-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

عمامةٌ بحجم كفن


أيمن ناصر


عصر يوم جمعة (سكن المدرسين المغتربين في ناحية حـوث من أعمال ريف صنعاء اليمن)

  فاجأني بسمرته الغامقة وبياض أسنانه المتراصّة حين دفع باب الحجرة ودخل. بريق عينيه أرغمني على رفع رأسي لأتأمّل وجهه المنحوت بعناية إلهية لا ترقى إليها يد مخلوق. ما كان لأحد أن يتجاوز طوله الفارع وضخامة جسده كماردٍ قُـدَّ من ليل. فلولا انحناءة خفيفة من رأسه لاصطدمت عمامته بسقف الباب.  

نصف النهار كان قد مضى ونصف النافذة ورائي مغلق، وما زلتُ متربعاً فوق سريري مسنداً ظهري للشمس والريح. أتعثر بغيم ذكرياتي. أكتب رسائل بعضها للأهل وبعضها الآخر ليست لأحد، أو ربما أكتبها لامرأة جميلة مفعمة بالسحر وتعاويذ الخلود تركض بين دمي واشتعال السطور، انسلّت لتوِّها من على أرصفة الحروف، حينما اقتحم هذا الغريب المكان كطائر خانته الرياح وأثقله البرد والتهطال.  

اقتـعدَ كرسياً خشبياً جرّه من تحت الطاولة ورمى بجانبه حقيبة سوداء. على الأغلب هي للاستخدام الشخصي. حيّاني بتثاقل قائلاً: مرحباً.

أظنّه أرادها تحية مختصرة تدلّ على تعب ونفاد صبر. 

قلت: مرحباً. 

تعمّدتُّ الردّ بالكلمة ذاتها بلا سبب، مع أني أردُّ التحية بأحسن منها. لم يترك ذلك أثراً عنده. وما كان ينتظر الردّ أصلاً، فقد تشاغل بعمامته ثم نظر إلى المكتبة وإلى اللوحات المعلقة. 

لملمتُ أوراقي المثقلة بحزني. أودعتها تحت الوسادة، ثم هيّأت نفسي للا شيء. نفضت رأسي مشدوهاً كأنّما العقل في دُوار، فثمّةَ ضوءٌ شديدٌ نفذ إلى دماغي وضغط على ركن الحواس، أشعل التحفّزَ في عينيّ لهذا العملاق الغريب. تأمَّلته ملياً. تبـلَّلَ جبينه بنثرات من العرق والمطر. وقورةٌ ومليحةٌ ملامحه الأفريقية. سُمرة وجهه الداكنة أدهشتني وسط بياض الغرفة المندّاة بضوء النهار، لم أر في حياتي سُمرة جميلة توازيها من قبل، تمتزج بلون الحناء والصلصال المشوي فتعطي انطباعاً يشبه لون الكستناء. تجاوزَ الخمسين بعينين قاسيتين مفعمتين بالحيوية، واستقامة مذهلة لأنف جميل واسع الفتحتين، وفم غامض دقيق يعلوه شارب مقصوص الحواف أشيب، وكتفين عريضتين تشهلان ثوبه الأبيض كجناحين يفردهما فوق جسدٍ ضخم أنَّ من تحته الكرسي الخشبي العريض. تعتليه عمامة بيضاء ضاق بها رأسه الأشيب. أثقلها الغبار وأوحلها المطر، فمالت قليلاً إلى الخلف. غدا أشبه بمقدّمة سفينة نجت لتوِّها من الغرق.

لم تهدأ يدي فوق فخذي ترسم على ورقٍ من ضباب الذاكرة كل نأمة من ملامحه المنحوتة، أختزنها تحت لحاف عقلي الباطن. هي عادة قديمة منذ الطفولة أمارسها كلما لمحتُ وجهاً مميزاً، نبيلاً تجلّله الهيبة والوقار، أو وجهاً غريباً جميلاً يدثـره الحلم كوجه بحار. أرسمه في مخيلتي خشية ألا أراه ثانية. وهذا ما يحدث عادة للوجوه التي أرسمها على هذا النوع من الورق. 

رحّبتُ بضيفي العملاق ثانية، مفسحاً له مجال الحديث عن سبب اقتحامه خلوتي بهذا الشكل. ليست المصادفة ما دفعته للدخول بالتأكيدـ التقت نظراتنا فابتسمت له، أردت أن أكون بشوشاً. لا، لم أرِد، هو طبعي الذي نشأت عليه في استقبال الآخرين. أو لعلّي أردت أن أقدّر أيّ نوع من الرجال هو؟ فخطوط وجهه الصّلبة ما أحسستها غريبة عني. شعرت أنها تسكن ذاكرتي، لا أدري كيف ومتى؟ ربما في رواية ما! سبّابته اليمنى تختزن قوة كامنة وتوتراً بادياً، فما هدأتْ تنقر الطاولة بإيقاع رتيب. خلته للحظات نسي وجودي أمامه. إلا أنّه حكَّ لحيته الشيباء التي كانت تمنح وجهه الأسمر، كدت أقول الأسود، خشونة ومهابة. صوّب عينيه كعيني سمكة في وجهي. ثم قدّم نفسه بهدوءِ من ناء بحمل الخطايا وأضناه الترحال: أنا سيِّد عثمان الغانم، مدرِّس اللغة الإنجليزية الجديد. 

كان صوته يهطل بطيئاً يختلط بحروف مثلّمة أثقلها المطر. دمدمت لنفسي "هو أنت إذن المدرّس المنتظر". لم يقل إنه سوداني، مدركاً أنّ لونه المميز، وجلابية بيضاء منـزوعة الياقة، فضفاضة الأكمام، وعمامة بحجم كفن، تكفي للدلالة على ذلك. نزلتُ عن السرير مقترباً منه.. وقفَ مرحِّباً بي. رفعت رأسي، كنت مضطراً أن أرفع رأسي لأحدّثه، وأرى تقاسيم وجهه، ولون الزيتون في عينيه. رغم أن طولي وحجمي لا بأس بهما قياساً لمن هم في مثل سنّي في شرقنا المتوسط. 

لأول مرة أرى سودانياً له عينان بلونٍ أخضر نضر. بدت نظراته وقسمات وجهه أقلّ قسوة من المرة الأولى! لعله انعكاس الضوء. مازال يترقب ردّ فعلي مثل أصيص خزفي فاجأَته الريح وهو على شرفة من فرح. 

رحّبتُ به: أهلاً بك أستاذ سيد.. لم يبدِ أيّ حركة تدل على أنه سمعني، فشككت أن صوتي غادر حنجرتي. كان منشغلاً بألمٍ ما في رأسه.

أعدتُ الترحاب بصوت أعلى: أهلاً أستاذ سيد.

ارتجفت عضلة تحت عينه اليسرى. لعلها ارتعاشة قلقٍ أو توتر. تساءلت في سري إن كان قد بدر مني ما يسيء؟ لعلّي رفعت صوتي أكثر مما يجب! 

ضغط على صدغيه بأصابعه وقال: 

أهلاً أهلاً. أخبَروني أن ألتحق بسكن المدرسين في غرفة المدرّس الحمداني. هل أخطأتُ العنوان؟  

لا، لم تخطئ. فقد آنستَ المكان. 

أفهم من ترحابك، أنك تـقبلني شريكاً في غرفتك؟  

قلت: شواطئ الشام تتسع لكل سفن الأحبة، حيّاك الله يا رجل وحيّا الرياح التي أرسلتك. 

وحيّاك، وحيـّاك! شكراً لك أستاذ......

عفواً لم أُعرّفك بنفسي أنا حمزة الحمداني من شرق المتوسط أحد رعايا مدينة نسيها الرشيد على شاطئ الفرات.

شدَّ قامته كسنديانة شامخة، مصافحاً باليمنى ومطبطباً يده اليسرى على كتفي الأيمن حسب الطريقة السودانية في التحية. لم أستطع مجاراته بالطريقة ذاتها، كان كتفه قريباً من السقف. كان عملاقاً. 

ضحكتْ ملامحه الجادة حين اكتشف ضآلة حجمي في ظل حجمه الوارف الظلال. 

    قال: تشرفنا أستاذ حمزة، وأعتذر عن دخولي غرفتك بهذا الشكل عليك الله تسامحني، فأنا... 

قاطعته بلطف وشددتُ على يده بقوة، أقصد حاولت أن أشدّ على يده بقوة، فكفي ضاعت في كفه: 

ـــ لا عليك أستاذ سيد. استرح، فلا حرج على من يركب الريح. 

ـــ الريح؟ وهل أبقت الريح مني سوى هذا الزول الذي أمامك.

إذا كان هذا ما تبقى منك، فهل كنت جبلاً مثلاً؟  

أعجبته فكرة الجبل. أخذ نفَساً عميقاً، ونفخ صدره باستعراض لا يخلو من مرح، ثم قال: 

آ... زول، وهل تراني غير ذلك؟ 

قلت مخففاً من وطأة المباهاة التي غمرته: 

لا أراك غير ذلك. ولَوو! أنت أكبر من جبل، ولكن يبدو أن لكلٍ منا ريحاً قذفته إلى أرض غير أرضه، ورياحك يا أستاذ جبل عاتية حتى استطاعت حملك إلى أرض اليمن.

ابتسم وردّ اللسعة بالمرح ذاته: ولا بدَّ أنَّ الرشيد نسي أن يترك على شواطئ مدينته سفناً تليق بربَّان مثلك كيلا يهاجر ويعمل ملاحاً في سفن غيره! 

كان ردّه قاسٍ وجارح. أيقظ في نفسي حرائقَ جرحٍ ليس كأيّ جرح، نهايات الشوك في كلماته آلمَـَتني، وأشعلت حطب روحي. ذكّرتني سبب هجرتي القسرية إلى اليمن. 

عم سيد! تراك غرزت أصابعك المالحة في قلبي!       

اعتذرَ بصدق حاسّـاً بالذنب: آسف حمزة، بجد أنا آسف، كنت أمازحك ليس أكثر، لا أدري كيف أتعامل معك وكيف أخاطبك. "دَا حين" أبوس راسك. 

أستغفر الله يا رجل، ولا يهمك، أنا مَن بدأ النـزال، ولا بد من الغبار. استرح أرجوك. منعته بلطف من تقبيل رأسي، وأحسست بالحرج من اعتذاره الشديد. ثم جلس صامتاً متربعاً كشجرة بكامل أغصانها. نظر إليّ ثم شرد بعيداً عبر النافذة. خلته يؤنب نفسه على يده المالحة تلك. لكنّه ضغط بأصابعه على صدغيه ثانية. 

لا بدّ أنّ الألم الذي انتابه قبل قليل عاوده ثانية. هدأَ ثم أخرج غليوناً ملأه تبغاً ذا رائحة عَطرة، وأشعله بعود ثقاب أبقاه مشتعلاً للحظات. أعاد الحركة أكثر من مرة ليتأكد من اشتعال التبغ. امتلأ المكان برائحة لذيذة. تصادف في اللحظة ذاتها أنّ ألماً فظيعاً كان يسيل في مؤخرة رأسي. فقد مضى وقت طويل وأنا أرتكب حماقة كتابة الرسائل، وظهري مشرع لقوافل من البرد القارص تدق عنقي. وهي عادة أخرى اعتدتها في مثل هذا اليوم من أيام الجُمع في ناحية "حوث". أبدؤها بعد الانتهاء من طقس غسيل الثياب ونشرها على الحبال في الساحة الخلفية للسكن. ثم الاستحمام والتطيب وارتداء الجلابية الخاصة بصلاة الجمعة. 

كان رأسه المدوّر مع لحيته البيضاء وعمامته المندَاة برذاذ السماء وغليونه المشرع تُشكّل تحفة أثرية تغري بالاقتناء فيما لو كانت في "غاليري للأنتيكا". عبثَ بقلم فحم تركتُه صباح اليوم على الطاولة، ثم سألني بثـقة العارف راغباً في تغيير طريقة النزال وهو يتأمل المكان: 

ــــ حمزة الحمداني! أيّ الحمدانيين تقصد؟ التغالبة؟ سيف الدولة أمير حلب! وأبو فراس الشاعر، أَم..؟ 

فاجأني سؤاله المبطن بالشك! فرددتُ بالمباهاة ذاتها التي غمرته قبل قليل: 

ــــ أَمّاذا! وهل تراني غير ذلك يا عم سيد؟   

دفع عمامته للخلف، وحكّ جلدة رأسه، فانكشف كمّه الواسع عن عضدٍ أسود كجذع سروة محترق. 

أظنه تفاجأ بالنديّة في ردّي. فقد رفع حاجبيه مستغرباً وقال: على هونك يا زول! لا تأخذك الحمية التغلبية، لقد كلّمَني "الحوثي" كثيراً عنك فأثار فضولي لمعرفة ما عندك. هذا كل ما في الأمر.  

كنت أعلم أن كلمة زول تعني رجلاً، ولكنّي ما كنت أرتاح لها حين كنت أُنادى بها من زملاء سودانيين في صنعاء، أُحسُّ أنّها أقرب إلى كلمة شبح من كلمة رجل. يبدو أنّي سأعتاد عليها منذ اليوم. 

ملأتُ الركوة ماءً أهيئُ له قهوة الترحاب. أرحتُها على بابور الغاز وتساءلت في سرّي، تُرى هل يمتلك كتباً في حقائبه؟ أمهووس بالقراءة؟ بالكتابة؟ هل يرسم؟ هل ينظم الشعر؟ هل.. وهل؟ والسؤال الأهم، أين عفشه وحقائبه؟ حرّكتُ القهوة وآثرت الصمت والتذكر للحظات. لا أدري لم راودني إحساس من يبدّد وقته في انتظار أن يحدث ما لن يحدث. فقد أطفأ هو غليونه، وأشعلت أنا... ذاكرتي.


تعديل المشاركة Reactions:
 عمامةٌ بحجم كفن

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة