزيرة ووصولي إلى البر الإيطالي غادرت حياة الرهبنة المزيفة أيضاً. لم أعد أهتم بطقوس الراهبات ولا صلواتهن ولا عالمهن الذي جعلن له حدوداً ونظماً وقواعد صارمة. أدركت ألا قواعد للإيمان. لقد اكتشفت في حياة الرهبنة بشاعات وقباحات كثيرة وقلت أيعقل أن يكون هذا كله باسم الرب؟ إن معرفة الرب يا أخي لا يحدها قانون ولا يحيط بها دين وسلك كهنوت ونظم صارمة دقيقة. الرب أكبر من كل ما يدعونه. لقد رأيت أن الرهبانية الحقة ليست أن يقبع  المرء بين جدران دير ويقضي نهاره في إنشاد الترانيم وليله في إيقاد الشموع وإضاءة السرج من الزيت المقدس. إن الله هناك يا أخي. هناك حيث لا ينتبه إليه الناس، في الأكواخ الحقيرة والبيوت الواطئة، هناك عند الثكالى وأرامل حروب الرجال، هناك عند الأيتام يواسيهم ويمسح دموعهم ويبكي معهم ويفكر ملياً في هذا الإنسان الذي خلقه على صورته. أيعقل أن يخلق إله حكيم وحوشاً على صورته؟ هل ربنا وحش يا أخي؟"

تحدثت الراهبة كثيراً. بدا لي أنها توأم نهر التيبر الذي كان يثرثر على مقربة منا. لكن كلامها كان يختلف عن ثرثرة توأمها المائي. كان لحديثها نكهة الحكمة ممزوجةً بالهرطقة. أدركت أنها لا تؤمن بكثير مما في غضون الكتاب المقدس. قالت لي "لقد عرفت ربي بقلبي وليس بهذه الأساطير التي تصوره سريع الغضب مدمراً. ما الفرق يا أخي بين آلهة الوثنيين  وبين إله الكتاب المقدس؟ آلهة الوثنيين يثيرون الزوابع ليقطعوا الطريق على أحد البحارة وإله الكتاب المقدس يغضب لأتفه الأسباب؟ إله الكتاب المقدس يا أخي خلقناه نحن، نحن البشر الفانون الذين صرنا نقرأ من ذلك الكتاب ما يوافق هوانا ويناسب نوازعنا الشريرة. وما أكثر ما فيه من آيات تدعو للقتل والتدمير حتى لكأن قائداً من جيش البرابرة كتبها!

أتعلم كم من دماء سفكت في أوربا، شمالاً حيث ادعى كل فريق أن الرب مفتاحٌ في جيبه وأن الحقيقة حمار مربوط إلى باب كنيسته؟ أتعلم كل هذه الأمور يا أخي الغريب؟ لقد ذبح المسيحيون من المسيحيين وباسم الكنيسة والرب أكثر مما ذبحهم المسلمون العثمانيون باسم إلههم. كل البشر يقحمون الله في حروبهم ويلصقون به قذاراتهم ويلطخون اسمه بالدم. إن الرب محبة. وإن المحبة تمحو الكراهية ولا تغذيها. وكان الناس سيبقون متحابين بفطرتهم التي فطرهم الله عليها لولا أن ابن الإنسان اخترع النحل والمذاهب ليسقي بها نبتة الكراهية الشريرة".

ولما سألتها "أليس كل ما يحدث بمشئية الرب وأمره؟" التفتت إليَّ حتى رأيتُ وجهها الكئيب النحيل ونظرات عينيها اللامعتين الحزينتين. حدقت في قليلاً ثم قالت: "إلى متى يحيلُ ابن الإنسان عجزه وخطاياه ودنس روحه إلى الرب؟ إلى متى يتخذ بنو آدممن الرب الطاهر النقي مشجباً لثيابهم القذرة؟ قل لي إلى متى؟"

فكرت طويلاً في كلام الراهبة الجنوية العجوز وغصت في دقائقه عميقاً. تذكرت كيف أن راهباً يسوعياً أخرجني من الإسلام قبل عشرات السنين وزين لي النصرانية وكرَّه إلي ديني بدعوى أنه دينٌ يدعو للقتل وسفك الدماء. وهاهي الراهبة العجوز تنسف كل ما آمنت به على يد القس لورنزو اليسوعي. هاهي تشوش أفكاري وتأتيني بحجج لا أقدر على ردها وتطيح بطمأنينتي.

ها هي تؤكد لي أنني ما تنقلت إلا من ضلال إلى ضلال. ها هي تدعي أن المذاهب "اختراع الإنسان ليسقي نبتة الكراهية". انتابني صداع مفاجئ وشعرت بأن رأسي ألقيت في قدر ماء يغلي بينما بقيت هي هادئة طوال الوقت وفي عينيها طمأنينة هائلة. كانت الطمأنينة شجرة زيتون تظللها بينما كنت أنا غيمة تائهة تلهو بها رياح الشك فسألتها بحيرة ظاهرة: "ولكن يا أختي ألا يوجد مذهب حق؟ ألا يوجد دين يمثل الرب وتعاليمه؟ أيليق بالرب أن يترك خرافه في البرية تنهشها الذئاب؟" فردت دون أن تلتفت إلي: "ومن قال لك ذلك؟ لقد وهبك الرب أعظم ما يمكن أن يهبه إله لمخلوق . لقد وهبك العقل. إن العقل الذي تميز به بين هذا اللون وذاك لقادر على أن يميز بين الشر والخير أيضاَ. أيحتاج الناس إلى نبي يقول لهم لا تقتلوا النفس البريئة حتى يكفوا عن القتل؟ أينبغي على الله أن يعلم البشر ألا يسرقوا فيتعلموا ذلك ويلتزموا بما تعلموه؟ أيحتاج فعل الخير إلى أنبياء ووعاظ  وكتب مقدسة؟ لقد منحنا الله آلة نميز بها الخطأ والصواب وتركنا وشأننا يا أخي. الله أجل من أن ينزل من سماواته ليحمل سيفاً أو بندقية يقاتل بها في صف هذا أو ذاك".

لم أعرف بم أجيب. كان ما أسمعه جديداً علي. طوال عمري سمعت المواعظ المكررة حتى ملتها أذني. لكنني في ذلك اليوم سمعت صوتاً آخر انجذبت إليه وتأثرت به فالتزمت الصمت. إن الصمت وحده يعين المرء على التأمل وإعمال الفكر. صمتت هي أيضاً وظلت تحدق في ناحية الغرب حيث البوابة التي ينتصب على يمينها هرم جرجس. ولقد سميته هرم جرجس تيمناً برفيقي المصري الذي  قفز من العربة حين اقتربنا من روما قبل خمسين عاماً وصار يطوف به كالمجنون.


من رواية «نواقيس روما» للروائي «جان دوست»





تعديل المشاركة Reactions:
الراهبة الجنوية

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة