recent
جديدنا

مازن عرفة لموقع «سبا»: العنف مزروع في ذاكرة «الفرد - الجماعة»، بتراكم غرائزي (2)

الصفحة الرئيسية


 

حاوره: إدريس سالم

 

في زمن تتآكل فيه الهويات، وتُقصف فيه الذاكرة، تأتي روايتا «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية»، للروائي السوري مازن عرفة بوصفهما مغامرتين سرديتين، تسعيان لا إلى توثيق الواقع، بل إلى تفكيك بنيته النفسية والوجودية، عبر استحضار المنفى كمنفى داخلي، والثورة كتصدّع وجودي، طويل الأمد.

ليست «الغابة السوداء» حكاية لاجئ فقط، بل مرآة مشروخة للذات المنفية في «الغرب»، حيث تختلط الغربة الجغرافية بالغربة الوجودية، وتتحوّل المدن إلى ظلال وأقنعة وهلوسات. أما «داريا الحكاية»، فهي لا تسرد تاريخاً محلّياً لمدينة مدمّرة فحسب، بل تحوّل المدينة إلى كائن ينزف، ويحكي، ويقاوم الفناء بصوته المقطّع عبر الأجيال الجديدة الممزّقة.

وللحديث أكثر عن ذلك، يكمل موقع «سبا» الثقافي، الجزء الثاني من هذا اللقاء، وهذا الحوار:

 


السؤال السابع: كثيرون يتّهمونك بأنك تكتب «رواية سياسية»، رغم أنك تكتب كلّ أنواع الروايات، وتدمجها داخل نصّ روائي واحد. هل تعتقد أن هذا الاتّهام ينبع من صعوبة استيعاب رواياتك المتعدّدة الأبعاد، أم هو نتاج غياب القارئ للنموذج الروائي الشامل، الذي تطمح إليه؟ وكيف تؤثّر هذه النظرة على رؤيتك لإبداعك الأدبي؟

كثير من النقد الذي كتب عن رواياتي يقاربها بالأحرى سياسياً أكثر ممّا هو أدبياً، إما لضعف الإمكانيات النقدية لدى الناقد، وتطفّله على المجال النقدي، أو لغياب الرؤى لديه حول دور الأدب في إعطاء المعنى للوجود الإنساني. النقد الأدبي المنطلق من رؤى سطحية سياسية هو السائد والأسهل بكليشيهات جاهزة، ويظهر الناقد فيه «محلّلاً فاشلاً» للواقع السياسي، وليس للرواية، ويحاكمها وفق رؤى إيديولوجية، لا علاقة لها بالأدب نفسه.


يعتقد كثير من الأفراد في مجتمعاتنا إنهم «قادة مخضرمين»، قادرين على تحليل ليس فقط القضايا السياسية، بل وأيضاً الأدبية والعلمية والاقتصادية والدينية والأخلاقية، ضمن عقدة «النرجسية الذاتية المتعالية»، النابعة من «الدونية الشخصية» و«الدونية الجمعية»، السائدة لدينا بتشابكاتهما الاجتماعية. يؤكّد ذلك على سبيل المثال انتشار الفيديوهات، السائدة حالياً على وسائط الاتّصال الاجتماعي، لأشخاص نرجسيين، يتحدّثون يومياً كمحلّلين مختصّين، في أيّ موضوع، لا يهمّ، المهمّ أن يتحدّثوا. ومثلها المقابلات الطويلة، المسمّاة «التريندات»، التي تصل إلى ثلاث ساعات، ويتمّ الحديث فيها سطحياً عن كلّ شيء، فيما لا يُفهم منها أيّ شيء ذي مغزى (المبالغة هنا مقصودة؛ بسبب شعور الإحباط الذي يرافق مشاهدتها). من هنا سمة إدماج السياسي في أيّ موضوع، وهو ما يُعتقد أنه الأسهل، في هروب تعويضي عن الضعف المعرفي والهزالة الفكرية، ليصل هذا بالطبع إلى النقد الأدبي.

بعد انفجار «الثورة السورية» في إطار «الربيع العربي»، بكلّ تعقيداتها المتشابكة، انطلاقاً من «الانتفاضة السلمية»، ومروراً بـ «العسكرة»، وليس انتهاء بـ «الأسلمة»، ظهر كمّ كبير من الروايات السورية، التي تحاول مقاربة هذا الحدث، لا يخلو بالتأكيد الكثير منها من إنتاج نوعي متميّز. لكن مع «النتائج السياسية والاجتماعية والإنسانية الكارثية» التي انتهت إليها «الثورة»، إضافة إلى خيبات الأمل المريرة المرافقة لها، يبدو أن الحماس للكتابة عنها – خاصّة روائياً – قد خفّ الآن، إن لم يكن شبه أضمحلّ. كأن الرواية عن «الانتصار الحتمي القادم للشعوب الثائرة على درب الحرّية» كانت «موضة استهلاكية»، وينبغي استغلالها للشهرة في نطاق «العولمة الثقافية»، والوصول إلى نيل الاعتراف، وحصد الجوائز. لكن ما إن تتالتِ الخيبات في نتائج «الثورة»، حتى اختفى سحر هذه «الموضة»، ويتمّ الآن البحث عن «موضة جديدة»؛ ربما «البكائيات على أطلال المجازر الجديدة»، بالانتقال من «البراميل المتفجّرة» للنظام الديكتاتوري العسكري البائد، إلى «سكاكين» التنظيمات الإسلامية وتكفيراتها الدموية. ويشابه هذا تنصّل الكثيرين من مفاهيم «الثورة السلمية والديمقراطية» وحتى «العلمانية»، التي ميّزتِ البدايات، وشاركوا هم فيها، وقد انتهت «موضتها» الآن، ومن ثم انجرارهم الحالي إلى شعارات دينية وطائفية وعنصرية، هم أنفسهم يساهمون حالياً في إيقادها وزيادة حدّتها.

في ذروة صعود الرواية السورية بعد حدث «الثورة»، ساد رأيان متضادّان في الكتابة عنها. يرى الأول أنه ينبغي الكتابة مباشرة؛ لأن الروائي يعايش في هذه الحالة الموت والمجازر والكوابيس اليومية بكلّ مشاعره، ممّا يمنح روايته حيوية خاصّة مرتبطة بهذه «المقاربة اللصيقة»، وهو ما لا يمكن الحصول عليه انفعالياً في المستقبل. بالعكس، يرى الرأي الثاني أنه ينبغي انتظار انقضاء الحدث، ومراجعته تالياً بنظرة متأنّية، لتقديم نظرة أكثر موضوعية عند الكتابة، فينجو الروائي من الوقوع في فخّ الانفعالية الآنية والتمجيد لشعارات، لن يُكتشَف زيفها إلا بعد مرور الزمن.

على الرغم من أني أكتب نصوصي بطريقة مغايرة لهاتين الرؤيتين، فأنا أميل نفسياً إلى الأولى منهما، أيّ الكتابة في خضم معايشة الحدث بكلّ انفعاليته، لكن بشرط خاصّ جدّاً، وهو أن تكون الرؤى الاستشرافية الإنسانية بالأصل واضحة للروائي.

إن وضوح الرؤية الفكرية عن مجتمعات «الاستبداد الشرقي» تؤكّد إن الفرد هو نتاج تاريخي لبناها الاجتماعية العنفية (العسكرة، والأسلمة، والترييف، والبداوة)، ومَن يكون في مرحلة ما ضحية (فرداً أو جماعة)، قد يتحوّل ببساطة في مرحلة تالية إلى «جلّاد»، عندما تحين الظروف المناسبة له. ويحدث هذا باسم «الثأر» و«الانتقام»، بأصولهما العشائرية – العائلية، وليس بمفاهيم «العدالة الانتقالية» المغيّبة. بهذا المعنى تكون «السادية» برمزيتها «الجنسية – السياسية» كامنة في الفرد نفسه، نتيجة هذه البنى الاستبدادية التي يعيشها تاريخياً، وتظهر ببساطة في تبادل للعب الأدوار، تحت غطاء سياسي سطحي. وضمن هذه التبدّلات، تستطيع البنية الذهنية الانفعالية للفرد والجماعة ببساطة تحويل البطل المفترض أنه ثوري إلى مجرم حرب سفّاح، وبالطريقة نفسها الإسلامي التكفيري المتوحّش إلى ثوري منقذ.

يُضاف إلى ذلك أن القليل في مجتمعاتنا مَن ينجو من تراتبية البنى التقليدية؛ العائلية، والعشائرية، والدينية، والطائفية، فما إن تتاح لفرد ما استلام سلطة، حتى يتوج نفسه مباشرة إلهاً، ينبغي على الجميع أن يعبده، ويقدّم له الطقوس الدموية. وهو يستغلّ في الوقت نفسه حاجة بقية الأفراد أن يكونوا جزءاً من القطيع، كبُنية تاريخية لتقبّل الخضوع والذلّ، خاصّة أمام ألوهية السلطة، وهؤلاء سيتحولون بسهولة من «تمجيد السلطة» إلى «عبادة الإله – الفرد». مثل هذه الأوضاع المشوّهة خلقت منّا تاريخياً مرضى نفسانيين، انفصاميين، مليئين بالعقد اللا واعية، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي.

هذا الوضوح الفكري والرؤية الاستشرافية للمستقبل، هما ما ينبغي على الروائي امتلاكهما؛ لأن أيّ تشويه أو خلل فيهما سيتسلّل بسهولة إلى نصّه، ويجعله بالتالي وقتياً، غير صالح لكسر حواجز الزمن، بسبب انعدام مصداقيته الإنسانية. هذا بغضّ النظر عن القول إن الرواية لا تُبنى فقط على الحوادث الكبيرة والدرامية في المجتمع، إنما أيضاً على تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، والقدرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية. وهنا بالذات يلعب أيضاً هذا الوضوح والاستشراف دورهما في التعبير عن المكوّنات الثقافية الصغيرة، لكلّ المجموعات المكوّنة للمجتمع، ورفض ازدراء بعضها بدوافع دينية أو عنصرية، فالمشاعر الإنسانية هي كونية بحدّ ذاتها، وخاصّة بالنسبة للإنسان المقهور، مهما كان انتماؤه الثقافي.

ويقودنا هذا للتساؤل، وفي إطار الرؤية الأولى المندمجة مع انفعالية الحدث، ألا تحتاج الرواية إلى بطل؟ نعم. البطل هو ذاك الإنسان المسحوق بالفقر والقهر والإذلال اليومي، المنتفض بلحظات إنسانية من أجل كرامته. وانتفاضته ليست فقط سياسية، بل وأيضاً ضدّ البُنى الاجتماعية الشرقية المتخلّفة (وهذا ضمانة، كي لا يتحوّل مستقبلاً إلى جلّاد). تكمن المشكلة هنا في روحية «الثورة السورية» نفسها، التي انفجرت ضدّ الظلم «سياسياً»، وليست «اجتماعياً»، ممّا جعل بطلها الحقيقي ينزاح جانباً ببساطة (في الأجواء العامّة التي تسود منطقة الشرق الأوسط والتداخلات الإقليمية فيها) لصالح «الجهادي» بـ «ثوبه الأفغاني»، القادم من وراء بسطة الخضار ـ بمعناها الرمزي، ليُستبدل «العمل الثوري» بـ «العمل الجهادي»، و«درب الحرّية» بـ «الطريق إلى الجنّة». وغالباً ما يموت البطل المقهور منسياً، إن لم يكن في معتقل، أو في مذابح مجنونة، تُستخدم فيها البنادق أو السكاكين، لا فرق. نحن بطبيعتنا الشرقية لا نحتفل بموت الناس البسطاء، لا نحترمهم، بل نسعى إلى أسطرة رموز استيهامية، «ثورية» أو «جهادية»، لا فرق، هرباً من إخفاقاتنا الفردية والجمعية. ورواياتي تحاول إحياء هذا الإنسان البسيط عبر سرد «حكايته».

بالطبع لا أنتمي إلى أيّ من هاتين الرؤيتين لمقاربة الحدث روائياً، وفي الوقت نفسه أنتمي إليهما، فأنا لم أنشر رواياتي إلا بعد الخمسينيات من عمري؛ لأنني ببساطة لم أكن روائياً، وما زلت أظنّ ذلك (بمعنى الاحتراف). أن أجلس وأكتب رواية بفكرة محدّدة وسياق واضح، هو فعل لا أتقنه.

منذ طفولتي، وأنا أكتب مذكّراتي (الدفتر الأول يعود إلى الصف السادس الابتدائي)، ولم يكن ذلك بغرض توثيقي، وإنما بسبب رغبة نفسية في التخفيف من ضغوط الحياة اليومية، وفي الوقت نفسه محاولة إيجاد معنى لوجودي، وإن عبر التفاصيل اليومية.

لكن في الحرب تتغيّر الرؤى، خاصّة مع احتلال البناية، التي كنت أعيش بها من قبل عسكر الديكتاتور، وقد أصبحت موقعاً عسكرياً، والأصعب تحوّلها أيضاً إلى معتقل أولي، يُمارس فيه التعذيب الوحشي. وجدت نفسي عندئذ أني أعيش في عالم غاية في العبثية والسُّريالية، لا أحلم فيه بالكوابيس، بل هو الكوابيس ذاتها. كانتِ المداهمات المستمرّة لشقّتي والرعب المستمرّ من الاعتقال والتصفية، كان انتشار الجثث في الشوارع والطرقات تعبيراً عن الموت المجنون، الذي ينتظر الإنسان خلف كلّ زاوية، كان القصف التدميري للبراميل المتفجّرة والتدمير الوحشي الممنهج، الذي يحدث حولي... كلّ هذا مجرّد إكسسوارات لهذه الكوابيس. في هذا الجنون، لم يكن لعجزي إلا أن يتحوّل إلى تمرّد صامت، يغلي في داخلي، خاصّة أني اخترت البقاء في البناية متحدّياً (بعد فرار أسرتي وسكّانها منها). انتهى عندئذ دور الكتابة اليومية كتفريغ للتوتّرات النفسية، وتحوّلت إلى فعل مقاوم. وإذا نجوت من الانهيار في تلك الفترة، التي امتدّت ما يقارب ستّ سنوات من المواجهة اليومية مع الموت، فإن ذلك حدث بسبب الكتابة كفعل شخصي منحني الصمود، دون معرفة النهاية، فقط بوجود الأمل (وهذا ما سيأخذ معناه في رواياتي بشكل جذري لاحقاً؛ «سردية الحكاية» كأمل في مواجهة «الزمن الأسود».

عندما نجوت متأخّراً بالخروج من البلاد (عام 2017م)، أصدرت سبع روايات (واحدة منها صدرت بظروف معقّدة في بداية الأحداث في سوريا)، وما زلت مستمرّاً. كثير من النصوص فيها كانت مكتوبة سابقاً كمسودات، في لحظات الرعب داخل البناية – المعتقل السُّريالي، وما كان عليّ سوى إعادة ترتيبها وتطويرها. لا يمكنني القول إن هذه «روايات» متكاملة بحبكة تقليدية (بداية وذروة ونهاية)، بل هي سلسلة من «حكاية مستمرّة»، لن تتوقّف إلا بموتي. من هنا يبدو مشروعي الروائي عن «الحكاية السورية» سيرة حياة، تستمرّ وتغتني وتتطوّر بالتجارب الجديدة، التي أعيشها باستمرار، وأسجّلها ليس كنصوص تقليدية، وإنما كخيال استيهامي جامح بالانفلات من الواقع المحبط المدمّر.

على الرغم من ارتباط هذه «الحكاية الروائية» بحياتي اليومية، فهي لا تقدّم سيرتي الشخصية، بل بالأحرى سيرة الفرد في إطار التحوّلات الكارثية المتلاحقة، التي تعيشها مجتمعاتنا باستمرار، وتلاحقه حتى إلى «المنفى الخارجي». منذ بدء كتابة المذكّرات، كنت مراقباً متتبّعاً لما يحدث حولي، لذلك فـ «أنا – الراوي» هو عملياً «نحن – الراوي»، وهذا البطل الفردي فيها «أنا»، هو في الوقت نفسه البطل الجمعي «نحن». ونحن أبناء النصف الثاني من القرن العشرين، لم نكن منعزلين عن بعضنا بعضاً، كانت حياتنا الاجتماعية غنية بالتجارب الجمعية المشتركة المتفاعلة، المغتناة بالتنوعات الثقافية للمجموعات المكوّنة للمجتمع (أعتقد أن الوئام القديم لن يعود بعد التمزّقات الاجتماعية – النفسية الحالية)، وكانتِ التجارب السياسية – وإن كانت «طوباوية» في أهدافها – محرّكاً للحياة، ودافعاً للأمل ببناء حياة أفضل. وبغضّ النظر عن أن هذه المحاولات فشلت ليست فقط بطوباويتها غير العملية، وإنما أيضاً بتكافل «المدّ الديني» مع «الأنظمة العسكرية الديكتاتورية» على وأدها، وعدم إمكانية تحويلها إلى حلول عملية تقدّمية بشكل ما. لذلك فجميع عناصر الحياة وبتفاصيلها اليومية هذه تمسّ بجوهرها أيّ فرد كنتاج مجتمعي، وبالتالي يجد الكثير من القرّاء أنفسهم فيها.

وبما إنني سليل جدّتين؛ الأولى والدة أبي الريفية (من ريف دمشق)، والثانية والدة أمي المدينية (من مدينة دمشق)، فإن الارتباط الشخصي الشديد بهما، على الرغم من أني عشت عملياً في الريف، أبرز الكثير من تفاصيل الريف والمدينة في رواياتي. وقد برز هذا على سبيل المثال في رواية «سرير على الجبهة»، حيث قدّمتهما، ليس فقط بتفاصيل الحياة اليومية، بل وأيضاً عبر إعادة بناء ثقافي – أنثروبولوجي لكثير من العادات التي تمثّلانها؛ عالميّ المدينة والريف.

لهذا تمثّل نصوصي مراحل تاريخية منهجية لحياة الفرد السوري في فترات متلاحقة. ويمكن ملاحظاتها على الشكل التالي:

– فترة الرخاء الإنساني – الاجتماعي في الحياة السورية، بغياب «المدّ الديني، خاصّة السلفي الوهّابي»، و«النظام العسكري الديكتاتوري»، في فترة الخمسينيات وبداية الستّينيات من القرن الماضي، ومن ثم تمكّنهما تالياً في مجتمعاتنا. «وصايا الغبار».

– مقدّمات انفجار «الثورة السورية»، والبدايات السلمية لها ـ «الغرانيق».

– قمعية «النظام الديكتاتوري الوحشي» للثورة السورية. «سرير على الجبهة».

– كوابيس المنفى في الغربة، بعد محاولات التغيير الديموغرافي لسوريا والتهجير القسري منها. «الغابة السوداء».

– الحنين إلى «الحكاية السورية» في المنفى، ومحاولة إعادة بناءها ثقافياً – وأنثروبولوجياً. «داريا الحكاية».

– شروخ المنفى، وما يتركه الاغتراب القسري على المُهجّر المقتلع من «حكايته». «ترانيم التخوم».

– المأساة الإنسانية الكونية عبر «الديكتاتور العسكري – الديني» العابر للأزمنة والأمكنة. «نزوة الاحتمالات والظلال».

... ومازلت «الحكاية» مستمرّة، ما دمت أعيش.

أجيال من السوريين مرّوا بهذه المراحل الاجتماعية – السياسية تاريخياً، عاشوها وما يزالون يعانون من نتائجها. لكن هذا لا يعني أن رواياتي هي توثيق تاريخي لهذه المراحل، إنما تشكّل فقط خلفية للأحداث السردية؛ ما يهمّني في النهاية هو «الفعل الإنساني» في بيئته الاجتماعية، عبر تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة. بل إن التداخل الزمني – النصّي بين هذه المراحل في الروايات بمجملها واضح، بعيداً عن هذا التقسيم التاريخي. الفرد يسترجع ذكرياته باستمرار، ويعيش الحنين لأيّامه السابقة، فتنمحي التخوم الزمنية – المكانية حتى في الرواية الواحدة (بفعل تقنية أحلام اليقظة، والهلوسات التي استخدمها بفعالية، على سبيل المثال).

وهنا أصل إلى محاولة الإجابة على السؤال عن تصنيف رواياتي، الذي دون هذه الرؤية المعروضة سابقاً، لا يمكن مقاربته بسهولة. أنا لا أكتب الرواية السياسية، ولا الاجتماعية أو الفلسفية أو التحليل النفسي أو الخيال العلمي، أنا لا أكتب «الرواية» بحبكتها التقليدية، إنما «سيرة الحياة»، وبصورتها «الفردية – الجمعية»، التي تشمل كلّ هذه التنوّعات معاً. و«سيرة الحياة» بعيداً عن أيّ تصنيف هي الحياة نفسها بكلّ غناها اليومي، لكن في بلادنا هي مؤطّرة بالقمع والرعب والتمزّق الوحشي الذي نعيشه يومياً، ويلاحقنا تاريخياً، حتى في بلاد منفانا (هذا دون الحديث عن المنفى الداخلي في أرواحنا). وبعيداً عن السرديات المتعارف عليها، فسيرة الحياة هذه ليست لديها أيّ بنية تقليدية (بداية وذروة ونهاية)، كلّ فصل فيها هو بداية، تحمل في داخلها إرهاصات الماضي، بل كلّ مقطع فيها هو بداية، لكنها جميعها دون نهايات، ما دامت حياة الإنسان مفتوحة حتى لحظة موته. هي تمثّل آنية الحاضر وتفاعلها مع اللحظة المعاشة، بكلّ أثقالها من الذكريات والحنين، دون معرفة نتائجها المستقبلية في الحقيقة (وأحلام اليقظة لا علاقة لها بالطبع بمستقبل وجودنا)... وهو ما أسعى إلى كتابته.

ربما يرتبك القرّاء بمحاولة تتبّع سردية ما في نصوصي، بحثاً عن ترابط منطقي سببي، فلا يجدونها. لكني أعرف من احتكاكي بهم أنهم على الرغم من ذلك يتفاعلون معها بحيوية، إذ يجدون فيها عالمهم السرّي المبهم، الذي يطفوا على السطح عند قراءتها، فيكتشفون ذواتهم الممزّقة، وهو ما لا يستطيعون البوح به بأنفسهم، أو بالأحرى لا يجرؤون. هنا أستعيض عن غياب السردية الواضحة بتقنية «المونتاج» التي تربط أحداثاً منفصلة زمنياً ومكانياً، دون تسلسل سببي ومنطقي، كما يحدث في «أحلام اليقظة»، وهذا هو المفتاح – الشيفرة لكشف العوالم السرّية الداخلية للفرد روائياً.

أما الارتباك الحقيقي فيحدث للنقّاد التقليديين، الذين يجدون صعوبة في الاقتراب من العوالم السرّية الداخلية لنصوصي الروائية، فيحجمون عن الكتابة عنها. وإن كتبوا نقداً ما، فلا علاقة له بنصّي، وإنما بما يتخيّلونه عن كيفية وقوع حدث ما فيه، وإذا ما أجروا حواراً معي، فيتركون لي عملياً صياغة الأسئلة والأجوبة. أعرب لي مرّة صديق ناقد أنه لا يعرف ماذا يكتب عن «داريا الحكاية»، على الرغم من استمتاعه بها، فالأحداث فيها هلامية غير مترابطة، ولم يستطع أن يلتقط مرتكزاً وسيرورة لها. وناقد آخر اضطرّ أن يكتب عن «الغابة السوداء» بتكليف رسمي، فأخذ يبحت عن تفاصيل تشكيل حكايته عن هروب البطل من سوريا إلى «الغرب»، متسائلاً عن غياب تفاصيل الفرار وكيفية وصوله إلى هناك، وهي مجرّد تفاصيل عابرة، موجودة فقط في الفصل الأول. أما جوهر الفصول التالية، التي تحتلّ الكوابيس فيها (90%) من الأحداث، فلم يقترب منها، وبالتالي أحجم عن الكتابة عنها في نقده، فأساء للنصّ الروائي، أكثر ممّا كان من المفترض إشهاره.

السؤال الثامن: في الحرب، أحياناً يفقد الإنسان القدرة على فهم نفسه، والواقع المحيط به، وهذا ما تبرزه في «الغابة السوداء» بشكل جادّ، بحيث يشعر القارئ وكأنه يغوص في عدم الفهم، وربما في جنون سردي، كيف وصلت إلى هذا الأسلوب الأدبي الإبداعي، واستطعت أن توصل إلى ما وصلت إليه؟ وما الذي دفعك إلى تبنّي هذا الأسلوب؟

الأفراد، في مجتمعاتنا الشرق – أوسطية، منهكون تاريخياً، على المستويات الاجتماعية – النفسية؛ بالقهر والذلّ والفقر والجوع والموت المجّاني، وجميع هذه المظاهر تحدث بشكل عبثي على المستوى اليومي. تبدو كأنها أصبحت مزروعة في جيناتهم تاريخياً، من زمن «السلطان والخليفة»، وما زالت مستمرّة مع «الجنرال والزعيم الجهادي». لا يتوارثونها فقط من جيل إلى آخر، بل وتحصل فيها أيضاً طفرات مدمّرة متتالية بشحنات متزايدة من الآلام المتزايدة، بحكم البيئة المتوحّشة المعادية لإنسانيتهم التي يعيشون فيها. تنتج هذه المعاناة اليومية ليس فقط عبر الاستبداد السياسي – العسكري والتوحّش الديني المتطرّف، بل وأيضاً الحروب العبثية المستمرّة المثارة بهما. ويفاقم سوء الأحوال هذه التصحّر الزاحف والجفاف الضارب في المنطقة بيئياً، وغياب «الدولة» القادرة على حلّ أيّ مشاكل اقتصادية – بيئية. «الدولة» هنا هي سلطة أوليغارشية – أمنية، تتخصّص فقط بتشكيل «مافيات وطنية»، عابرة لأيّ سلطات تشريعية أو تنفيذية، تحت مزيج من مسمّيات سياسية ودينية وطائفية وعرقية، لنهب خيرات «البلاد – المزرعة». وإذا ما ساءت أحوالها، فهي مستعدّة لبيع ما تبقى من الثروات الوطنية للاحتكارات الأجنبية، بما فيها الهواء الذي يتمّ تنفّسه، مقابل بقائها في السلطة.

في ظلّ هذه الظروف المتوحّشة، يعيش الأفراد مدمّرين مادّياً، ممزّقين روحياً، مريضين نفسياً، مستنزفين عاطفياً وإنسانياً، فاقدين للأمل، لا يأمنون حاضرهم، كي يفكّروا بمستقبلهم، بل لا يأمنون ليلهم، كي ينتظروا صباحهم. كأنه ليس أمامهم إلا طريقين لا ثالث لهما، إما الموت قهراً صامتين، وهو ما يمسّ الأغلبية، أو الانضمام إلى إحدى المافيات والتحوّل إلى فاسدين، مبتزّين، أو بالأحرى إلى «جلّادين»، فيفقدون أرواحهم وإنسانيتهم. بمحصلة هذه العوامل مجتمعة لا يفقد الإنسان فقط القدرة على فهم نفسه، والواقع المحيط به، بل وأيضاً على فهم وجوده، في عالم تحكمه المافيات الوطنية، المتحالفة مع وحشية الاحتكارات العولمية، وهو ما يزيد من اضطرام كلّ هذا الخراب في منطقتنا.

الإنسان في مجتمعاتنا هو منفي في بلاده، ومنفي عن ذاته، منفي عن الوجود، لا حدود لآلام اغترابه النفسي – الوجودي، وهو أينما يمضي يحمل منفاه هذا في روحه. وعندما يصل مهجّراً قسرياً إلى بلاد «الغرب»، إن نجا من موت مباشر في بلاده، يواجهه هنا موت بطيء، أقسى وأشدّ عذاباً. تنمحي ذاكرته، وهو يصطدم بمجتمع بارد عاطفياً، تتسلّل برودته حتى إلى أبناء جلدته الذين سبقوه إليه، وأصبحوا يفتقدون الروابط الحميمية فيما بينهم، فتتفجّر وحدته في كوابيس لا نهائية... هذا ما يحدث لبطل «الغابة السوداء»، المُهجّر القسري، الذي يحمل سمات «الأنا الفردية – الجمعية» الممزّقة في لا وعيه وجيناته، أما ذاكرته فقد أضحت مشروخة.

الحرب مريعة بكوابيس مجازرها ووحشيتها ودمارها... لكن ماذا يحدث لفرد هارب منها، عندما يستيقظ ذات يوم في شقّة مريحة ومرفهة وآمنة، لكنه يجد نفسه وحيداً فيها. سرعان ما ينتابه القلق، ما إن يخرج إلى الشرفة، إذ يجد البنايات في الحيّ الذي يسكنه فارغة من الناس، يتجوّل في الشوارع، فلا يجد أيضاً أيّ أثر لهم. يتسلّل الذعر إليه بالمطلق، عندما يكتشف أن المدينة كلّها دون بشر، وأنه هو وحيد فيها، على الرغم من وجود سلاسل طويلة من السيّارات المتوقّفة، والشرفات المفتوحة الأبواب، وأراجيح الأطفال المهتزّة، لكن لا أحد فيها... عالم كامل هو وحيد فيه؛ لا صوت، لا ضجّة، لا نداء، كأنه يعيش في «محاكاة كونية إلكترونية» مصمّمة له فقط، إنما لا يدركها، ولا يدرك وجوده فيها. والأقسى أنه دون ذاكرة، دون حنين لشيء ما، لا يحمل أيّ وثائق ما تثبت شخصيته، وحوله لا صحيفة، لا هاتف، ولا أيّ من وسائط الاتّصال، بل لا كهرباء، لا شموع، لا شيء للإضاءة ليلاً. لا يعرف مَن هو، ولا حتى صورته، فلا مرآة في البيت، ولا يفهم كيف وصل إلى هنا، ولماذا، وماذا عليه أن يفعل. لا شيء، فالطعام والشراب متوفّران، والسرير مريح للنوم، فقط يصحو صباحاً، وينام مجبراً مع سقوط عتمة المساء، لكنه وحيد في عالم المدينة الفارغة... كم من الرعب المجنون سيعيشه هذا الإنسان في هذا الخواء المريع!

عندما يقرّر التنزّه، ويصل إلى مركز تسوّق، يظنّ أنه وجد أخيراً زبائن مثله يتسوّقون. لكن ما أن يمضي بعض الوقت، حتى يكتشف فجأة أن هؤلاء ليسوا أناساً، إنما صوره المنعكسة في مرايا متقابلة في المركز، تتكرّر بشكل لا نهائي. يفرّ إلى الخارج مذعوراً، يفاجئه وجود جثث حيّة تنتظره، يهرب منها، فتلاحقه، ثم تظهر حوّامات عسكرية تقصفها، دون أن يفهم ما يحدث، دون أن يدرك أن كلّ هذه الهلوسات تتسلّل من شقوق في ذاكرة مشروخة في لا وعيه. هكذا، يمضي النصّ الروائي بغرابة مرعبة، وشوارع المدينة تمتلئ بنسخ أشباح متكرّرة، هي هلوساته التي تلاحقه، وتتجسّد جنوناً... وتستمرّ الرواية، دون نهاية، فهو لن يعرف في النهاية مَن هو، ولا كيف وصل هنا، ولماذا.

لا يستطيع أيّ سرد تقليدي أو حبكة مترابط منطقية أن تصف جنون الإنسان في مجتمعاتنا، أن ترسم كوابيسه وهلوساته المرعبة، وهو الذي فقد عقله عملياً، وروحه إنسانياً، وذاته وجودياً، سواء كان موجوداً في البلاد أو في المنفى... إلا بجنون سردي أقسى، يذهب به إلى أقصى انفلات لحدود السُّريالية والغرائبية، إلى أقصى انكسار لحدود الرعب بلا معقوليته. من دون جنون سردي، أعلى مما يحدث للفرد من جنون في الواقع، لا يمكن الوصول إلى عمق المأساة التي لا توصف إلا بهلوسات أعلى. وأنا لم أبتكرها، إنما الواقع الذي أعيشه، ويعيشه كلّ فرد مثلي، هو الذي يبتكرها، تعبيراً عن حالة وجودية إنسانية نعيشها. السرديات التقليدية البليدة، المصطنعة الفاشلة، فقدت مصداقيتها في وصف الوقائع، ونحن متعبون من لغتها الواقعية السمجة، وسردياتها المستخّفة بعقولنا. وهي مرتبطة بالإيديولوجيات السلطوية والدينية؛ حكايات تمجيد «الجنرال – الإله»، و«الجهادي – الإله». نحن متعبون من كلّ شيء، وبحاجة لصدمة، تنقذنا من سلطة التخدير.

تمرّ عدّة سنوات على الإقامة في المهجر، ولا أزال أعيش الكوابيس المريعة نفسها كلّ ليلة، أعيش عالم رعب ليلي موازي. وعندما أستيقظ محموماً، متعرّقاً، لا أجد متنفّساً أمام وحشة فردية تحيط بي (وإن بمعناها الرمزي المجازي) سوى النوَسَان بين الهروب من النهار، ومن ثم الهروب من الليل. وهو ما يعيشه كثير من الأفراد مثلي، بل ووثّقوها في نصوصهم. وإن كانت هذه التقنية موجودة سابقاً في نصوصي السابقة، فإنها بلغت في «الغابة السوداء» الحدّ الأقصى في تطرّفها، تعبيراً عن أعلى درجة من التمزّق الإنساني، من فقدان الذاكرة والذات والأمل.

السؤال التاسع: كيف يمكن لكوابيسك، المتشكّلة من تداخل الوعي واللاوعي، الممتزجة بسحر سرديّ خاصّ، والمتحوّلة إلى ما يشبه محاكمة روحية، داخل ذاكرة ملوّثة بالحرب والمنفى، أن تتجاوز كوابيس فرانز كافكا المغمورة بالكوميديا السوداء والعبث الوجودي؟ وكيف تنظر إلى دور الكوابيس في كشف تشوّه فكرة النجاة؟ وهل تراها امتداداً لواقع لا ينتهي، أم استعارة نفسية لخراب داخلي مستمرّ؟

البحث مستمرّ في نصوصي عن لغة مكثّفة متجدّدة وأساليب سردية مبتكرة، للتعبير عن عمق مأساتنا الوجودية الدائمة والمتفاقمة، والمنفلتة من أيّ تأطير معياري تقليدي. لغة وأساليب أستطيع بها تشكيل نصوص ما بعد حداثية، نواجه بها ذواتنا المشروخة بحقيقة الدرك الذي نسقط فيه، ولا نصل فيه إلى قاع، بل ونستمرّ في السقوط. نحتاج الآن أكثر إلى نصوص تتجاوز العبثية المبهمة في مأساتنا بعبثية أكثر جنوناً وانفلاتاً، وتتجاوزها متحدّية. يتطوّر هذا البحث ويتجدّد بوسائل مبتكرة مع كلّ نصّ روائي جديد لي، وهو يتعقّد بقدر ما تسير حياتنا في الواقع إلى عبثية انهيار أكبر فأكبر، لا يمكن فهمها والسيطرة عليها إلا بجنون لا حدود له. يمكن تجاوزاً الإشارة إليها بلغة الشواش وأساليب انكسار التخوم الزمنية والمكانية، المناسبة لكوابيس الرعب والخراب الروحي والنفسي، فربما نتمكّن من كشفها من أجل مواجهتها.

ولفهم ما أستخدمه بطرائق متجدّدة، سألجأ إلى أمثلة نعايشها، تعجز فيها اللغة الواقعية والأساليب التقليدية عن التعبير عنها.

في فيديو شهير، (وقد كنت أشرت إليه في القسم الأول من الحوار، ال1ي نُشر في 23 حزيران، 2025م) انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة قبل عدّة سنوات، يُصدر تنظيم إسلامي متوحش – وبالمناسبة كلّ التنظيمات الإسلامية متوحّشة – حكماً على شابّ، لم يتجاوز الثامنة عشر عاماً من ميليشيات النظام الديكتاتوري السابق، بدهسه تحت جنازير دبّابة، نتيجة لقيامه سابقاً بالفعل نفسه مع جثث لرجاله. وتم تنفيذ الحكم بتصوير مباشر بأدقّ التفاصيل، وبسادية وحشية غير مسبوقة في عالم الصورة الإلكترونية الحديثة. كان من إحدى ردود الفعل على ذلك قيام ميليشيات النظام بنشر صورة بفعل مقابل، تمّ فيه دهس سجين مجهول من معارضي النظام الديكتاتوري لديهم، وقيام عناصر منهم بالتقاط الصور التذكارية مع الجثّة، وقد فُرم نصفها السفلي تحت الجنازير. مقابل تهليلات «الله أكبر» في الفيديو الأول، وانتشاره بكثافة على مواقع التواصل، التي حذفت معظمها القسم الأخير من الفعل الوحشي للدهس، لاقى الفيديو الثاني مباشرة آلاف اللايكات المؤيّدة من جمهور النظام منذ الدقائق الأولى؛ الوحشية تتفجّر بوحشية مقابلة، وبتأييد سادي عارم من جمهور متعطّش للدماء، ينتمي إلى الطرفين المتعارضين.

أمام هذين الحدثين المصوّرين، تساءلت مَن هم «المتوحّشون» في الواقع حقّاً، إذا كان الطرفان يمارسان الوحشية نفسها. أجد أن العنف – وهو ما أحاول إبرازه دائماً في عرض آرائي – مزروع في ذاكرة «الفرد – الجماعة» في مجتمعاتنا، بتراكم غرائزي تاريخي قديم، بغض النظر عن أيّ جهة تقف وراءه، وسواء كانتِ الشعارات التي ترفعها دينية أو طائفية أو عنصرية. لكن كيف يمكنني تقديم هذه الحادثة بنصّ روائي لي بطريقة غير معهودة، ليس فقط كي أعبّر عن هذه الوحشية، بل وأجعلها أيضاً إنسانياً عابرة للذاكرة والزمان والمكان حتى لا تُنسى.

شاهدت صور الحدثين عشرات المرّات، وأنا أعيدهما تكراراً، حتى أصبحت جزءاً من أجوائهما. بدأت أتلبّس الشخصيتين المهروستين، لا فرق، فكلتاهما كانتا بالنسبة لي إنسانيين حقيقيين، لا يهمّني انتماؤهما. أتلبّسهما بمشاعرهما وذكرياتهما، أحلامهما وآلامهما، فهما أبناء البلد الذي أنتمي إليه، وأعرف عاداته جيّداً، إنهم أنا. لكن تفاصيل الفيديو الأول هي المرعبة بشكل لا يصدّق، فوجدت نفسي داخله. هكذا، أقف أمام الدبّابة، وأنا في اللباس البرتقالي المخصّص للمحكومين بالإعدام، مُقيّد اليدين والقدمين. أعيش في البداية مشاعر عدم التصديق، ومحرّك الدبّابة يزمجر، مطلقاً دخاناً أسود، وأفكّر إن هؤلاء المجانين الذين يلوّحون ببنادقهم حولها، يتقصّدون فقط بإخافتي، كي يتسلّوا. ثم يرتسم الرعب على وجهي، وأنا أشاهد الدبّابة بصرير جنازيرها تتقدّم نحوي. أتقافز، وأنا أحاول لفت انتباههم بأن هناك خطأ ما، فالدبّابة تتقدّم نحوي، وتكاد أن تدهسني. لكنها لا تتوقّف، فأسقط أرضاً، وأشعر بالجنازير قد بدأت بفرم أصابع قدميّ... لا أتلبّس هنا فقط مشاعر الإنسان البسيط في خوفه أمام سادية الجنون، بل سألجأ إلى ذكرياتي الشخصية، عندما كنت أؤدّي الخدمة العسكرية الإجبارية. كان أحد التدريبات فيها يتضمّن التمدّد منبطحاً أمام الدبّابة بين جنازيرها، ومرورها فوقنا. قبلت وقتها التجربة كتحدّي للخوف، وعشتها بكلّ لحظاتها، وبقيت لا أنساها أبداً، رغم أن أيّ انحراف بسيط من سائق الدبّابة، قد يؤدّي إلى هرسي بجنازيرها. 

بهذه المشاعر والتجربة جميعها كتبت فصلاً، وأنا أتخيّل لحظات الموت هذه بدقّة للإنسان الذي سيُدهس. لكن بمونتاج الأسلوب الذي أستخدمه في نصوصي، كنت أنتقل بين شخصية الإنسان المذعور هذا، وشخصية أحد الملثّمين الجهاديين، الذين يصرخون «الله أكبر» على طرف الدبّابة، وثالثة لجندي بلباس مموّه يصرخ «يعيش الجنرال» على الطرف الآخر لها، متلبّساً تارة مشاعر الرعب لدى «الضحية»، وتارة أخرى مشاعر السادية لدى «الجلّاد». ثم تحوّل المونتاج إلى التقابل بين رعب «الضحية» وسادية سائق الدبّابة، وهما يتبادلان حواراً صامتاً بالعيون. عندما تدهس الدبّابة «الضحية»، وكانت آخر صورة له هي وجه والدته (من منطقة الساحل في الفيديو الأول، ومن غوطة دمشق في الصورة الثانية)، لينتقل الحوار إلى سائق الدبّابة المستمتع بوحشية غريبة، الذي لا يكتفي بالهرس، بل ويدور بالدبّابة في مكانها فوق الجسد حتى يطحنه بالكامل.

كتبت هذا النصّ الصغير عشرات المرّات، محاولاً تكثيف لحظات الرعب اللا معقول على كيان «الضحية» من جهة، والسادية على وجوه «الجلّادين» من جهة ثانية. كتبته وتزورني دمعتان، هما دمعتا الجثّة لحظة مفارقتها الحياة. أعرفها دمعة الجثّة، وقد شاهدتها مرّة عندما استرجعنا جثّة زوج أختي من المعتقل، ودفنته، وشاهدت الدمعة تحت جفنه في أثناء ذلك. كان هذا النصّ القصير هو الفصل ما قبل الأخير في «داريا الحكاية»، وقد حاولت به أن أنتقل بالحكاية من محلّيتها في منطقة صغيرة محدّدة، في داريا، إلى أفق إنساني كوني شامل، يمكن أن ينال الإنسان في أيّ مكان أو زمان من هذه البلاد التعيسة التي نعيش فيها.

تنتشر الجثث الحزينة باستمرار في نصوصي الروائية، هي جثث حيّة تتألّم باستمرار، لكلّ منها حكاية؛ ذكريات وحنين، عائلة وبيت، بتفاصيل حياة يومية صغيرة. يرافقها حزنها باستمرار، لأنها لا تستطيع النسيان، وهي تريد أن تروي حكاية موتها العبثي المجنون، فإذا ما فعلت، تستطيع عندها الرقاد في عالمها الماورائي بسلام.

في الواقع، كنت أشاهد هذه الجثث باستمرار في سوريا؛ جثث تسقط قريبة مني إثر انفجار قذيفة هاون (نجوت مرّة بأعجوبة من واحدة منها، عندما حماني جدار من شظاياها، لكني أصبت بعدها بما يشبه الصمم)، جثث مرمية على خطوط التماس، لا يجرؤ أحد على رفعها خوفاً من قنّاص، جثث لأشخاص يتم تصفيتهم في الشارع أمامي... لذلك، فصورها لا تغادر ذاكرتي.

هكذا، كنت أمام تحدّ حقيقي، كيف أكتب عن مجزرة «السبت الأسود»، في «داريا الحكاية»، التي تجاوز عدد ضحاياها الموثّقين بأكثر من ألف في ليلة واحدة. هل يكفي ذكر العدد كإحصائية باردة، كما تردّ في خبر صحفي عابر، أم أصف بعضها؟ وكم منها؟ وكيف؟

هكذا، جعلت ضمير المتكلّم «الأنا الجمعية – الراوي» يتحدّث بأسماء جثث مختلفة، تصف فقدان حياتها بأشكال وحشية؛ إعدام ميداني، تحت جنازير دبّابة، قصف ببراميل متفجّرة، دفن أحياء... تتراكم هذه الجثث معاً في «الأنا الجمعية»، وتتحرّك على هذا الأساس. بل إنها عندما تمرّ هذه «الأنا الجمعية» في الساحة العامة، في «داريا الحكاية»، التي عرضت فيها جثث المجزرة، من أجل توثيقها قبل الدفن، تتعرّف على نفسها، ملقاة على الأرض بأعداد هائلة.

ومن أجل تركيز معاناة موت هذه الجثث، وإبراز آلامها المستمرّة؛ «حكايتها»، جعلتها تتكدّس حيّة في الذاكرة المشروخة للبطل «الأنا الجمعي»، ترافقه باستمرار أينما يحلّ، حتى في منفاه، وتتبدّى في كوابيس مريعة تؤرّقه، ليس فقط في نصّ «داريا الحكاية»، بل وأيضاً في نصّ «الغابة السوداء». هي الجثث نفسها التي ترغب برواية حكاية معاناتها، كي لا تُنسى آلامها. وهذا أسلوب يُربك النقّاد، لكنه يفجّر الذكريات والحنين لدى القرّاء، وكلّ منهم لديه حكاية ما مشابهة عن عزيز فقده، فيتعاطف مع النصّ.

 

 

يُتبع في جزء ثالثٍ...

 

 

مازن عرفة – كاتب وروائي سوري، مقيم كلاجئ في ألمانيا منذ عام 2017م، من مواليد قطنا بريف دمشق 1955م، يحمل إجازة في الآداب – قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق 1983م، دكتوراه في العلوم الإنسانية – تخصّص علم المكتبات والمعلومات من جامعة «ماري كوري سكودوفسكا» في مدينة لوبلين – بولونيا 1990م.

من مؤلّفاته:

 1 – «العالم العربي في الكتابات البولونية في القرن التاسع عشر»، (باللغة البولونية)، لوبلين 1994م.

2 – «سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصّية إلى سلطة اللامرئي»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2007م، (464 ص).

3 – رواية «وصايا الغبار»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2011م، (663 ص).

4 ـ كتاب «تراجيديا الثقافة العربية»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2014، (295 ص).

5 – رواية «الغرانيق»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/ هاشيت أنطوان، 2017م، (356 ص).

6 – رواية «سرير على الجبهة»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/ هاشيت أنطوان، 2019م، (335 ص).

7 – رواية «الغابة السوداء»، المملكة المتّحدة، لندن، دار رامينا، 2023م، (205 ص).

8 – رواية «داريا الحكاية»، فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2023م، (184 ص).

9 – رواية «ترانيم التخوم»، فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2025م، (300 ص).

10 – رواية «نزوة الاحتمالات والظلال»، الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن، دار الخيّاط، 2025م.

 

إدريس سالم – شاعر وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.

عمل مدرّساً للغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة.

محرّر وعضو في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة.

مدير «مكتبة فيرمين للكتاب» في تركيا.

من مؤلّفاته:

1 – «جحيمٌ حيٌّ»:

أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تمّوز 2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)، والطبعة الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).

2 – «مراصدُ الروحِ»:

ثاني عمل أدبيّ له في الشعر، صدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (أيّار 2025م).

 









google-playkhamsatmostaqltradent