سليم بركات
تردَّدتُ في كتابة هذه المقالة. ينبغي أن نتردَّد مُذ لم نَعُدْ ندير “مجابهاتٍ” في النقد، وفي عروض الأفكار، على سويَّةِ الإدارة الواجبة أخلاقاً، والواجبة احتكاماً إلى منطق “الحقِّ” في الكتابة بقواعد الكتابة، وضروراتِ إنشائها نصوصاً في المخاطَبات. البوَّابة للدخول إلى الأحكام مهشمة. كلُّ مسعورٍ، فاشل، مبتدئ، نكرةٍ، سَقَطٍ، سِفْلةٍ، لم يخطر له قطُّ أن تسوقه قدماه إلى الكتابة، بات قادراً على اقتحام الأعراف، غازياً بجسارة السهولة التي لن يُحاكَم عليها أتاحتْها له مواقع التواصل الإجتماعي الرثة “خبطَ عشواءَ”، تصيب مَن تصيب بهزالها.
يعادل هذا الانهيارُ، بثقل “الاقتحام” المباح
عنوةً، انهيارَ المجتمعات في التاريخ. لكنه على “تماسكٍ” ظاهريٍّ تتيحه أُحْكُومةُ
الآلة المشاع بتشريع التبسيط: كلُّ شيءٍ سهلٌ. كلُّ شيءٍ يُقتَحَم. تفلُّتٌ بلا
ضبطٍ أو ربطٍ من أيِّ تعريفٍ بالأصول، واللوازم، في التزام “المكتوب” بخصائص
إنشائه مكتوباً يُقرأ.
ربما لا معنى لتذكيرٍ مثل هذا بالانهيار الذي
يعرفه كلُّ مُجَازٍ بقدْرٍ صغير، أو كبير، في مباني الكتابة. كلنا نعرف ذلك: بعضٌ
يستنكر هذا المآل، ويستفظعه، ويستسخف ما بلغه السقوط؛ وبعضٌ يستحسنه، ويستطيبه، عن
معرفة بمبلغه في السقوط، على تواطؤٍ مع شاغلي مواقع “الغزو الاجتماعي” بمنجنيقات
الركاكة. بل يستثيرونهم ليربحوا “معركة” الإحصاء لمقادير الأعداد كسبوها من
تعليقات: وضاعةٌ في الانتهاز. يا لِجمالها!
ماكان يصِلُنا متفرِّقاً قبل “مشاعية” الكتابةِ
ركاكةً، والأخلاقِ تهريجاً، بات يصلُنا بالجملة. تساوت القدراتُ المنهارة للتفريق
بين خصائص النصِّ “الأرضيِّ” والنص “السماويِّ”. وُلد “التكفير الأدبي” من صُلب
أبيه “التكفير الديني” ـ المُرشد لعصر بلداننا إلى “خلافة الذبح” بالسكاكين،
والذبح بالسطور المُنضَّدة على الألواحِ الزجاج في الحواسيبِ الآلات.
أذهلتني “التكفيرية الأدبية” كسلوكٍ من عقل
النقد عند مِلَلِ أمصارنا. ذلك سيُحتسَب “فتْحاً” في المصطلحات. لا بأس. سأستعرض
بضعة “أصناف” من نماذج العقل “الناقد” باختصار، عن الذين صنَّفتْهم مقالاتُهم،
وتعليقاتُهم، قبل أن أصنِّفها في مراتب الاعتراض على مقالتي “محمود درويش وأنا“،
والتعريض بها (باعتذارٍ عن تقصيري في متابعة “الزحف الهادر” على الحواسيب التي
تتسم العلاقة بيننا ببعض النفور).
لن أعْرِض بالذكر لكُتّاب نبلاء عن رصانة تقويمهم
للموقف، وقد ساءهم هذا التطاول “العصبي” على مقالةٍ، فاستنكروا، أو أعادوا رسم
خريطة الفكرة فيها على سوية خطوط الطول، وخطوط العرض التي لا تستدعي هياجاً،
وتآويلَ ليست بناءً على أيِّ مقصد من مقاصد مقالتي. وأنا، كأولئك النبلاء
المستهجنين الحَمْلةَ عليَّ، بلبلني أن تُختزل المقالةُ الطويلة عن عمق علاقة بين
شاعرين، صديقين على عقود من مطلع سبعينات القرن الماضي حتى رحيل محمود، إلى سطور
قلائل جداً فيها: أعني بوحَه أنه تلقى خبراً عن “أبوته” على “الهاتف”. لا تأكيد.
لا نفي. سياقٌ أوردْتُهُ من “خبر الهاتف” باح به لي صديقي الراحل “ببرودٍ”، أو
ربما لم تعْنِهِ “أبوَّةٌ” يتلقفها من صوت امرأة في الهاتف. كان بوحُهُ، الذي
نقلتُه “نَحْتاً” بالكلمات إلى أسطر في المقالة، لا يتعدى ما سمعَهُ فأسمعَني،
لأنتقل بعده (مُذ كانت المناسبة أنني صرتُ أباً) إلى “تمارين” في تعريف “الأبوة”
على ارتجالٍ عفويٍّ، لا تخطيط فيه لمذاهب عِلم النفس، وعلم الشك، وعِلم القبول
بالظواهر الصوتية في الآلات كإرشادٍ إلى الإيمان.
أقُرِئتْ أولئك السطور المعدودات بتمعُّنٍ، أم
هي العدوى أطلقتْ قطيعَها المتوحش؟ ها أنا الآن على استعراض من ثلاثة صنوفٍ ـ عدا
النبلاء ـ أباحت جلبَ مقالتي إلى “المحرقة”، لا بسطورها حَسْبُ، بل بكاتبها، وبلغة
كاتبها العربية، وبعِرْق كاتبها الكردي “تكفيراً”، على ما نعهده اليوم من مناهج
الفوضى “الحلال”، وإرشادات “الطاهر” إلى تجنُّب “التطبيع”، عن الأيدي الذهبية
“للصمود والتصدي”، و “الممانعة”، كآخر رمقيْنِ في أنفاس الأمة “المُحتضَرةِ” من
كثرة الانتصارات “اللامحتملة”، حالها كحال شهقة العاشق، أو العاشقة، في أخبار
“العذريِّيْنَ” قبل انهيارهم صرعى أو موتى.
في الصنف الأول تخيَّرتُ مقالة واحدة، وحيدة،
“أحزنتني”، لأنها صدرت عن يد صديقٍ، مُحبٍّ، واكبني نصيراً لعقود، لكنها لن تنتقص
من الودِّ بيننا.
لقد ذهب الصديق إلى كلمة صادمة بقوله إنني
“تعاليت”. ليس في ظاهر مقالتي، ولا في باطنها ما ينحو بالمقصد هذا النحو. هل
تأوَّلها من المحاورة القصيرة أوردتها بيني وبين محمود إذ وصف “حلولي” للعالم
باللغوية (وهي ليست حلولاً قط) في سياق من الدعابةِ، فبادلتُه الدعابة: “ما حلولك
أنت؟”. كيف فُهمت المحاورةُ المُلاطفَةُ بسمة “التعالي” فيها؟ نحن شعراء. “حلولنا”
كلُّها، اللاموصوفةُ حلولاً، لغويةٌ. أحكامنا في الخيال لغويةٌ. مذاهبنا لغوية.
إيمانُنا لغوي. انتصاراتُنا وهزائمنا لغوية. اجتهادنا لغويٌّ في صوغ “التشريع”
للجنون دافئاً، أو وحشياًّ. “أوطانُنا” لغويةٌ في الأشعار منذ انكشفتْ في نَثر
الواقع هندسةً للخذلان في بناء المدن ونُظُم الحُكْم.
راعني شأنٌ آخر من مقالة الصديق المحبِّ أنه
بدَّلَ مواضعَ المقاصد. ما عنيتُه بـ “الأبوة” كتوصيف للعلاقة بيني وبين محمود،
على المعنى الطبيعي الرابط أباً بابنه من غير لبس، نحا به صديقي إلى “المجاز” من
ربطها بـ “الأبوة” الشعرية، فانبرى إلى “دحض” أيِّ تشابه يربط شعر واحدنا بشعر
الآخر. لم يكن يلزمه تأكيد المؤكد: شعرُه لا يشبه شعري. وشعري لا يشبه شعرَه.
الشأن الثالث في مقالته ذِكْرُه لما أوردتُه من
قولة محمود: “كدتُ أتأثر..”. بعد وفاته بقليل كتبت ذلك في مقالة لي على تخصيصٍ من
اللوعة أنه أبكاني مرتين: مرة حين باح بجملته على تواضعٍ ـ وتودُّد، واعتزاز
بالصداقة ـ أمام حشد في مدينة غوتنبرغ السويدية، بينهم مترجما كتبنا، وناشراها؛
وأبكاني في المرة الثانية برحيله. بوحٌ كهذا لا ينتقص من مقامه. وكلمة “كدتُ” هي
من أفعال المُقاربة، أي “كدتُ، لكن لم أفعل”.
في الصنف الثاني، الذي لا يؤبه له، تعليقان لا
غير اخترتهما اختزالاً للسوقية، على مفارقة
بين “طبقتين” من المعلِّقين تواطأتا على التهافت.
أحد النموذجين، من المدْرَجين في طبقة
“نقَّادنا” النُّظار، متواضع النص، مدرسيٌّ (مقدمة، عرْضٌ، فاستخلاص). مُكْثر من
طلب النجدةِ اقتباساتٍ من لوكاش، وباختين، لتدارك عياء التحليل. اخترتُه بافتراضِ
أن ناقداً مثله قد يذهب، بتمهيد، أو بلا تمهيد، إلى شيء من “المحاكمة” النقدية إن
“صُدم، لكنه اكتفى “بالهياج” (كما أورده الخبرُ عن تعليقه): “هذا كذب في كذب”.
النموذج الثاني، الذي لاقاه الناقد، سيدة لا
حظَّ لها في صحافة أو في أدب، رمتني بالكلمة ذاتها: “كذاب. محمود يحب الأطفال”.
(من قرأ لها مقالتي؟!).
توافقٌ على كلمة من مجزوءات القذف، أعني
“التكذيب”. افهم أن تجد السيدة موضعاً في المشاع المباح من سوق التعليقات، لتستعرض
وصوتَها، لكن ماذا عن الناقد الذي لم يشهد، ولم يسمع، لكنه “يَعْلَم”؟ يساريٌّ من
الطراز الغيبي.
الصنف الثالث صنفٌ “مجرِّح” في ابتكارهم
الجرائمَ ملفَّقةً لتبرير المبالغة في “الانتقام”. كتَّابٌ مسموعو السطور في
المقالات والتعليقات، سارعوا إلى “تشخيص” مقالتي لا عن تبصُّرٍ فيها، بل عن
تواتُرٍ من تبادل التعقيب واستنساخه. لم يتكلفوا تدقيقاً في المقالة. حفنة من
الكلمات في “أبوَّة محمود” أنشأتْهم “حِلْفاً” تداعى إلى “بَيعة” الشرف في لغتهم
الأنساقِ المتفاوتة حقداً يُرثى له.
أمكنةٌ متوحشة كحلبات المصارعين العبيد في
روما، بجمهور من الهُوْج المساليح بالإفتاء لشرع القتل كترفيهٍ، وبعقولٍ تتماحك في
استحضار المُقْتَبسات من علم النفس في “قَتْل الأب” (أوديبوس)، و”قتل الأم”
(إليكترا)، و”قتل المدينةِ الأُمَّة” (باريس بن برياموس). علومٌ استقوها مرصوفة
كأدراج العمارات، لكن بلا مصاعد إلى طبقات “قَتْلِ الخالة والخال”، و”قَتْل
الجيران” تحسُّباً للمنافسة على جَمال مماسح الأحذية على عتبات البيوت. عِلمُ نفسٍ
تشظت مذاهبة في تأكيد مساعيه أن يكون “عِلْماً”. وقد بات حَصْراً من علوم
الملاحظة، ومقارنات السلوك، تتطاحن نظرياته، وتتعارض، وتتوسع، وتترادف بخصائص
الإجتماع، والسياسة، والتأويل والقياس، وردود أفعال المرضى، و”توكيل” الأحلام
بمبادرات التفسير. غاستون باشلار، مثلاً، أحدث “أنماطاً”، على ظرافةٍ شاعريةٍ
مجتهدةٍ، من “النفسانيات” بوضعها في صيغة “العلوم” (علم نفس الماء. علم نفس الطين…
الخ) لكنَّ “نُظَّارنا” أحالوا المصطلحات خرائبَ تُزارُ استذكاراً للمعرفة
المنهوكة، المنتهكَة. وقد تفرَّع عن هؤلاء “الاعتراضات”، والمعارضات للمقالة،
تحريضٌ على كراهية اللغة (العربية طبعاً) كما أنتهجُها. إنني أنحو، قدْرَ استطاعتي
المتواضعة، إلى عدم إهانة لغة أجدادهم. يسيئهم أن لا تُهان؛ أن لا تُرتثَّ كتابةً
على فَقر، وأن لا ينعدم فيها النزوعُ إلى الركاكة، وإلى خفضِ خيارات التراكيب إلى
الحد الأدنى من المخاطبات المعهودة، المتعرية من أي عمق. يستفظعون خروج اللغة على
السياق الضحل في التراكيب. يصيب خيالَهم صَكَكٌ إن عاند كاتبٌ هذه النمطية في صوغ
المباني.
“تكفيرية اللغة” استتباعٌ لتكفيرياتٍ قيدِ
الإقامة في العقلِ المكفِّر ـ عقلِ بلداننا المتبحِّر في ابتكار “التكفيريات”.
في الملحوظ من الاجتهاد على فَهْم ما لا
يُسْتَفهَم، أن “المجتهدين” في اللغة، وفي تثبيت التعريف، يتداعون إلى “نجدةٍ”
لاستحداث مَخارجَ للمُسْتَغْلِق على الأَفهام. فكلمة “الرَّفْرَف”، في آية من
“الكتاب”، عَلِقَ المعنى فيها على تلغيزٍ. لم يستحصل مؤوِّلو المعاني، والحَسَبةُ
في اللغة، ومنقذو المفردات من الضلال، معنىً للَّفظة. ألْجأَهم العجزُ في تحديد
“يقينها” إلى الظن، والتخمين. وأنا، في تقويم لأولئك التعليقات من الإخوة
النُّظَّار، والمعلِّقين بأحكامهم المتواترةِ عدوىً، أجدهم رأوا في مقالتي شيئاً
من سديم “الرَّفْرف”، حتى كادوا يستخرجون منها أنسابَ “النوقِ العصافير”.
واردٌ عن وارد. صادرٌ عن صادر. حُصالةُ ثقافةٍ
رفيعة من مكتبات “الفيسبوك”: هؤلاء أهاجوا التحريضَ فاستنزلوه وحياً بآيات
“العرقية”، والعصبية القومية (كيف لهم أن يتهموا أنظمةً بالعرقية بعد الآن؟). قد
أتأنَّى فلا أبالغ بتحميل بعضهم هذا التحريض عن قصد. لكنهم يعرفون، في أيامنا
السهلة الاقتحام والهتك، أنَّ الحذر من موجبات الأخلاق. الخِفَّةُ الضارية التي
تؤخذ بها أحكامهم قد تبيح السلبَ والنهب. أتباعُ الأحكامِ الرثاثةِ جاهزون
ليبايعوا، مذ “التكفيرية” باتت عقْدَ العقل. صندوق “باندورا” بلا قفل في واقعنا
المرفَّه بموهبته الإلهية في ابتكار الهزائم. تكفي الصندوق هِزَّةٌ من تعليقٍ خائب
التقويم، أو من مقالة تتعمد “القذف” بلا تخمين للعواقب، لينفتح عن كائنات الجحيم.
من سيُلام بعد “التكفير اللغوي” على “التكفيرية
العِرقية”؟ ما شأن الأكراد بمقالتي سوى أنني كردي من “ربوع” المجتمعات العربية؟ لا
يدَ لنا في الهزائم العربيةِ السمادِ لكلِّ زرعٍ في الخرائط. لم “نتغنَّ” شماتةً
بسفاهة “سؤدُد الطلل الدارس” من عصر إلى عصرٍ ذي سطور ناقصةٍ في نصِّ التاريخ
المهترئ.
أين كانت مختبئة كل هذه العنصرية التي ليست
الأولى، وليست الأخيرة، في سياق “الجهاد” للتطهير؟ ما ليس نقداً عن حقٍّ، وليس
تعليقاً على قدْرٍ من وجاهة المنطق، يتردَّد ارتجاجه في موضع آخر من جسد الأمة
المريض. كان على المعلقين، والنُّظَّار النقاد، أن ينتبهوا إلى هُزالة تآويل
الرعاع لِمَا كتبوه. كان عليهم التزام ضابطٍ أخلاقي من “أخلاق الكلام” حتى لا
تنفلت الكواسرُ. لكنهم من حيث يدرون (ربما) فكُّوا القيدَ.
زحفٌ هادر. مذهولون من سِحر هزائمهم وجَمالها،
انعطفوا عن مُدَافَعة “الشرف” إلى “جهادٍ عِرقيٍّ” سأُعِدُّه “عيدَ استقلال”
للعنصرية في الحرب على “مقالة”. ربما سوَّغت هذه “الجهادية العِرقية” ذلك
التواتُرَ من عقل التعليقات الرثة، والمقالات الصَّرَع، ما أصابوه من روايتي “ماذا
عن السيدة اليهودية راحيل؟”، من تعريضٍ فاجرٍ، إذ نصبوا لها فخاخ “التطبيع” مع
“الأعداء” فأجازوا إطلاقَ التكفير.
لا يُعدُّ تمزيقُ الإيراني للمجتمعات العربية
عداءً؛ ولا الغزو التركي المنفلت بشهوة امبراطوريته الدينية، عداءً؛ ولا ذهاب حزب
“لبناني” إيراني الصناعة إلى حروب في “ديار” العرب عداءً. (مَن هم الأعداء؟).
أيةُ عبودية تُرضي غرورَ العبودية في مَن
اتهموا روايتي بـ “التطبيع” لأنها تعْرِضُ حالَ يهود، مواطنين سوريين، في مدينتي
القامشلي؟ تصريحات من “النقد” النذالة بلا حدود ضد أن يصف أحدٌ حالَ يهود في
بلداننا. وصفتُ ما هُم فيه: ممنوعون من السفر. ممنوعون من مغادرة مدينتهم. ممنوعون
من بيع ممتلكاتهم. ممنوعون من تحويل أموالهم. لا تعليم لدينهم في المدارس. ماذا
أراد المعلِّقون؟ إمَّا أن يعيش اليهودي “المواطن” عبداً، أو أن يرحل.
تظهيرٌ بلا توريةٍ، مخيفٌ، للرغبة في تطهير عِرقي،
قومي، ديني. يريدون تطبيعاً مع العِرقية، وتطبيعاً مع كراهية اللغةِ إنْ لم تُهَنِ
اللغة، وتطبيعاً مع الكراهية ذاتها كأملٍ يخصُّ أقدارَهم، فيما أردتُ من روايتي أن
تكون تطبيعاً مع الأخلاق.
لا أعرف ماذا سيكون وصفُ حال المسيحي في بلدانٍ
لم تعُدْ تتسع لدِينٍ آخر، وعِرْقٍ آخر، بما تنال كنائسهم من تفجير، وما يلقون من
تشريع الذِّمية إجازةً للنهب؟ بعد خمسين عاماً ـ على التقدير الموصوف من انحسار
المسيحية في ديارٍ كانت إرث المسيحية ـ إذا انبرى كاتب إلى توصيف “الحيف” الذي
لَحِق بهؤلاء، فسيُتَّهم قطْعاً بالتطبيع مع “شيطان” الغرب المسيحي. هكذا سيكون.
حافرُ هذا العصر واقعٌ على حافر العصر القادم في مجد “التكفيريات”، اللواتي ظلَلْن
مموَّهاتٍ طويلاً في العقل “السَّمْح المتسامح”.
مقالتي “محمود درويش وأنا“، المتواضعة في تلخيص
صداقةٍ، وروايتي تلك المتواضعة في تلخيص الكُفر بالإقامة في بلدانٍ كهؤلاء،
فجَّرتا اللغمَ ناسفاً، ضارياً في النسف. لم يخطر ذلك ببالي.
هُزمت القضايا. انتهت ذبحاً على قدميِّ البلاغة
“العِرقية”، وعلى أبواب “ملاهي” التُّهم بالتطبيع كالاستفاضة في أكل الحلوى بعد
إفطارٍ من رمضان. مقالاتٌ من خراب المقالة؛ تعليقاتٌ خرائبُ مستَظْهَرةٌ من العمق
المُخْتَزَن للتكفيريات، سعى بها أهلوها الهُوْجُ، المسعورون، إليَّ ـ بُورِكوا:
لقد هشموا “صفقةَ العصر”، وسدُّوا على التركيِّ
زحفَه من غرب سوريا إلى ليبيا، وجذبوا آذانَ أنظمةٍ أنجزت التطبيع (الذي لن يتوقف)
مع إسرائيل.
ليس مهماً، على أية حال، أن يخرج أربعة من
هؤلاء إلى الشارع استنكاراً لتبجُّح الإيراني، المتفاخر، المُهين، المُحتَقِر،
المتباهي بتصريحه أنه يمتلك قرارات أربع عواصم عربية (أيْ: يحتلُّها).
مواطنون يُصنَّفون “زوائدَ” في بلدانهم.
إحتلالاتٌ تُصنَّف نعمةً.
هنيئاً للزاحفين زحفَهم العُرامَ إلى “انتصارٍ”
على مقالةٍ (!!!)
عن القدس العربي