ليستِ اللغة مجرّد
أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية،
باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها
الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ
والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن
فيه الذات وجودها، كما يقول هايدغر: «اللغة بيت الكينونة».
تنتمي اللغة الكوردية
إلى العائلة الهندو – أوروبية، لكنها ليست فقط انتماءً جغرافياً محضاً، وأيضاً
تمثّل لحظة أنطولوجية خاصّة في التاريخ البشري. تنوّع لهجاتها – الكرمانجية،
السورانية، الهورامية، والزازية – ليس تشظّياً، إنما تعدّدية وجودية تعبّر عن اتّساع
أفق التجربة الكوردية. لقد استطاعتِ الكوردية أن تحافظ على جوهرها عبر قرون من
القمع والطمس، لتثبت أن الكينونة اللغوية تمتلك قدرة داخلية على المقاومة والبقاء.
إن وصفها بأنها لغة «رشيقة، شعرية، نابضة، وفية» ليس وصفاً جمالياً فحسب، هو
اعتراف بفعلها الميتافيزيقي؛ قدرتها على إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم
في صورة شعرية دائمة التجدّد.
إن العلاقة بين اللغة والهُوية في الأدب الكوردي، تكشف عن إشكالية فلسفية بالغة العمق. لماذا يكتب بعض الأدباء الكورد بغير لغتهم الأمّ؟ أهو قصور في الكوردية عن التعبير، أم افتتان بلغة الآخر، التي تفرض نفسها كرمز للتحضّر والهيمنة، أم أن المسألة قدر تاريخي فرضته سياقات القمع والإقصاء؟ الانتماء القومي واللغوي أهو مسألة خيار حرّ، أم أنه ارتباط وجودي لا يمكن الفُكاك منه دون خسارة جوهر الذات؟ بمعنى آخر، هل يمكن للمرء أن يتخلّى عن لغته الأمّ، ويظلّ مع ذلك منتمياً لهويته القومية؟ إلى أيّ مدى يمكن للكاتب المقموع لغوياً أن يتحرّر عبر لغة جلّاده؟ وهل يمكن للإبداع أن يكون وسيلة مقاومة رغم استخدام أدوات القامع؟ أيكفي الانتماء العاطفي أو الثقافي لتعويض الانفصال اللغوي، أم أن اللغة الأمّ تظلّ المعبّر الوحيد إلى جوهر الأنا؟ والكتابة بلغة الآخر شرط للوصول إليه، أم خطر على نقاء الهُوية الثقافية؟
هذه الأسئلة تكشف
جدلية الحرّية والقهر في اختيار اللغة. فالكتابة بلغة الآخر قد تبدو انقطاعاً عن
الجذور، لكنها من زاوية أخرى شكل من أشكال المقاومة الرمزية اللغوية؛ هي خندقنا
الأخير، مساحة صمودنا الوحيدة؛ إذ تتحوّل اللغة الأجنبية إلى مرآة تعكس المأساة
الكوردية للعالم.
إن الأدباء الكورد
الذين كتبوا بالعربية أو التركية أو الفارسية لم يكونوا دوماً متماهين مع لغة
القاهر، لقد جعلوا منها أداة لكشف الوجه الحضاري للشعب الكوردي، وإعادة تقديم هُويته
للآخرين.
فإذا كانتِ الهُوية
الكوردية قد تلقّت ضربات تاريخية متكرّرة، فإن اللغة بقيت صمّام الأمان الأخير
لوجودها. فحتى حين يكتب الكورد بلغات أخرى، تبقى الكوردية كامنة في لاوعي النصّ،
كأصل أنطولوجي يتخفّى خلف الكلمات. الهُوية هنا ليست معطى ثابتاً، إنها سيرورة
جدلية بين الذات ولغتها، بين الكينونة وما يترجمها في العالم. إن التحدّي الأكبر
يكمن في أن تحافظ الكوردية على وظيفتها الأنطولوجية كبيت للهُوية، وفي الوقت نفسه
تنفتح على أفق إبستمولوجي، يتيح لها أن تستوعب معطيات العصر. بهذا المعنى، تظلّ اللغة
الكوردية وسيلة للتعبير، وفضاء للحرّية، وذاكرة للوجود وشرطاً لأن يحيا الكورد
كينونتهم في العالم.
إن ماهية العلاقة بين
الهُوية واللغة، في التجربة الكوردية وفي الأدب الكوردي على نحو خاصّ، تظلّ سؤالاً
أنطولوجياً وإشكالية إبستمولوجية معقّدة. فهي ليست مجرّد مسألة لسانية، وإنما
انفتاح على عمق الوجود ذاته. وإن اختيار الأديب الكوردي للكتابة بغير لغته الأمّ
لا يمكن أن يُفهم في أفق أحادي، فقد يكون تعبيراً عن عجز شعوري أو صعوبة في
التماهي مع طاقة اللغة الأمّ، أو بحثاً عن فضاء أرحب من الحرّية التعبيرية في لغة أخرى؛
وقد يكون أيضاً انبهاراً بسلطة لغة القاهر، حيث تتحوّل لغة الهيمنة إلى صورة
مثالية للتحضّر في المخيال الجمعي.
لكن، على مستوى أعمق،
قد يكون الأمر خارجاً عن إرادة الكاتب ذاته، إذ يجد نفسه منقاداً إلى لغة لم
يخترها اختياراً حرّاً؛ فهي فُرضت عليه بحكم السياقات التاريخية والسياسية
والتعليمية. غير أن المفارقة الكبرى تكمن في أن هؤلاء الكتّاب، وهم يكتبون بلغة
الآخر، يشتغلون في كثير من الأحيان على إعادة تعريف الهُوية الكوردية ذاتها؛ إذ
يسعون إلى نقل الوعي الحضاري والمعاناة التاريخية والذاكرة الثقافية والفنّية الجمعية
للشعب الكوردي إلى الآخرين، بل وحتى إلى الكورد أنفسهم، الذين كثيراً ما يتلقّون
ثقافتهم بلسان غير لسانهم الأمّ.
هنا تتجلّى المفارقة
الفلسفية، اللغة الأمّ، بوصفها بيت الهُوية، قد تُغَيَّب، لكن حضورها يتجلّى في
لاوعي النصّ، كظلّ أنطولوجي لا يُمحى. فالكتابة بلغة الآخر لا تعني بالضرورة خيانة
للذات، الكتابة تكون ضرباً من المقاومة الرمزية؛ إذ تتحوّل اللغة المهيمنة إلى
وسيلة لنقل المأساة الكوردية، وإلى جسر يربط الهُوية بفضاء كوني أوسع. ومن هنا
يمكن أن نقرأ تجربة كتّاب كبار من أصول كوردية – مثل العلّامة أحمد تيمور باشا (فارس الكتابات اللغوية والمعجمية)،
والشاعر أحمد شوقي (أمير الشعراء)، والمفكّر محمد كرد علي، وأيضاً الشاعر الشهير
ومؤلّف كتاب «الشخصية المحمّدية» معروف الرصافي – كأمثلة على جدلية اللسان والهُوية،
حيث تنكشف الهُوية الكوردية في مرايا لغات أخرى، لكنها تظلّ تبوح بأصلها الخفي
الذي لا يُمحى.
وفي مقابل مَن يختار
لغة الآخر بوصفها وسيلة للتعبير أو المقاومة الرمزية، يرفض آخرون الانخراط في هذا
الخيار، معتبرين أنها لغة القمع والمنع والكبت. هؤلاء يرون أن التشبّث باللغة الأمّ،
حتى في أقسى الظروف، هو فعل وجودي قبل أن يكون فعلاً ثقافياً؛ هو إعلان عن حضور
الكينونة في فضاء التلاشي، ورفض للاستلاب الذي يُفرغ الهُوية من جوهرها. لذلك فإن
كلّ مبرّرات الكتابة بلغة الآخر، سواء بحكم المدرسة أو الثقافة المكتسبة، تسقط
أمام الحجّة الوجودية، هو أن الكائن لا يمكن أن يكون ذاته إلا في لغته التي
تُجسِّد حضوره في العالم.
من هنا يتشظّى الموقف
النقدي: هل تُدرج نصوص الكوردي المكتوبة بغير لغته الأمّ ضمن الأدب الكوردي أم
تُقصى عنه؟ البعض يذهب إلى نفيها تماماً، مؤكّدين أن الأدب الكوردي لا يُسمّى كوردياً
إلا إذا كُتب باللغة الكوردية نفسها؛ فالأدب هنا مشروط باللسان. والبعض الآخر يطرح
تصوّراً مغايراً، أن النصّ المكتوب باللغة العربية – إذا حمل الذاكرة والصورة الكوردية
– يظلّ في جوهره أدباً كوردياً؛ لأن الهُوية تكون لغة وكينونة متجسّدة في النصوص
في آن واحد، مهما تغيّر اللسان الذي ينطق بها.
هكذا يصبح النقاش
فلسفياً بامتياز، هل الهُوية الأدبية مرهونة باللسان، أم بالجوهر الذي يتجلّى في
النصوص؟ أهي علاقة أنطولوجية لا تنفصم بين اللغة والوجود، أم علاقة تأويلية أوسع
حيث يمكن للهُوية أن تعبِّر عن ذاتها بلغات متعدّدة، لكنها تظلّ محافظة على
جوهرها؟ إن هذه الجدلية هي ما يجعل النقاش حول الأدب الكوردي أكثر من مجرّد نقاش
أدبي، بل سؤالاً فلسفياً حول ماهية الهُوية ذاتها.
في هذا السياق، نفتح
باب النقاش أمام نخبة من الكتّاب الكورد الشباب المبدعين، ممّن نشطوا في الحقل
الثقافي والفكري خلال السنوات الأخيرة. طرحنا عليهم مجموعة من الأسئلة الفلسفية
والفكرية المتنوّعة، لا بهدف إصدار أحكام نهائية أو تبنّي رؤى مطلقة، وإنما تحفيز
حوار نقدي صادق، يُنصت إلى التعدّد، ويحتفي بالتعقيد، الذي يميّز التجربة الأدبية
الكوردية. فنحن أمام واقع لغوي وثقافي مركّب، لا يمكن اختزاله في ثنائية «اللغة
الأمّ، أم لغة الآخر»، بل يتطلّب تفكيكاً معرفياً ينطلق من سؤال: ما معنى أن تكون
كاتباً كوردياً في ظلّ جغرافيا سياسية تمنع لغتك، وتفرض عليك الكتابة بلغة ليست
لك؟
ستار صدقي «موسيقي كوردي، يتقن اللغات الكوردية والعربية والألمانية»:
– هل يمكن
للفنّ أن يوجد دون لغة، أم أن اللغة هي الشرط الضروري لوجوده؟
هذا السؤال يتشعّب في
داخله إلى استفهامات متعدّدة، يمكن تفكيكها إلى أسئلة فرعية، والإجابة عنها واحداً
تلو الآخر.
أولاً هل
يمكن للفنّ أن يوجد دون اللغة؟
الفنّ وُجد منذ وجود
الإنسان ذاته، بل يمكن القول إن ظهوره سبق اللغة المكتوبة، أو لعلّهما كانا في
بدايتهما فكرة واحدة، غايتها تمكين البشر من التواصل والتعبير عن حاجاتهم ومخاوفهم
فيما بينهم. وأرى أن الفنّ واللغة لا ينفصلان/ يتجزّآن؛ فكلاهما وجهان لتجربة
إنسانية واحدة. ولعلّ ما يثبته علم الآثار خير دليل؛ إذ إن أقدم أشكال التعبير لم
تكن حروفاً كما نعرفها اليوم، وإنما كانت رسوماً ونقوشاً مرتبطة بالطبيعة والوجود.
ومع نشوء مجتمع المدينة في ميزوبوتاميا، حوالي 3500 سنة قبل الميلاد، ظهرتِ اللغة
المكتوبة في صورتها الأولى. ومن خلالها عرفنا حضارات عظيمة مثل ميزوبوتاميا، ومصر
القديمة (الفراعنة)، والإغريق، التي تركت إرثها عبر فنون النحت على الألواح
الطينية والحجرية، وصناعة التماثيل البشرية، وخاصة تلك التي مثّلت السلالات
الملكية.
إذاً نستطيع القول بأن
الفنّ واللغة وحدة متكاملة؛ فالفنّ هو الموسيقى والرسم، وغيرهما من الفنون البشرية،
واللغة هي أيضاً فنّ، بل أرقى أنواع الفنون البشرية وأهمّها في تاريخ البشرية،
فاللغة المجرّدة جعلت عقل البشري يميّز بين الأزمنة (الماضي والمستقبل والحاضر
والقياس عليها)، وبعدها بدأت ثورة العلوم وارتقاء البشر إلى مرتبة قيادة كوكبنا
وحمايته، بل والتفكير في الكون والوجود. وهنا يتسلّل إلى أذهاننا تساؤل جديد لا
يفارقنا:
هل يستطيع
الفنّ أن يعبّر عن موضوع ما دون الحاجة إلى اللغة؟
أجزم أن الفنّ يستطيع
أن يوصل فكرة ما إلى أيّ إنسان، ومن أيّ ثقافة كان، بل وأقوى من اللغة في بعض
الأحيان. هنا سأوضّح فكرتي بمثال:
حين نريد أن نعبّر عن
مآسي الحروب، نستطيع بكلّ بساطة أن نعبّر عنها بلوحة فنّية، أو حتى بالنحت، ولجعل
المشهد أكثر حيوية وتأثيراً على فيزيولوجية الجسم البشري، لإفراز هرمونات معيّنة،
لإحداث المشاعر والعواطف، هنا نمزج بين فنّ الرسم والموسيقى، أو فنّ الموسيقى
والمسرح، أو فنّ الجسد ومن ضمنها الرقص. هنا أستطيع أن أؤكّد بأن ما من لغة أو حتى
لغات مكتوبة تستطيع التعبير عن مأساة كهذا فقط بالكلمات. هنا أبدأ بالجزء الثاني
من السؤال:
هل اللغة
شرط ضروري لوجود الفنّ؟
اللغة عامل متفرّد
لتقوية الفنّ، أو لتكامل الفنّ – الفنّ دون اللغة ناقص – حين تكون اللغة شعراً أو
رواية مرافقة بالفنون الأخرى، مثل فنّ الموسيقى، أو الرسم، أو الرقص، أو التمثيل...
الخ. في هذه الحالة نستطيع أن نسمّي مزج اللغة والفنّ، أو الفنون، بالتكامل الذي
يفوق الواقع الذي نعبّر عنه، وكذلك اللغة لها دور كبير في استمرارية وتطوير الفنّ،
من خلال تأليف كتب التعليم، لأسس ونظريات تبنى عليها الفنون. واللغة هي الأداة
الأقوى في تعليمها.
في ختام الجواب على
هذا السؤال، أرى أن اللغة والفنّ مصطلحان متداخلان، كلّ منها متداخل في الآخر. فكانت
بداية لبناء الحضارة البشرية من أصغر جزء في هذا الكون، إلى تفسير أسرار الكون
والوجود، ولا أستبعد اليوم بأن الفنّ واللغة حقّقا الخلود للبشر بشكل من الأشكال، والدليل
هو أننا لا زلنا نستطيع أن نسمع أغنية أو قصيدة شعر منحوتة منذ خمسة آلاف عام إلى
يومنا هذا وإلى الأبد.
– إذا كانتِ
الموسيقى تُعتبر «لغة عالمية»، فهل هذا ينفي حاجة الفنّ إلى اللغة اللفظية؟
الموسيقى لغة عالمية
من الناحية الحسّية، فالموسيقى تستطيع أن تعبّر عن مشاعر الحزن والفرح والتأمّل
والهدوء والصخب وغيرها من المشاعر الإنسانية، وتستهدف البشر دون الحاجة إلى
الكلمات، فالموسيقى تلامس الإحساس في هذه الحالة. ولكن من ناحية أخرى، حين نريد أن
نقوم بدراسة موسيقى شعب ما، من ثقافة معيّنة، نقوم بالتعرّف أولاً على أنماط
وقوالب الموسيقى لهذا الشعب. مثلاً، حين نريد أن نتعرّف على الموسيقى الكوردية،
نجد أنها تتألّف من الأغاني بالدرجة الأولى، فالأغنية تتألّف من اللحن الإيقاعي
والكلمات. ثانياً، الموّال، فالموّال يتألّف من اللحن دون الإيقاع، بالإضافة إلى
الكلمات، وهو يتميّز بغناء الملاحم التاريخية، التي قد يفوق غنائها سبع ساعات
متواصلة من الغناء. ثالثاً، الموسيقى التصويرية أو المقطوعة الموسيقية الإيقاعية
ذات القالب الموسيقي الشرقي المعيّن مثل: اللونغا أو الرقصة أو البشْرف أو السماعي...
الخ. أما الموسيقى الغربية، فنجد الأغنية الإيقاعية المؤلّفة من الكلمات واللحن
الإيقاعي أو غير الإيقاعي فيما ندر. ونجد بكثرة القوالب الموسيقية غير المقترنة
بالكلمات، كالسوناتا أو السيمفونيات أو غير ذلك.
الموسيقى واللغة تسيران
في نفس المجرى، وقد يستقلّ أحدهما عن الآخر في الكثير من الحالات، ولكن في النهاية
لا يمكن للموسيقى أن تتواجد لوحدها أبداً، وقد نحتاج إلى عنوان مؤلّف من كلمتين
لمقطوعة موسيقية طويلة، قد تتجاوز ساعة من الزمن.
– إلى أيّ
مدى تفرض اللغة حدوداً على خيال الفنّان والأديب؟ وكيف تؤثّر ازدواجية اللغة (عند
الكتّاب متعدّدي اللغات) على الإبداع الفنّي؟
إن هذا الموضوع أوسع
من أن يضمّه موجز قصير، لكني سأجتهد في رسم ملامح عامة تضيء فكرته الأساسية. إن اللغة
لا تفرض حدوداً بمعنى الحدود التي تحدّ من التحرّر، بل اللغة تحفّز النفس البشرية
لإبداع شيء جديد بالآلية المراد الإبداع من خلالها. فمثلاً، أنا كموسيقي، حين أقرّر تلحين أغنية، فإن
عملية التلحين تعتمد على الإلهام، والإلهام هو استخلاص لفيض من المشاعر الناتجة من
حالات متقاربة متخمّرة في منطقة اللاشعور. أستطيع أن أشبه عملية الإبداع بالبركان
المتواجد في جوف الأرض، الذي يحاول جاهداً الخروج إلى السطح بصيغة ما. فحين تتوفّر
ظروف معيّنة بأماكن قابلة للانفجار البركاني، تحتاج العملية إلى عامل حرارة أو
جفاف يؤدّي إلى ضعف هذا الجزء من سطح الأرض، فنشهد بركاناً ينفجر ويفور على سطح
الأرض.
هنا سأبدأ بوضع جدول
المقارنة:
العامل
الأول: اللاشعور
– البركان الباطني.
العامل
الثاني:
الأحداث المرتبطة باللاشعور – الظروف الجيولوجية للأرض.
العامل
الثالث:
الإنسان المبدع – أماكن معيّنة من قشرة الأرض.
العامل
الرابع: الإلهام
الذي يولد اللحن – الظروف المناخية التي تفجّر البركان.
هنا نستنتج دور اللغة
في التأثير على الإبداع. اللاشعور يمتلأ بالمشاعر، والمشاعر مرتبطة بالوصف
والتعبير عن شيء أو حالة أو حدث ما، بل للتعبير عن أيّ شيء متواجد في عالمنا الحسّي.
وكل ما سبق مرتبط بالذاكرة. والذاكرة تترجم كلّ شيء إلى لغة. وبالتالي الكلمات أو
القصيدة، التي ستُلحَّن هي مَن تفجّر بركان الإلهام، وتحدث لدينا أغنية.
باعتقادي، إن لغة الأمّ
أقرب وأصدق من العمل الذي يُراد إبداعَه (أديباً كان أو موسيقياً)؛ لأننا نفكّر
ونحاول أن نستوعب أيّ شيء بلغتنا الأمّ. ازدواجية اللغة قد لا تحدث فرقاً كبيراً
حين يكون المبدع (الكاتب أو الموسيقي) يتمتّع بمهارة عالية جدّاً من كلتا اللغتين،
وتصبحان لغة الذاكرة أو لغة التفكير لديه. مثال على ذلك ما ذكره الشاعر والروائي
الكوردي سليم بركات، في إحدى مقابلاته التلفزيونيّة القليلة: «حوّلت اللغة العربية
معي إلى هُوية كوردية». ولكن حين يكون المبدع متمكّناً في لغة ما بمستوى (جيّد جدّاً)،
ولكن دون مستوى لغة الذاكرة، هنا يكمن تأثير ازدواجية اللغة. فحين يحاول المبدع أن
يبدع عملاً ما باللغة التي هي دون لغة الذاكرة لديه، فيتأثّر حتماً بثقافة ذلك
الشعب، مثال على ذلك عندما نسمع أغنية تركية من مغنٍّ كوردي.
ولكن عموماً، أرى أن
اللغة متداخلة ومجسّدة ومسؤولة ومترجمة لكلّ عمل إبداعي منطوق لغوياً (أغنية أو
رواية)، أو غير منطوق (لوحة فنّية أو مقطوعة موسيقية).
إن ازدواجية اللغة، في
نظري، لا تحجب ضياء الفنّ والأدب عن المتلقّي، لكنها قد تلقي بظلّها الخفيف على
بعض المواقف القليلة والنادرة.
سلمى جمّو «شاعرة وأكاديمية كوردية، تتقن اللغتين العربية والتركية»:
– هل اللغة
التي نُفكِّر بها تُشكِّل وعينا وهويتنا، أم أن الهوية أسبق من اللغة، وتبحث لها
عن أداة تعبّر بها؟
إن جدلية اللغة والوعي،
ومَن منهما الأسبق في الوجود جدلية قائمة منذ القِدم، والجواب على هذه الجدلية
مرتبط بطريقة تناولنا للقضية. هل من ناحية البنية النفسية أم البنية الاجتماعية
للغة ذاتها؟ ذلك أن اللغة بالنسبة لـ «لاكانيين» هي البنية الأسبق في تشكّلها،
وعلى أساسها يتشكّل فيما بعد الذات، التي تكون نتيجة التراكمات اللغوية التي عاشها
الإنسان منذ المرحلة الجنينية/ المرحلة الخيالية إلى ما بعد مرحلة المرآة/ المرحلة
الرمزية، لتكون فيما بعد اللغة الواقعية نتيجة الاندماج بين هاتين المرحلتين. لكن
حقيقة أننا نخزّن الكمّ الهائل من المفردات التي نلتقطها من محيطنا الاجتماعي، يؤدّي
فيما بعد إلى تشكيل هويتنا وذاتنا، التي تنمو وتنضج في بيئة معينة دون سواها،
تجعلنا نمتلك لغة تناسب وتنسجم مع محيطنا الخارجي، لذا نرى أن أفراد مجتمع ما
يميلون إلى استخدام مفردات متشابهة ومركّزة حول المعطيات، التي يعيشونها في حياتهم
اليومية. فقاموس الفلاح يختلف بشكل كبير عن قاموس شخص يعيش حياة المدينة، ولغة
صاحب المدينة أيضاً تختلف بين النجّار والمهندس... الخ. إذن بيئتنا الاجتماعية لها
الدور الكبير في تشكّل وعينا اللغوي، بالإضافة إلى التجارب الشخصية والصدمات
النفسية التي يعيشها الفرد، والتي تكون المحدّد الكبير لطريقة تفكيره وشعوره،
وبالتالي هذا التفكير والشعور يشكّلان لغته الخاصة فيه. «إن اللغة التي نفكّر فيها
تشكّل وعينا وهُويتنا»، جملة فيها إشكالية نوعاً ما. كلمة «نفكّر» تعني وجود وعي
وهُوية بالأساس؛ إذ كيف بالإمكان التفكير
إذا كنّا لا نملك وعي وهوية، أو كيف يمكن أن نشكّل وعياً خاصّاً تجاه موضوع محدّد
إذا كنّا لا نفكّر أساساً بالموضوع؟
من المنظور الديني،
وحسب النظرية الوضعية للغة، فإن اللغة هي الأسبق في النشوء والهُوية بحسب علم
النفس، نتيجة تراكمات لغوية سابقة عليها، والسوسيولجيون أيضاً متفقون على قضية أن الهُوية/
الذات اللغوي للفرد يتكّون بعد الاختلاط، فمن الجائز القول أن اللغة هي الأساس من
الناحية الكرونولوجية. لكن في النهاية هي أداة وستظلّ أداة للتعبير عن كلّ ما
يخالج الفرد من أفكار ومشاعر. لكن عندما نذكر كلمة اللغة ليس من الصواب برأي أن
نركّز على اللغة الكتابية، التي يستخدمها البشر حالياً. إن اللغة هي الرمز. وقد
تطوّر هذا الرمز على مرّ التاريخ، وتعرّض للتغيّرات حسب الجغرافية المتواجدة فيها.
– إلى أيّ
حدّ يمكن أن يكون الإنسان حرّاً في اختيار لغة التعبير، إذا كانت مشاعره لا تنفتّح
إلا بلغة أمّ محدّدة؟
الحرّية كمصطلح مظلوم
بشكل كبير؛ نظراً لما تعرّضت لها من تضخيم، تحميلها ما لا طاقة لها بها وما لا
تريدها بالأساس. لسنا أحراراً منذ اليوم الذي كُتب لنا أن نُخلق. مَن سألنا إن كنّا
نريد القدوم إلى الحياة؟ مَن سألنا إن كنّا نريد أن نكون كوردياً أو عربياً أو
مكسيكياً؟ خلقنا مفهوم الحرّية، لكي نخلق لأنفسنا مساحة بإمكاننا التحكّم فيها
بالأمور، وبالتالي الشعور ولو قليلاً بأن القيادة بيدنا، وأننا فاعل ولسنا مفعولاً
به. وأيضاً من التناقضات، خلقنا هذا المفهوم كي نهرب من الكثير من المسؤوليات
المترتبة علينا نحن «الإنسان»، بحجّة أننا أحرار فيما نريد أو لا نريد، إن الجملة
السابقة تحمل في طيّاتها هروباً من الحرّية ذاتها بحسب إريك فروم. لكن ولنعد إلى
حرّية اختيار اللغة ومدى قدرتنا على اختيار لغة نريد التفكير والإحساس بها، ومن ثم
التحدّث بها، إنه بالأمر الصعب للغاية، من وجهة نظري، أن يستطيع المرء التفكير
بلغة تعلّمها فيما بعد ومن ثم الكتابة بها. أنا وإن كنت أجيد التحدّث بطلاقة
بالتركية والكوردية والعربية، إلا أنني لا أستطيع إلا أن أفكر وأشعر بالعربية؛
نظراً لأنني كبرت مع اللغة العربية. عندما يُعرض عليّ باللغة التركية – أيّ جملة
فلسفية أو أدبية – أشعر تجاهها باللا شعور، أو أشعر بضحالة هذه اللغة في التعبير
بالنسبة للغة العربية، إن المشكلة هنا ليست في اللغة التركية بحدّ ذاتها، بل
بشعوري باللغة بحدّ ذاتها. أن أشعر بالكثافة والغزارة العاطفية في شعر عربي، هذا
الشعور لا أشعر به أبداً مع التركية أو الكوردية، مع أن الأخيرة هي لغتي الأم.
الإنسان بإمكانه التحدّث بأكثر من لغة، إلا أنه يشعر ويتألّم ويفرح ويفكّر
بلغة واحدة فقط برأيي.
– هل تُعدّ
الكتابة بلغة الأم فعلاً أدبياً فقط، أم أنها شكل من أشكال النضال الثقافي؛ للحفاظ
على الوجود والهوية في وجه التهميش أو الانصهار؟
إن قضية الكتابة
والفعل السياسي قضية شائكة، فكلّ شاعر أو فيلسوف أو أديب يجب أن يكتب عن القضايا
الإيديولوجية، سواء سياسية أو دينية، فكرة وإن كانت رائجة في بدايات القرن التاسع
عشر مع موجة الواقعية الروسية؛ إلا أنني لا أتفق معها تماماً. فليس من الواجب أن
يكتب كلّ شاعر أو فيلسوف أو أديب عن الواقع السياسي الذي يعيشه مجتمعه، أو يستخدم
هُويته الأدبية في المجال الدعوي الديني. إن للأدب هُويته الإنسانية، لغة جمعية
جماعية عابرة للحدود السياسية والدينية والطبقية. فألم إنسان وفرحه في جيبوتي هو
ألمي وفرحي، والعكس الصحيح، ما أشعر به وأفكّر به يجب أن يكون في صالح أيّ إنسان،
ويلامس روحه أنّى كان موطنه. أما قضية الحفاظ على اللغة في وجه سياسة الإلغاء فإنه
ضمن مجال واختصاص السياسيين والعاملين في القطاع التعليمي، طبعاً لا يجب أن يُفهم
من وجهة نظري بأنني ضدّ أيّ شخص يكتب بلغته الأمّ. أنا معه إن كان يشعر ويفكّر بها،
ويستطيع أن يُوصل ما يعتريه من خلال لغته الأمّ. إن الفكرة في القدرة على إيصال
الرسالة، فليس من المعقول أن تخاطب فرنسياً باللغة العربية بحجّة أنها لغتك.
الحكمة في أنك ككاتب أو فيلسوف أن تعرف الوسيلة الناجعة في إيصال رسالتك بعيداً
عن الإيديولوجيات.
ميران أحمد «شاعر ومصمّم أغلفة كوردي، يتقن اللغتين الكوردية والعربية»:
– إذا كانت اللغة «عادة عفوية» تُكتسَب بالتكرار، فربما يمكن
للإنسان أن يكون حُرّاً في لغته، أو أن لغته تحدّد وعيه وتفكيره قبل أن يختار. هل
اللغة تملكنا أم نحن نملكها؟
هذا السؤال يلامس جوهر
العلاقة بين الإنسان ووجوده، فهو استفسار عن وسيلة التواصل والكينونة نفسها. اللغة
حقل حيّ يسبق وعينا ويسكن فينا قبل أن ندرك قدرتنا على صياغته، ليست شيئاً نكتسبه
عن وعي وإنما تيّار يغمرنا منذ اللحظات الأولى لوجودنا، تلقى علينا الكلمات الأولى
من الأمّ والأب من محيطنا الاجتماعي، وتصبح جزءاً من نسيجنا الروحي، بهذا المعنى
اللغة تملكنا، تمنحنا أسماء تحدّد أطر التفكير، وترسم حدوداً لما يمكن أن نفكّر
فيه، ونعبّر عنه، إنها الأفق الذي نولد فيه والخطوط الخفية التي تشكّل تصوّرنا
للجمال، الخير، والعدالة، إنها الذاكرة الجماعية المتوارثة عبر الأجيال، حاملة
قصصاً وأساطير وصوراً شكّلت وعينا التاريخي، لكن هذه الملكية الأولية ليست مطلقة،
إنها نقطة انطلاق لا حتمية الإنسان بوصفه كائناً مبدعاً قادراً على التمرّد على
هذا الإرث اللغوي، هنا يظهر البعد الفلسفي الأعمق، نحن نملك اللغة، وهذه الملكية
لا تعني التخلّي عن لغتنا الأمّ، إنها تقدّم وعياً بآلياتها وقدرة على تطويعها
وتجديدها، الأديب والشاعر خير مثال على هذا التمرّد الإيجابي؛ فهما لا يتبعان
القواعد الجامدة للغة، بل يكسرانها ويمنحان الكلمات أجنحة جديدة، الشاعر يرى في
الكلمات صوراً غير مألوفة، ويعيد ترتيبها ليخلق عوالم لم تكن موجودة من قبل.
تجربتي ككاتب كوردي
يكتب بالعربية هي تجسيد حيّ لهذه العلاقة الجدلية، أنا لا أترك هويتي الكوردية حين
أكتب بالعربية، أنا أحملها معي، اللغة العربية تصبح جسراً للتعبير عن روحي الكوردية،
عن قصص شعبي وآماله وآلامه، إنها أداة لتوسيع مساحة التعبير لا للتخلّي عن الذات،
الهوية ليست حجراً جامداً، هي نهر متدفّق يغتني من مصادر متعدّدة المجتمعات، متعدّدة
اللغات، مثل سويسرا وبلجيكا، نرى كيف يتشكّل وعي الإنسان من تقاطع عدة لغات ممّا
يجعله أكثر مرونة وإنسانية.
مشاهدة الأجانب وهم يتعلّمون
الكوردية ويقرؤون أدبها، تظهر أن اللغة قابلة للامتلاك، وإعادة الخلق، وأنها جسر
بين الذات والآخر، بين ما نحن عليه وما يمكن أن نكونه. اللغة إذن تشكّلنا في
البداية، لكنها ليست قيداً نهائياً، مَن يدرك هذا التفاعل المعقّد يستطيع أن يحوّلها
إلى أداة مواجهة واحتضان في الوقت ذاته. هي فضاء للحرّية، للذاكرة الجماعية، وللإبداع،
تمنحنا القدرة على التفكير، الحلم، والتواصل مع كلّ إنسان آخر، مهما اختلفت لغته
وهويته، الحرّية اللغوية ليست وَهماً، إنها مسؤولية مستمرّة في خلق مساحة جديدة
للكلمات والعاطفة، والمعنى والفعل والجودي يثبتان قدرة الإنسان على تجاوز الحدود
المفروضة عليه.
– يمكن
للإنسان العربي أن يتعامل مع اللغة الكوردية كجسرٍ نحو الآخر، دون أن يكون عاملاً/
حاجزاً يرسّخ غربته الثقافية والحضارية والإنسانية. أتُرى اللغة الكوردية في الوعي
العربي بوصفها غنى إنسانياً، أم تهديداً للهُوية المهيمنة؟
إن توضيح هذه
الإشكالية يتجاوز نطاق اللغة، لتصل إلى عمق الوعي الإنساني، وتكشف عن مدى أمان
الفرد بهُويته، مَن يمتلك إحساساً عميقاً بالأمان الهوياتي يرى في اللغة الكوردية
ثروة إنسانية، كلّ لغة جديدة نافذة يطلّ منها على وجه جديد للإنسانية، على تاريخ
مختلف، وأدب وشعر يثري الروح. اللغة الكوردية حقل معرفي يفتح أمامه آفاقاً جديدة
لفهم شريكه في الحياة، وفهم ذاته، هذه النظرة الإيجابية تحوّل الاختلاف من مصدر
تهديد إلى مصدر إثراء.
وهناك آخرون يشعرون
بالهشاشة الهوياتية، أولئك الذين يرون في الكوردية تهديداً لوجودهم، هذا الخوف ليس
وليد اليوم بل نتاج تاريخ طويل من الصراع على السلطة والنفوذ، تستخدم اللغة
أحياناً كأداة للسيطرة الثقافية والسياسية، حين تهمّش أو تحجب عن المناهج
التعليمية، يعكس ذلك عقلية ترى في التعدّدية ضعفاً وفي الوحدة مظهر قوّة، هذه
العقلية تخشى أن يتقاطع وجودها مع وجود آخر، وتخاف أن يكشف الآخر عن ضعفها أو زيف
سرديتها.
الواقع المعاصر يثبت
أن هذه الرؤية محدودة التجربة الإنسانية، فاليوم مع العولمة ووسائل التواصل تُظهر
أن اللغة الكوردية ليست خصماً للعربية، هي رفيق درب وجسر للتفاهم، مشاهدة
أجانب يتعلّمون الكوردية ويقرؤون الأدب الكوردي
دليل حيّ على أن اللغة ليست مُلكاً لشعب واحد، بل مُلك للإنسانية من منظور فلسفي.
اللغة الكوردية حقل ذاكرة وروح غنى إنساني، يجب احترامها وقراءتها، رفضها هو رفض
للاعتراف بجار كامل بإنسانية متكاملة.
المسؤولية الأخلاقية
تقع على كلّ فرد، كلّ لغة تقصى تفقّرنا جميعاً، وكلّ لغة تعاش وتترجم تغني وعينا
المشترك. السؤال الحقيقي ليس عن اللغة نفسها، بل عن شجاعتنا لنرى في لغة الآخر
حياة موازية لحياتنا، حياة لا تهدّد هُويتنا، حياة تثريها التجربة التاريخية
والحضارية والأدبية، تثبت أن الاحترام والانفتاح على لغة الآخر يفتح أفقاً واسعاً
للإنسانية المشتركة، ويحوّل اختلافنا إلى جسر للتواصل والمعرفة، لا جدار للفصل
والإنكار.
– إذا كانتِ
اللغة بوّابة إلى فهم روح الآخر، فهل عجز الإنسان العربي عن فهم الكوردي يعود إلى
غيابه عن اللغة، أم إلى غياب الرغبة أصلاً في الإصغاء؟ بمعنى آخر أكثر وضوحاً: هل
المشكلة بين الإنسان العربي والكوردي لغوية (معرفية)، أم رغبوية (إرادية)؟
للوهلة الأولى تبدو
المشكلة اللغوية فجوة معرفية بين مَن يتحدّث لغة وآخر لا يفهمها، العربي لا يتعلّم
الكوردية، والكوردي مجبر على تعلّم العربية، مما يخلق حاجزاً صامتاً يمنع التواصل
الحقيقي؛ فاللغة مفتاح لفهم التجربة الإنسانية بكلّ تعقيداتها، مَن لا يعرف لغة
الآخر لا يستطيع فهم تفاصيل حياته اليومية، ولا يلمس عمق مشاعره، ولا يشارك آماله
وأحلامه. اللغة بوّابة لفهم روح شعب، والاطلاع على ذاكرته الجماعية.
لكن العمق يكشف أن
العائق الأهم هو الإرادة، الترجمة موجودة ووسائل التعلّم متاحة، لكن الكثيرون منهم
لا يريدون الإصغاء بجدّية، كأن الإصغاء يهدّد سردية مريحة تضع طرفاً في المركز
وآخر في الهامش، الاستماع للآخر يعني الاعتراف به، والاعتراف يتطلّب شجاعة لإعادة النظر
في الذات، وفي السرديات السائدة إنها فعل وجودي، يتطلّب التواضع وروح الانفتاح.
تجارب الأدب والتاريخ
تؤكّد ذلك، الكتّاب الذين سعوا لفهم الآخر بلغته، تمكّنوا من بناء جسور معرفية
وحضارية راسخة، أما مَن رفضوا الإصغاء، فظلّوا محاصرين في زواياهم الثقافية، ولم
يلتقوا بروح الآخر إلا عبر تعميمات سطحية، أو انطباعات زائفة، حتى في التجربة
الواقعية الحديثة نرى أشخاصاً من خلفيات مختلفة، يبذلون جهدهم لتعلّم لغة الآخر،
ويغوصون في أدبه وشعره، ليثبتوا أن المشكلة ليستِ اللغة نفسها، المشكلة هي في الرغبة
الحقيقية، والقدرة على التواصل والاعتراف بالآخر.
إذن المسافة بين
العربي والكوردي ليست قدراً مكتوباً، هي خيار أخلاقي يومي حين تتوفّر الإرادة
الصادقة تتحوّل اللغة من حاجز إلى جسر، ويصبح الفهم ممكناً، وحين تغيب تتحوّل
اللغة إلى مجرد ذريعة للفصل والإنكار، القضية في جوهرها رغبوية قبل أن تكون معرفية،
الرغبة في الإصغاء تمنح للمعرفة معناها الحقيقي، وتحوّلها إلى لقاء إنساني عميق أكثر
من مجرّد نقل معلومات، أو تعلّم كلمات، إنها دعوة مفتوحة للتعايش والاعتراف بأننا
نغتني بوجود الآخر لا حين نلغيه.
هيڤا نبي
«روائية وأكاديمية كوردية، تتقن اللغات الكوردية والعربية والفرنسية والألمانية»:
– إذا كانت اللغة هي «موطن الكائن» كما
يقول هايدغر، فهل يعني ذلك أن الكتابة بلغة الآخر نفيٌ جزئي للذات؟
وهل يستطيع الكاتب، حين يُقصى عن لغته، أن يظل ساكناً في ذاته، أم أنه يتحول إلى
لاجئ داخل لغته المكتسبة؟
قد يبدو جوابي متناقضاً، لكن في الحقيقة للإجابة على مثل هذا السؤال لا بدّ
من أخذ كلّ من الذات، والانتماء الأدبي، وعامل استخدام لغة الآخر بعين الاعتبار.
أولاً:
الذات (تجربتي الشخصية في الكتابة):
لا أشعر أنني منفية
حين أكتب بلغة ثانية. بالنسبة لي، لا منفى إلا ما نقرّر نحن أنه منفى. المكان الذي
يمنحني حرّية التعبير هو مكاني، حتى لو لم يكن مرتبطاً بهُويتي القومية المباشرة.
اللغات ليست مُلكيات، صحيح أنها دليل انتماء قوي، لكنها ليست بذلك الضيق الذي
للخصائص الأخرى للقومية. أكتب بالعربية؛ لأنها اللغة التي تعلّمتها ووجدت فيها
أدوات التعبير الكافية، لكنها لا تلغي كورديتي، ولا تعني أنني أسلّم بالمصير
المفروض على الكورد، بحرمانهم من لغتهم الأمّ، بشكل ممنهج منذ مئات السنين.
الهُوية الأدبية لا
تقابل دائماً بالضرورة هُوية الأديب. كلّ الفنون والآداب، وإن عبّرت وفق هُوية محدّدة
للفنّان، تبقى إنسانية بالدرجة الأولى. لذا نفهم دائماً أدب الآخر وفنّه عبر
القوميات والذوات؛ لأن الأدب والفنّ هما في حدّ ذاتهما لغة، لغة مستقلّة. ونعم،
تعبّران عن نفسيهما من خلال اللغات القومية.
ثم إن الهويات في حدّ
ذاتها لا تقول الكثير عن الفنّ، رغم أنني لا أنكر ثباتها وأثرها في طريقة تعريف
الناس لأنفسهم، وأنا منهم. لكن بالنسبة لي، ما دمت أستطيع التعبير بلغة ما، فسأفعل
ذلك. في الوقت نفسه، لا يعني هذا أنني أنسلخ عن كورديتي، أو أنني أحجم عن الكتابة
بالكوردية إن توفّرت لي الفرصة.
ثانياً:
الانتماء الأدبي (طبيعة الأدب نفسه):
أرى أن الكتابة بغير
اللغة الأمّ هي نفي جزئي للإبداع، لا للذات. فالأدب، إلى حدّ بعيد، ابن اللغة التي
يُكتب بها. هذه حقيقة مُرّة، لكن إنكارها لا يفيد. هذا لا يعني أن النصوص تفقد
قيمتها أو أنها لا تُقرأ بلغات أخرى، لكن بنيتها الثقافية واللغوية تستقرّ في لغة
غير لغة الكاتب الأمّ. وهكذا، فإن أدب كاتب كوردي يكتب بالعربية، سيندرج ببساطة
ضمن الأدب العربي لا الأدب الكوردي.
والأمر أكثر حساسية حين يتعلّق بالأدب؛
لأن الأدب – على نقيض باقي المجالات والمعارف – لا تُعتبر فيه اللغة مجرّد وسيلة
للتعبير، بل هي جزء من تكوينه ووجوده، بغضّ النظر عن المحتوى الذي قد يعكس هموم
الأديب القومية أو الهوياتية.
ثالثاً:
عامل الاستخدام (الواقع الجمعي):
وهذا يعيدنا إلى
الواقع والبيئة والمكان، الذي نشأ فيه الأديب. هنا تتجاوز الهُوية إرادتنا
الفردية. الكتابة بالكوردية كانت تحدّياً كبيراً أمام أجيال من الكتّاب الكورد؛
لأن الواقع السياسي فرض أدواته وأجبرنا على استخدامها، دون أن يسمح لنا باختيار ما
نريد أو ما يشبهنا. من هنا، الكتابة بلغة الآخر ليست نفياً للذات، بقدر ما هي خضوع
لضرورات الواقع، مع الاحتفاظ بجذور الهُوية في العمق.
– هل غياب التعليم المنهجي للغة الأمّ، وما يرافقه من قمع سياسي،
يُبرّر القطيعة مع الأدب القومي، أم يجب اعتباره مسؤولية مضاعفة لإعادة وصل ما
انقطع؟
بتعبير آخر:
هل يُعفى الكاتب الكوردي من الكتابة بالكوردية بسبب الظروف، أم يُطلب منه، رغم
الصعوبات، أن يسهم في ترميم هذا الأدب المهدور؟
غياب التعليم المنهجي للغتنا الأمّ،
وكلّ المظاهر الثقافية كان رأس القمع السياسي، وأخطر أدواته. فالقمع على المستوى
الثقافي يضرب أعمق في جذور الهُوية والوجود الخاصّ للجماعات البشرية، ويتجاوز في
ذلك القمع السياسي؛ لأنه يعمل على تفكيك البنية الوجودية من الداخل، وبدون عنف
مباشر، كما يحصل في الصدامات والقمع السياسي المباشر. حرمان الكورد من لغتهم الأمّ،
أو حتى من إمكانية التعلّم بها هو الأساس الذي بُنيت عليه أشكال التهميش الأخرى.
لكن هذا الواقع لا يبرّر القطيعة مع
الأدب الكوردي – ليست هناك قطيعة على كلّ حال – بل يجعله مسؤولية مضاعفة. صحيح أن
كثيراً من الكتّاب الكورد، في سوريا وتركيا خاصّة، يحملون هذا الهمّ، ويدافعون عن
لغتهم، لكن جهدهم يبقى غالباً فردياً. مشروع إحياء اللغة والأدب باللغة الأمّ
يحتاج إلى جهد مؤسّساتي كبير، وإلى كيان ثقافي/ سياسي يقود هذا العمل، وهو ما
نفتقده اليوم بسبب غياب التمثيل الجامع للكورد.
أنا أؤمن على وجه التحديد بدور الأدباء
والأدب المكتوب بالنهوض باللغة، وترسيخ قواعدها، وإن كان هذا العمل يحدث بخطى
بطيئة. هناك العديد من الأمثلة عن جهود الأدباء في النهوض باللغة، ومن ذلك أذكر اللغة
الفرنسية التي كانت مهدّدة أمام هيمنة اللاتينية في القرون الوسطى، لكن كتّاباً
مثل فرانسوا رابليه ومونتين، ثم لاحقاً فولتير، قرّروا أن يكتبوا بالفرنسية بدلاً
من اللاتينية، فساهموا في جعل الفرنسية لغة ثقافة وفكر عالمي. إرادة الكتّاب
تستطيع أن تحدث تحوّلات كبيرة، لكنها تحتاج إلى تراكم، وإلى مؤسّسات حاضنة.
– إذا كان الأدب يُكتب
للتأثير في الآخر، فهل الكتابة بلغة الآخر شرط للوصول إليه، أم خطر على نقاء
الهوية الثقافية؟
أنأى بنفسي عن الحدّية التي تقول: «إما
هذا أو ذاك». من المؤكّد أن الكتابة بلغة الآخر ليست شرطاً للوصول إليه، لكنها أيضاً
ليست خطراً على نقاء الهوية الثقافية، إلا إذا تحوّلت إلى قطيعة مع الجذور. الهُوية
لا تنحصر في اللغة وحدها، بل تقوم على الذاكرة، والرموز، والهموم والتجربة
الجماعية. لذلك يمكن للكاتب أن يكتب بلغة الآخر، ويظلّ وفياً لهُويته، ويجعل من
هذه الكتابة نافذة للتعريف بعمق ثقافته دون الغرق في الآخر أو الانسلاخ عن ذاته.
لكن الحالة الكوردية خاصّة جدّاً. لقد
جعلتِ السياسة الكتابة بغير الكوردية مساراً جماعياً. ولذا فحالة الكتّاب الكورد
لا تشبه حالات بعض الكتّاب الذين اختاروا طوعاً أن يكتبوا بلغة أخرى، بينما كانت
لغاتهم الأمّ محمية ومطوَّرة وحاضرة في التعليم والمؤسّسات. في حالتنا، الاتّجاه
إلى العربية أو التركية لم يكن يوماً خياراً فردياً حرّاً، بل نتيجة سياسة ممنهجة
حرمتِ الكورد من تعلّم لغتهم الأمّ، ومن أبسط أدوات التعليم كالمدارس والكتب
والدورات التعليمية، بل وعاقبت على ذلك بالسجن والملاحقة في الكثير من الأطوار
والمراحل. هنا أصبح اختيار لغة الآخر واقعاً مفروضاً، وما كان على الأديب إلا الانطلاق
وفق الشروط التي تتجاوزه.
في سنوات دراستي الجامعية،
سعيتُ مع بعض الأصدقاء الكورد إلى تعليم أساسيات اللغة الكوردية. كنّا نلتقي في
بيوت الأصدقاء، نتحايل ونحتاط ونمضي بالكثير من الحذر، إذ كان مجرّد شكوى من جار
كفيلة بأن تفتح أبواب السجن أمامنا، أو تطيح بمستقبلنا الجامعي بالكامل. تغيّر
المشهد اليوم مع انتشار الإنترنت والانفتاح والهجرة، غير أن أيّ تغيير يظلّ محدود
الأثر ما لم يتحوّل إلى عمل مؤسّساتي، تقوده جهات رسمية. فالمبادرات الفردية، مهما
بلغ إخلاصها، تظلّ عاجزة عن أن تؤتي ثمارها كما ينبغي.
ومع ذلك، أؤمن أن الكتّاب وغيرهم من
الفاعلين الثقافيين سيعيدون إحياء الكوردية، وسيستعيدون ألقها، فهي تعيش في
أنفاسنا وأحاديثنا اليومية، حتى وإن غابت طويلاً عن الصفحات المكتوبة.
أحمد عثمان «شاعر كوردي، يتقن اللغة العربية»:
– هل يمكن
اعتبار الأدب الموجَّه إلى قضية قومية ما، أدباً ينتمي إلى تلك القومية، حتى وإن
كُتب بلغة «الآخر»؟ بمعنى: هل الهوية الأدبية تُحدَّد بالموضوع أم باللغة؟
– إلى أيّ
مدى يمكن للكاتب المقموع لغوياً أن يتحرّر عبر لغة جلّاده؟ وهل يمكن للإبداع أن
يكون وسيلة مقاومة رغم استخدام أدوات القامع؟ بصورة واضحة: هل تُعد الكتابة بلغة
القامع فعل خيانة، أم فعل مقاومة داخل المنظومة نفسها؟
تشبيه الجلّاد والمقموع هو محصّلة ونتيجة مخاض سياسي حدث في
المنطقة، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتسيّد الدولة القومية المشهد، ومن
ثم فشل مشروع الدولة، هو نتيجة تشكّل عروبة سياسية نافية للآخر، تشكّلاً
جوهرانياً عنصرياً قاصراً، يجعل من ذاته المركز، ولا يسمح للآخرين حتى بالهوامش.
كان يمكن للغة العربية
– باعتبارها لغة القرآن والدين – أن تكون اللغة الثقافية لكلّ المنتمين بما عرف
تاريخياً بالحضارة الإسلامية، تماماً كما اللغة الروسية الآن بالنسبة لكثير من دول
الاتّحاد السوفيتي السابق. إن فشل مشروع إيجاد دولة جامعة والديكتاتوريات المتكلّسة والتراث الرمزي والنفسي
والوجداني للقمع باسم العروبة وبتجارب الناصرية والبعثيين حدّ من انطلاقتها للأسف، لذلك أعتقد أن التشبيه الأصلح
لها أنها أقرب للخالة زوجة الأب، التي تحاول أخذ مكان الأمّ قسراً، وفي الوقت ذاته
يراها الأبناء مهمّة لهم في معايشتهم اليومية، كما يصفها الصديق رستم محمود،
وفي ذات الوقت فإن الحديث
عن الخيانة هنا غير منصف؛ الخيانة مصطلح قانوني، له أركان ليس منها أنك مجبر بحكم
المعيشة وصعود السلم الاجتماعي وتولي الوظائف العامة أن تتعلّم لغة غير لغتك، فالظروف
قد تغيّرت هناك الآن، مَن يتعلّم اللغة الكوردية حتى من الإخوة العرب بتجربة شمال
وشرق سوريا بذرائع متعدّدة، بمعنى آخر أعتقد أن الخيانة تحدث حينما تعتاش على
قضاياك الكبرى، حينما ترتزق منها، ولو كنت تحمل شعاراتك القومية أو الإيديولوجية
أو الدينية.
تبعاً لشرط الأثر الذي
افترضته في بداية كلامي، يمكن أن يكون الإبداع بلغة الآخر أيضاً جسراً للتواصل بين
الثقافات، هذا الآخر الذي هو في لحظة ما كان يمكن أن يكون امتداداً لأنواتنا
الجمعية.
– هل
الكتابة بلغة الآخر دائماً شكل من أشكال الاغتراب، أم قد تصبح، في بعض الحالات،
جزءاً من هوية الكاتب المركبة؟
الاغتراب كمصطلح،
وأفترض أن المراد هنا هو (الاغتراب الثقافي)، هو يحدث حتى بلغتك الأمّ. نصوص
أدونيس تشي بالاغتراب، ضمن الثقافة الإسلامية، التي لم تعد تتسع لرؤاه التجديدية، لكن
في الحالة الكوردية للأسف، لا بدّ أن نعترف أنه شعور مركّب ومزمن ومعقّد؛ إذ
يتقاسم عوالمك لغتان، العربية بوصفها لغة الوعي الأعلى، ولغة الثقافة والمعرفة
والفنون، والكوردية بوصفها لغة الحياة المعيشية والوجدانية والمزاح والأمثال
وأغاني الأمّهات في هدهداتهم ونواح الثكالى على موتاهنّ، ولغة النكات والشتائم، وبين
هذين الفضاءين المتشابكين حدّ التناقض، يصبح الاغتراب أكثر مرارة، إذا أيقنت لوهلة،
إنك وإن أردت الإطلاع على أدبك، لا زلت بحاجة لقواميس، لا زلت بحاجة لإتقان لهجاتك،
قد تفهم الحزن والإيماءات، لكن سيفوتك الشيء الكثير، وأنت تستمع لنصّ ما من نصوص
شاعر الكورد الأعظم الغائب الحاضر (شيركو بيه كه س).
شيرين كَدرو «مدوّنة كوردية، تتقن اللغة العربية، وتجيد اللغتين الإنكليزية والألمانية»
– إذا كانتِ
اللغة سلطة، فھل یمكن للكاتب الكوردي أن یتحرّر وھو یكتب ضمن بنیة لغویة لا تعترف
بكینونته؟
ھذا السؤال یشكّل معضّلة رئیسیة ومھمّة في عالم الكتابة،
وبالأخصّ لدى الكتّاب الذین یضطرّون لاستخدام لغة غیر لغتھم الأمّ، للتعبیر عن
مشاعرھم أو لتألیف كتبھم. فاللغات المفروضة علیھم تضع قیوداً عدیدة، وتجعل النصوص
أحیاناً ناقصة من حیث الإحساس، وكأن هناك دائماً شيء مفقود، لذلك یشعر بعض الكتّاب
أحیاناً بشيء یشبه تأنیب الضمیر تجاه لغتھم الأمّ، خصوصاً إذا كانت لغة مھمّشة
وغیر معترف بھا على نطاق عالمي، كما ھو حال اللغة الكوردیة، مقارنة بباقي اللغات
التي أخذت نصیبھا من الانتشار والاعتراف.
ولحلّ هذه المعضّلة، لا بدّ من اتّباع أسالیب متعدّدة، تمكّن
الكاتب الكوردي من إدراج لغته كأساس حيّ في أعماله، ومن بین ھذه الأسالیب:
إدخال كلمات كوردیة قدیمة، وشرحھا في الحاشية أو أسفل
الصفحة، وفقاً لقاموس موحّد، أو تضمین إشارات من الثقافة الكوردیة، تلفت نظر
القارئ، وتثیر فضوله، لمعرفة المزید عن ھذا الشعب وعمق جذوره كذلك، والأهم برأیي،
على الكتّاب الكورد أن یكتبوا نصوصھم أولاً بلغتھم الأمّ، ومن ثمّ یترجمونھا إلى
لغات أخرى، وبھذه الطریقة یحافظون على الأصل، ویصلون في الوقت نفسه إلى جمھور أوسع،
فھناك الكثیر من الجماھیر تفضّل القراءة بلغتھم الأمّ، وھذا العمل لا یساعد فقط في
الحفاظ على الھُویة الكوردیة، وإنما ینمّي لدى الأجیال القادمة القدرة على أھمية التمسّك
باللغة الأمّ في أعمالھم ومواھبھم، فمفتاح الإبداع لدینا یبدأ بلغتنا الأمّ، ومن
ثم یتجلّى في باقي اللغات التي نكتسبھا من المحیط.
– ھل
الاحتفاء العالمي بكُتّاب كورد، یكتبون بلغات أجنبیة، يساهم في (إخفاء) الأدب
الكوردي المكتوب بالكوردیة؟
الاحتفاء العالمي بالكتّاب الكورد، الذین یكتبون بلغات
أجنبیة، یمثّل سلاحاً ذي حدّین. من جھة یعدّ إنجازاً یستحقّ التقدير والفخر، إذ
یرفع ھؤلاء الكتّاب من شأن ثقافتھم ودورها بین الأمم، وتترجم أعمالھم إلى لغات
كثیرة، كدلیل على مدى إبداعھم كشعب عریق، ویُحتفى بھم على المستوى الدولي
والعالمي، وھو أمر له دلالة رمزیة قویة، لشعب تعرّض لقمع لغوي وثقافي طویل الأمد،
وسط سیاسات حاولت طمس ھُویتھم بكلّ الوسائل.
بالإضافة إلى ذلك، إن ھذه الشھرة تذكّر العالم بأن للكورد
حضور فنّی وأدبی قوي، وأن جذورھم الثقافیة حیّة، رغم كلّ الصعاب والتحدّیات التي
یمرّون بھا. لكن الوجه الآخر لھذه الشھرة قاتل أحیاناً للھُویة اللغویة؛ فالكتابة
بلغة أجنبیة بالكامل دون أثر للغة الأمّ أو أسالیبھا حتى، تجعل اللغة الكوردیة شبه
غائبة عن النصوص الأدبیة، وربما إلى دفنھا في الأدب المعاصر، فمثلاً تصبح ھذه الشھرة
أنانیة خاصّة بالكاتب، مجرّد عنوان خارجي یعكس الكاتب وكتبه فقط، دون الغوص في عمق
جذور ھذه الثقافة، التي وُلد منھا ھذا الكاتب، والتي تعتبر بأمسّ الحاجة للتعریف
عالمیاً؛ كونھا مقموعة ومُھمّشة، ولم تنل نصیبھا كسائر اللغات، وبالتالي ھذا الأسلوب
یدفع الكاتب لتجاوز لغته الأمّ، تاركاً خلفه رسالة ناقصة للھُویة الثقافیة.
لذا وللحفاظ على أصالة الأدب الكوردي، لا یكفي أن یُعرف
الكاتب عالمیاً، بل یجب أن یكون جسراً بین لغته الأمّ والإبداع العالمي، أن یبقى
مُحافظاً على جذوره وھو یلمع.
– أتعتقدين
أن الترجمة كافیة لإنصاف الأدب الكوردي المكتوب بلغته الأمّ، أم أن ھناك خیانة في
كلّ ترجمة تُفقد النصّ شیئاً من روحه؟
بالطبع، الترجمة غیر كافیة لإنصاف النصّ الأدبي، ولیست
مقتصرة على اللغة الكوردیة فقط. فكلّ الكتب التي تُترجم الیوم، مھما كانتِ الترجمة
دقیقة، تفقد شیئاً من روح النصّ، وتجرّد الكاتب من القدرة على نقل إحساسه الحقیقي
بالكلمات، أو حتى الإحساس الذي یرید أن یخلقه داخل القارئ.
فالأدیب لا یكتب مجرّد جمل لتصبح صفحات قابلة للنشر، بل
یستخدم اللغة الأمّ كمنفذ للتعبیر عن مشاعره، أفكاره وتجربته الإنسانیة العمیقة،
وساحة لإیصال رسالته بطریقة تناسبه ھو أولاً. اللغة الأمّ لیست مجرّد أداة للتواصل،
بل ھي مفتاح الإبداع، الذي یمنح النصّ طاقته وعمقه وخصوصیته. فعندما تترجم أيّ
عبارة من لغة لا تفھمھا إلى لغتك الأمّ، ستلاحظ أنك غیر قادر على استیعابھا
بمعناھا الحرفي الدقیق، فلكلّ لغة خصوصیتھا وأسلوبھا.
وبذلك عندما یُترجم النصّ، تُفقد أحیاناً الفروق الدقیقة،
التلاعب بالكلمات والمرادفات، أو حتى الإیقاع الداخلي، الذي یخلقه الكاتب دون أن
یشعر، وكذلك المفاھیم الثقافیة التي تحملھا اللغة الأصلیة. ما یجعل القارئ بلغة
أخرى یقرأ النصّ بطریقة مختلفة عن قصده وعمقه الشعوري، وقد یستغرق وقتاً لفھم ما
یقصده بالتحدید. لذلك تعتبر الترجمة وسیلة للتقریب بین الثقافات، لكنھا لا تستطیع
أبداً أن تحلّ محلّ اللغة الأصلیة في نقل تجربة الكاتب بكامل طاقتھا؛ فالأدب لیظلّ
حیّاً، یحتاج دائماً إلى العودة إلى أصله، أيّ لغته الأمّ، التي تعتبر كجسر بین
الفكر والإحساس، بین الكاتب والقارئ، وبین روح النصّ وأثره الباقي في نفوس جمیع القرّاء.
ماجد ع محمّد «شاعر وصحفي كوردي، يتقن اللغتين الكوردية والعربية»:
– هل يكفي
الانتماء العاطفي أو الثقافي لتعويض الانفصال اللغوي، أم أن اللغة الأمّ تظلّ
المعّبر الوحيد إلى جوهر الأنا؟
كلمة الانفصال اللغوي
توحي بالاِنقطاع، ودلالة على أن الشخص المعني بالموضوع هنا يُعاني من التشظّي،
التفرّق والانشقاق، وغدا وضعه وقتذاك كمَن يعيش بجسده في مكان ولكن خياله، إحساسه
وفكره في مكانٍ آخر، ثم إذا كانت ثنائية اللغة بمثابة إشكالية لدى الكاتب الكوردي
أو الكاتب الأمازيغي، فهي لدى أبناء الشعوب التي لا يُعاني أفرادها من الاضّطهاد
القومي أو الإقصاء الممنهج تعبِّر بكلّ وضوح عن حالة الثراء، بما أن صاحبها
بمقدوره تذوّق المنتجات المعرفية في العالم بلسانين، والحالة الأخيرة لا شكّ سيكون
لها نكهة مميّزة عن ذلك، الذي لا يتحرّك إلا ضمن إطار لساني محدّد، كما أن اللغة
الثانية كانت عبارة عن طوق نجاة لدى الكثير ممن حُرموا من تعلّم لغاتهم أو مُنعوا
من تعلّمها أو تداولها، وقد يكون وضع المشار إليه كشخص منفصل بسبب الثنائية
اللغوية، التي يعيشها رغماً عنه أرحب من وضع أقرانه، ممكن أنهم يمكثون في منطقة
لغوية واحدة لا يفارقونها.
وصحيح أن اللغة الأم
قد تكون المنفذ المباشر والمنطلق الأصدق لإيصال الخلجات الذاتية إلى الآخرين بأفضل
السبل وأسرعها، ولكن عندما يكون القاموس الشخصي للكاتب/ة ضئيلاً وغير مهيّأ لنقل
الأحاسيس والمشاعر بأبهى حُلة للآخرين فوقتها على الأغلب ستُنقذ الكاتب/ة اللغة
الأخرى التي يتقنها ليس لأنه يفضلها على لغة الأم إنما لأنها قادرة على تقديم
الفكرة والموضوع بشكلٍ أيسر وربما أكثر حرفية وبلاغة وإتقان؛ ولغة الأم لا تكون
بمثابة القيد إلاَّ عندما تكون قامعة للفكر، أو عندما يشعر الكاتب/ة بأنها محدودة
الانتشار ولا توجد حركة ترجمة نشطها منها إلى لغات أخرى، أو عندما لا يجد الكاتب
قراءً يخاطبهم بتلك اللغة فهنا يشعر المبدع بأنه في عُسرة بينما آفاقه أوسع من
نطاقها الضيِّق.
– هل تُعدّ
الكتابة بلغة «الآخر» أداة تحرّر من قيد اللغة الأمّ، أم استمراراً لقيد آخر؟ وهل
يكون التعبير الأصدق هو ما يُترجم المشاعر، أم ما يُكتب بلسان الهُوية، حتى لو
خانه البيان؟
أما لماذا اللجوء إلى
لغة الآخر والكتابة بها، فهي لها علاقة مباشرة بالظروف السياسية، وفي الكثير من
الأحيان تكون الظروف الموضوعية قابعة وراء اللجوء إلى لغة الآخر، والمحيط
الاجتماعي للمرء له أثر مباشر أيضاً، وعلى سبيل المثال فلو لم يولد كلّ من معروف
الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وبلند الحيدري في بغداد، ولو لم يترعرعوا فيها وبقوا
في بيئاتهم الأصلية – أيّ كوردستان – ربما لكتبوا على الأقلّ جزءاً من نتاجهم
باللغة الكوردية، ولكن المحيط الاجتماعي دفعهم إلى الكتابة بالعربية، وإهمال الكوردية،
والدليل على أهمية المحيط الاجتماعي، فنقرأ بأن الأديب الكوردي عبد الرحمن رحمي
هكاري، عندما كان في إسطنبول، وكان محاطاً بالكورد ألّف ستّة كتب بالكوردية، بينما
عندما كان في المحيط التركي، فكلّ مؤلّفاته كانت بالتركية، ونموذج آخر هو الشاعر الكوردي
وابن مدينة عفرين حامد بدرخان، ففي تركيا كتَبَ أشعاره بالتركية، بينما في سوريا،
ولأنه كان شيوعياً وأصدقاءه من العرب اليساريين فكتب بالعربية، ولكن عندما سكن في
المحيط الكوردي في مدينة حلب، ومن ثم بلدته شيخ الحديد، حينها بدأ الكتابة بالكوردية،
وأصدر ديوانان شعريان بلغته الأمّ.
وبرأيي أنه من أجل
إثبات الهُوية الاثنية، فعندما تفرض على الكاتب الإبداع بلغة معيّنة يرى نفسه فقير
المعجم فيها، فإنك تكبّلهُ وتحرمه من فضيلة التعبير، لأن التعبير لدى الكاتب يكون
من خلال فيضٍ من الكلمات، التي يتقنها، وليس من خلال اللغة التي ينتمي إليها
عرقياً، ولكن جعبته شبه خالية من مفرداتها.
– إلى أيّ
مدى يمكن للأدب أن يكون انتماءً إنسانياً قبل أن يكون انتماءً لغوياً أو قومياً؟
وهل الانتماء إلى لغة ما هو انتماء بيولوجي/ وراثي، أم خيار ثقافي/ وجداني يتشكّل
عبر التجربة والوعي؟
الاِنتماء للإنسانية
جمعاء لا يتعارض مع الاِنتماء القومي للمبدع، إذا ما كان المنتج الذي يقدّمه
يتجاوز الحدود القومية والوطنية، وطالما وجد أيّ قارئ في العالم بأن ما يطرحه ذلك
الكاتب/ة يمثّله في الرؤى والأفكار والتصوّرات، وأنه خير مَن يعبّر عنه، بالرغم من
آلاف الكيلومترات التي تفصل بينه وبين الكاتب/ة، وفي هذا الإطار فكم نقف مذهولين
أمام عبارة أو جملة قالها كاتب ما لا يجمعنا به لا اللغة ولا الثقافة ولا التاريخ
ولا الجغرافيا، ولكننا وجدنا في مكتوبه ما هو قريب منّا، وتخاطب كلماته ذواتنا
ربما أكثر من ذلك الكاتب الذي يعيش في الجوار ويكتب بلغتنا.
شيرين بوظان «شاعرة كوردية، تتقن اللغتين الكوردية والعربية»
– هل الكتابة بالكوردية واجب وجداني وأخلاقي ووطني، أم مجرّد تفضيل شخصي؟
بطبيعة الحال، هي قبل كلّ شيء واجب أخلاقي ووطني؛ فاللغة هي هُوية المرء.
وعندما يبتعد الإنسان عن لغته، فهو بذلك يغترب عن ذاته، إذ لا وجود لانفصال بين
اللغة والهُوية. وباعتقادي، كلّ كاتب يصل عاجلاً أم آجلاً إلى هذه الحقيقة، فيحاول
أن يكتب بلغته الأمّ إلى جانب اللغات الأخرى التي يكتب بها. وهذا الواجب تحديداً
هو ما دعاني إلى كتابة دراسات فلسفية باللغة الكوردية، رغم معاناتي مع المصطلحات
الفلسفية. فعلى الرغم من أن الحقل المعرفي يعجّ بالدراسات الفلسفية، فإن الطالب
الذي يدرس اليوم المناهج الكوردية (الكورمانجية) في غربي كوردستان، يجد صعوبة في
الحصول على مراجع أو دراسات فلسفية. ومن هنا، أرى أنه واجب جماعي أن نشارك جميعاً
في هذه المهمة، حتى وإن كان البعض يردّد أن الترجمة مسؤولية الحكومات، أو أن غياب
دُور النشر الكوردية عائق أمام نشر الكتب.
حتى لو لم تلقَ الكتابة بالكوردية (الكورمانجية) اليوم آذاناً صاغية، فإن
جيلاً كاملاً يدرس مناهج كوردية، ولا بدّ أن يجد أمامه كتباً يقرؤها في المستقبل،
كي لا يشعر بالإحباط بسبب غياب المؤلّفات في مختلف المجالات. لذلك، ينبغي على كلّ
كاتب أن يجتهد في الكتابة في كلّ الحقول، لا أن يحصر نفسه في الأدب كما نرى غالباً.
وهنا أقصد تحديداً وضع غربي كوردستان، إذ يختلف عن وضع إقليم كوردستان العراق، حيث
أصبحتِ الكوردية منذ سنوات لغة رسمية، وتوفّرت هناك وفرة من الكتب في شتى
المجالات، بحيث لا أعتقد أن مكتباتهم تعاني من نقص كبير. غير أن اختلاف اللهجات،
بين السورانية والكورمانجية، يجعلنا غير قادرين على الاستفادة الكاملة من
مكتباتهم. ولهذا فإن من واجبنا أن نغْنِي مكتباتنا في غربي كوردستان بالنتاج الكورمانجي
تحديداً.
– أيساهم الكاتب الكوردي، الذي يكتب بلغة غير لغته الأمّ في «اغتراب
مزدوج»: اغتراب عن ذاته، واغتراب عن شعبه؟ وهل يصبح حينها، عن قصد أو غير قصد،
خادماً في بلاط لغات أخرى؟
صحيح أن الكتابة بلغة أخرى لا تدرج ضمن المكتبة الكوردية، وتبقى مؤلّفات
الكاتب محسوبة على اللغة التي يكتب بها، سواء كانت لغته الأمّ أم لغة أخرى. ولكن
لنكن منصفين: في حالتنا الكوردية، هناك أسباب معروفة للكتابة بلغات أخرى، مثل
العربية والفارسية والتركية، وهي أمور شائعة. كما أن الكتابة بعدّة لغات تعدّ غنى
للكاتب، إذ تبرهن على امتلاكه قدرات وإمكانات متعدّدة. علاوة على ذلك، فإن اللغة
ليست سوى قالب لأحاسيس الإنسان، وكلّما تعدّدتِ القوالب، اتّسعت طاقته على
الإبداع. فلماذا نحصر الإبداع في قالب واحد؟
إن التعدّد اللغوي هو توسّع في حرّية الكتابة. حتى لو صُنِّف الكتاب حسب
اللغة التي كتب بها، فيدرج مثلاً في المكتبة العربية إذا كتب بالعربية، فهذا يبقى
تصنيفاً شكلياً، أما في الجوهر فإن الكاتب الكوردي، حتى وهو يكتب بلغة أخرى، يحمل
في أعماله ملامح المكان والعادات والخلفيات الثقافية لشخصياته وقصصه، مما يُظهر
عمق انتمائه الكوردي. إن المؤلف المبدع يجعل القارئ يعيش في بيئة كوردية حتى لو لم
تُكتب بلغتها، بل وقد يتخيّل القارئ أن الشخصيات تتحدّث بلغتها الأمّ.
ومن هذا المنطلق، أرى أن الكتابة بلغات أخرى هي غنى، بل وفي كثير من
الأحيان حالة إجبارية. وحتى ونحن هنا نتكلّم عن اللغة الكوردية في هذه الصفحات،
فإننا نكتب بلغة أخرى. لكن لا ينبغي أن نجعل هذا مبرّراً دائماً لعدم الكتابة
بالكوردية، خصوصاً في وضعنا الكوردي الراهن. إن الكتابة بلغة الأمّ اليوم واجب على
كلّ كاتب، وهي أشبه بحالة إسعافية، وليست مجرّد رفاهية لإغناء المكتبة الكوردية.
أما عن اغتراب الكاتب عن ذاته وشعبه إذا لم يكتب بلغته الأمّ، فالأمر نسبي.
فأنا أشعر بالاغتراب عندما لا أكتب بلغتي، لكن من ناحية العلاقة بالمجتمع، فإن
المفارقة أننا ككورد نشعر بالاغتراب عندما نكتب بلغتنا؛ لأن الغالبية لا تقرأ بها.
ولذلك يبقى إنتاجنا مهمّشاً ومهملاً في زوايا المكتبات، لغياب القارئ الكوردي.
– حوربت اللغة الكوردية لعقود طويلة، لدرجة أن الكورد كانوا يحتفلون بها
رمزياً. ما الذي يجعل الكتابة بالكوردية اليوم فعلاً تحرّرياً؟
إن ما يجعل الكتابة بالكوردية اليوم فعلاً تحرّرياً لم ينشأ بين ليلة
وضحاها، ولا هو معجزة من صدف التاريخ، بل هو نتيجة تراكم تاريخي وصيرورة طبيعية
لشعب لم يتخلَّ عن لغته. لقد أصرّ الشعب الكوردي على التمسّك بلغته الأم، بخلاف
شعوب أصيلة أخرى في المنطقة، كالسريان والآشوريين، الذين غلبت عليهم العربية ولم
يبقَ إلا القليل منهم يتقنون لغتهم. أما الكورد فقد قاوموا عملية الانحلال
والانصهار في لغات الآخرين، وحافظوا على كينونة لغتهم. وهذا له أسبابه:
فمنذ الأزل عاش الكورد في مناطق جبلية عازلة، ولم يخوضوا تجربة التمدّن
المبكّر. ومن المعروف في علم الاجتماع أن المدنية تجلب معها الاختلاط، وهو أحد
مظاهر التقدّم الحضاري، لكنه يؤدّي أيضاً إلى ذوبان اللغات. غير أن الكورد،
ببقائهم معزولين في الجبال وبعيدين عن المجتمعات المتمدّنة، حافظوا على لغتهم نقية
غير مندمجة. ويكفي مثال حيّ أن أمّهاتنا ما زلْنَ لا يتقنَّ سوى لغتهنّ الأمّ.
من الناحية الثقافية والسياسية أيضاً، ظلّ الكورد في مواجهة دائمة مع الدول
المغتصِبة، حتى بعد اتفاقية سايكس بيكو، التي فرضت لغات الدول المحتلّة على الكورد
قسراً. ومع ذلك، استمرّتِ الثورات والحراك السياسي والجمعيات الثقافية، حتى في دول
المهجر، مما ساعد الشعب على الحفاظ على لغته، وأيقظ حسّه القومي. هذه المقاومة
أسفرت عن إعلان جمهورية مهاباد في شرقي كوردستان، وإقليم كوردستان في الجنوب، حيث
أصبحتِ الكوردية لغة رسمية. وقد لاحظت بنفسي، خلال مشاركتي في معارض أربيل الدولية
للكتاب، أن كثيراً من خريجي الجامعات هناك لا يتقنون العربية، وهو دليل على قوّة
اللغة الكوردية في المجتمع. كان لمكانة الكوردية في المعرض، من خلال دُور النشر والندوات،
أثر يدخل البهجة في النفس.
أما في شمالي كوردستان، فهناك حراك سياسي دائم ونشط، ووجود أقسام للغة
الكوردية في الجامعات، رغم الحصار الشديد من الحكومة التركية وسياسة الدولة
الواحدة واللون الواحد. لكن صيرورة المجتمعات لا تُوقفها محاولات الطمس، والتاريخ يخبرنا
بذلك.
وفي غربي كوردستان، كان الحراك السياسي دائماً نشطاً، وأحزابها غذّت روح
القومية في الناس، مضيفة بُعداً قومياً للغة المحكية. ومع اندلاع الأزمة السورية،
وجد الكورد أنفسهم في موقع الدفاع عن وجودهم، فاستغلوا الفرصة لبناء كيانهم
السياسي. وبدأتِ الكوردية تُدرَّس في مدارس المدن الكوردية، وأصبحت هناك معارض
وندوات ومحاضرات باللغة الكوردية، إلى أن غدت لغة رسمية في المنطقة. هذا الانتصار،
الذي يسجَّل في التاريخ، لم يكن محض صدفة أو معجزة إلهية، بل ثمرة تراكم تاريخي من
معاناة ونضال ومقاومة.
لقد تحولتِ الكوردية إلى فعل تحرّري، وأعطت مساحة واسعة لجعلها لغة
أكاديمية في المدارس والجامعات. إن حرّية الفرد تمنح حرّية أكبر للغته، وعندما
تتحرّر اللغة، يبدع المرء في أفكاره دون قيود. إنها جدلية: حرّية الإنسان وحرّية
اللغة، أيّ خلل في أحد الطرفين يخلّ بالطرف الآخر. لكنهما حين ينهضان معاً، تتحقّق
الكينونة الحرّة للغة والفرد، ويصبح وجود اللغة بحدّ ذاته فعلاً تحرّرياً.
ديلاوَر عمر «فنّان تشكيلي كوردي، يتقن اللغات: العربية والفرنسية والألمانية»:
– ما الدور
الذي تلعبه اللغة الكوردية في تشكيل ملامح الهُوية داخل العمل الفنّي؟
الفنّان ليس مجرّد فرد
يبدع من فراغ، بل هو نتاج أول كلمة نطقها منذ ولادته، تلك الكلمة التي حملت في
طياتها هوية لغته الأولى. فاللغة ليست أداة للتواصل فحسب، بل هي وعاء التاريخ،
ذاكرة المجتمع، ورائحة البيئة التي ترعرع فيها الإنسان. كلّ فنّان يحمل لغته في
داخله كما يحمل قلبه، إذ تنساب هذه اللغة في تفاصيل أعماله، في الألوان، في
الخطوط، وحتى في الصمت الذي يتركه بين ضربات فرشاته.
اللغة تتحوّل داخل
اللوحة إلى طاقة خفية، فهي ليست مجرّد كلمات مكتوبة أو منطوقة، بل ألوان تمتزج
لتعكس الذاكرة الجمعية لشعب أو لمكان. حين يرسم الفنّان، فإنه يستدعي مخزون لغته
الأولى: الأمثال الشعبية التي سمعها، الأغاني التي تربّى عليها، الحكايات التي
شكّلت وعيه. هذه كلّها تتحوّل إلى رموز بصرية تحمل قوّة التعبير.
الفنّ مهما كان معبّراً،
لكن بلا لغة يفقد جذره، أما الفنّ المتجذّر في لغته الأمّ، فيملك القدرة على
مخاطبة العالم بصدق؛ لأن الهُوية، مهما كانت محلّية أو محدودة، تتحوّل إلى جسر نحو
عوالم أخرى، حين تُترجم بصدق عبر الفنّ، وتصبح رسالة تستطيع من خلالها مخاطبة
ثقافات أخرى...
– أترى أن
استخدام رموز أو مفردات من اللغة الكوردية في الفنّ التشكيلي يعطي بُعداً أعمق للهُوية؟
الفنّ، في جوهره، لغة بصرية عالمية لا
تحتاج إلى ترجمة، فهو يمتلك مفرداته الخاصّة وخطوطه وألوانه، التي تحمل رسائل يتلقّاها
المتأمّل العميق. غير أن هذه اللغة البصرية تكتسب عمقاً إضافياً حين تتداخل مع
اللغة الأمّ للفنّان، لتصبح اللوحة مزدوجة التعبير، بصرية ولفظية في آن واحد. إن
إدخال المفردات الكوردية مثلاً في اللوحة التشكيلية ليس مجرّد إضافة نصّية، هي
استدعاء لذاكرة جماعية تمتدّ لآلاف السنين، وتحويل العمل الفنّي إلى وثيقة حيّة
تختزن التاريخ والهُوية.
حين تتجلّى اللغة الكوردية على سطح اللوحة، لا نقرأ كلمات فقط، وإنما نشاهد مشاهدات عبر الزمن، نسمع صدى الأغاني القديمة، ونستحضر قصص الأجداد. كلّ كلمة كوردية تتحوّل إلى رمز بصري يضاعف من قوّة المعنى، ويمنح المتلقّي أفقاً أوسع لفهم العمل. بهذا، يصبح الفنّ ليس فقط انعكاساً لرؤية الفنّان، وأيضاً حواراً بين الماضي والحاضر، بين البصر واللغة، بين الهُوية الفردية والجماعية.
الفنّ التشكيلي
المستنير بالمفردات الكوردية، ينهض كجسر بين الذاكرة والحاضر؛ نافذة تُطلّ على
تاريخ عريق وهُوية صلبة قاومتِ الاندثار. إنه إعلان بصري يؤكد أن الهُوية الكوردية
هي كلمات منطوقة، ألوان، أشكال، وحياة تُرسم، لتبقى شاهدة على الوجود، ودليلاً على
استمرارية الروح، واتجاهاً واثقاً نحو مستقبل أكثر وضوحاً.
– كيف يمكن
للفنّ أن يساهم في حماية اللغة الكوردية من التهميش أو الانصهار الثقافي؟ أيّ
بمعنى آخر: أيمكن للفنّ أن يكون «لغة بصرية» موازية للغة الكوردية، أم أنه مجرّد
انعكاس لها؟
الفنّ لوحة جميلة،
وألوان متناسقة، الفنّ أيضاً وسيلة لحماية اللغة والثقافة من النسيان. كثير من
الفنّانين عندما يرسمون بيئتهم وحياة شعبهم، فهم في الحقيقة يوثّقون لغتهم بشكل
غير مباشر؛ لأن أيّ شخص يريد أن يفهم اللوحة سيبحث عن تاريخ الفنّان وذكرياته،
وسيكتشف أن وراء هذه الألوان لغة وحياة كاملة.
الفنّ بطبيعته يحفظ
اللغة، حتى لو لم تُكتب الكلمات على اللوحة. فالألوان والرموز والأشكال تصبح مثل
كلمات أخرى، تترجم لغة الفنّان المحكية إلى لغة بصرية يفهمها المتلقّي في أيّ مكان
من العالم. وهكذا تبقى اللغة حاضرة، ليس فقط في الكتب أو الأحاديث، وأيضاً في
الأعمال الفنّية التي تنقلها للأجيال القادمة.
بهذا الشكل، يصبح الفنّ
جسراً يحمي الهُوية من التهميش، ويؤكّد أن اللغة هي جزء أساسي من روح الفنّان
وأعماله. كلّ لوحة إذن هي رسالة، تقول: هذه لغتي، وهذه هُويتي، وهذا شعبي
سرمد سليم «شاعر كوردي، يتقن اللغة العربية»:
– هل تُختزل
هُوية الأدب في اللغة التي كُتب بها، أم في الوجع الإنساني الذي يحمله؟
هذا السؤال يطرح
إشكالية فلسفية عميقة، حول طبيعة الأدب وجوهره. فمن منظور مارتن هايدغر، اللغة
ليست مجرّد أداة للتعبير، بل هي «بيت الوجود»، أيّ أنها تشكّل طريقة تفكيرنا
ورؤيتنا للعالم. في كتابه «الشعر واللغة والفكر»، يؤكّد هايدغر أن اللغة تسكننا
أكثر ممّا نسكنها، وأن الشاعر لا يستخدم الكلمات بل «يُستخدم» منها لكشف الحقيقة.
من ناحية أخرى، يقدّم
هانز جورج جادامير في «الحقيقة والمنهج» مفهوماً مهمّاً وهو أن «الوجود الذي يمكن
فهمه هو لغة». هذا يعني أن تجربتنا الإنسانية نفسها مُشكلة لغوياً. لكن هذا لا
يعني أن المحتوى العاطفي أو الوجع الإنساني ثانوي، بل أن اللغة والتجربة متداخلتان
بطريقة لا تقبل الفصل.
والتر بنيامين في «مهمّة
المترجم» يطرح فكرة أن كلّ لغة تحمل «نيّتها» الخاصّة نحو المعنى، وأن الترجمة
تكشف عن اختلاف هذه النوايا. هذا يشير إلى أن اللغة ليست محايدة في نقل المعنى، بل
تشارك في تشكيله. الوجع الإنساني قد يكون عالمياً، لكن طريقة تجسيده في اللغة تضفي
عليه خصوصية ثقافية ونفسية معيّنة.
أدورنو في «النظرية
الجمالية» يذهب إلى أن الأدب الحقيقي يكمن في التوتّر بين الشكل والمضمون، بين
اللغة والتجربة. الأدب العظيم لا يختزل في أحدهما، بل يخلق ديالكتيكاً خلاقاً
بينهما. الوجع الإنساني يحتاج إلى اللغة ليتحقّق أدبياً، واللغة تحتاج إلى العمق
الإنساني لتتجاوز مجرّد اللعب اللفظي.
الوجع الإنساني عالمي،
لكن طريقة تجسيده في كلّ لغة فريدة. عندما يكتب أدونيس «هذا هو اسمي»، فهو لا يقدم
مجرّد بحث هوياتي، بل يستدعي تراثاً شعرياً كاملاً من الحلاج إلى المتنبي. أما
عندما يكتب إليوت «أبريل أقسى الشهور»، فهو يستدعي ذاكرة إنجليزية مختلفة تماماً.
كلاهما يعبّر عن القلق الوجودي، لكن بطرق مختلفة لا يمكن استبدالها. إذن، هُوية
الأدب لا تُختزل في اللغة وحدها، ولا في الوجع الإنساني وحده، بل في التفاعل
الخلاق بينهما - في قدرة اللغة على تحويل التجربة الخاصّة إلى رؤية عامة، وقدرة
التجربة الإنسانية على إحياء اللغة وتجديد طاقاتها التعبيرية.
– هناك مَن
يرى اللغة الأمّ عبارة هن هبة إلهية، فهل يكون التخلّي عنها – حتى بحُسن نيّة –
نوعاً من التفريط المقدّس؟ وأين تقع حدود الانفتاح على الآخر دون ذوبان في الآخر؟
هذا السؤال يستدعي تأمّلاً
عميقاً في مفهوم «المقدّس اللغوي»، وعلاقة الإنسان بلغته الأولى. هيرمان كوهين،
الفيلسوف اليهودي، يرى أن اللغة الأمّ تحمل «الروح القومية» والذاكرة الجمعية، وأن
التخلّي عنها يعني فقدان جزء من الهوية الأصيلة. لكن هذا الموقف يواجه تحدّياً من
فلاسفة آخرين.
إدوارد سعيد في «تأمّلات
حول المنفى» يقدّم منظوراً مختلفاً. بوصفه كاتباً فلسطينياً يكتب بالإنجليزية، يرى
سعيد أن المنفى اللغوي قد يكون مصدر ثراء وليس فقراً. اللغة الثانية تتيح رؤية
جديدة للذات والعالم، وتخلق مسافة نقدية مثمرة مع الثقافة الأصلية. «المنفي
الحقيقي»، كما يقول سعيد «لا يستقرّ في لغة واحدة أو ثقافة واحدة، بل يعيش في
الفضاء بينهما».
فيلهلم فون همبولدت
يقدم مفهوم «النظرة العالمية للغة»، حيث كلّ لغة تحمل رؤية خاصّة للعالم. من هذا
المنظور تعلم أن اللغة الجديدة ليست خيانة للأولى، بل إثراء للوعي الإنساني. كلّ
لغة تكشف جانباً من الحقيقة لا تستطيع أخرى كشفه.
ميخائيل باختين في
«حوارية اللغة» يذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكّداً أن الوعي الإنساني نفسه «متعدّد
الأصوات». الإنسان المبدع يحتاج إلى أكثر من لغة واحدة حتى يثري إبداعه، من خلال
الحوار بين اللغات والثقافات المختلفة.
«التفريط المقدّس»
مفهوم يزعجني فلسفياً، وشخصياً أعتقد بأنه يحتاج إعادة نظر. فهو يحمل نبرة أخلاقية
قاسية، تجعل الكاتب متّهماً بالخيانة مهما كانت ظروفه. فأمين معلوف في «ليون
الأفريقي» لم يخنِ العربية عندما كتب بالفرنسية، بل قدّم الثقافة العربية للعالم
بطريقة لم تكن ممكنة لولا إتقانه للغتين. وإدوارد سعيد في «الاستشراق» كتب
بالإنجليزية؛ ليفكّك الخطاب الاستعماري من الداخل، مستخدماً لغة المستعمر ضدّه.
هذا نوع من المقاومة الذكية وليس استسلاماً.
الحقيقة، أن العلاقة مع
اللغة الأمّ معقّدة ومتغيّرة، أحياناً نحتاج للمسافة لنرى بوضوح، وأحياناً تصبح
اللغة الثانية هي الفضاء الوحيد للحرّية. جابر عصفور عندما كان يكتب نقداً
بالعربية وأبحاثاً أكاديمية بالإنجليزية، لم يكن يخون أحد اللغتين، بل كان يستخدم
كلّ لغة في السياق الأنسب لها.
بالعودة إلى المقدّس.
المقدّس الحقيقي لا يكمن في المحافظة الجامدة على الأصل، بل في القدرة على النمو
والتطوّر دون فقدان الجذور. الحدود بين الانفتاح والذوبان تتحدّد بالوعي النقدي
والحفاظ على التوتّر الخلّاق بين الهُويات المتعدّدة.
في ظلّ غياب
«المؤسّسات اللغوية» القادرة على توحيد اللغة الكوردية، هل يكون الدفاع عن الكتابة
بالكوردية مقاومة خالصة، أم عبئاً إضافياً على الكاتب؟
يضعنا هذا السؤال أمام
معضّلة سياسية ثقافية معقّدة، تتعلّق بمصير اللغات المهمّشة في عالم متزايد الهيمنة
اللغوية. أنطونيو غرامشي في «دفاتر السجن»، يطوّر مفهوم «الهيمنة الثقافية»، حيث
تفرض الطبقة المهيمنة رؤيتها للعالم من خلال المؤسّسات الثقافية، ومن ضمنها اللغة.
من هذا المنظور، الكتابة بلغة مهمّشة مثل الكوردية تصبح شكلاً من أشكال المقاومة
المضادّة للهيمنة.
بيار بورديو في «اللغة
والقوّة الرمزية» يحلّل كيف تصبح بعض اللغات «رأسمالاً رمزياً»، يمنح أصحابها
امتيازات اجتماعية واقتصادية، بينما تُحرم لغات أخرى من هذه المكانة. الكاتب الذي
يختار الكتابة بالكوردية يتخلّى طوعاً عن الرأسمال الرمزي للغات المهيمنة، وهذا
اختيار محمّل بالمعنى السياسي والأخلاقي.
ميشيل فوكو في
«أركيولوجيا المعرفة» يرى أن المعرفة والخطاب مرتبطان بالسلطة. اللغات المهيمنة
تشكّل «نظم معرفية» تحدّد ما يُعتبر معرفة مشروعة وما لا يُعتبر كذلك. الكتابة
بلغة مهمّشة تتحدّى هذه الهيمنة المعرفية، وتدعي حقّ هذه اللغة في أن تكون وسيطاً
للمعرفة والإبداع. لكن والتر بنيامين في «العمل الفنّي في عصر إعادة الإنتاج
التقني» يلفت انتباهنا إلى تحدٍّ آخر: في عصر العولمة والتكنولوجيا، تفقد الثقافات
المحلية هالتها الأصلية، وتصبح معرّضة للاختفاء. هنا تكمن مفارقة الكاتب الكوردي
هل يكتب لجمهور محدود بلغة أصلية، أم يكتب لجمهور عريض بلغة مهيمنة؟
فرانتز فانون في «معذّبو الأرض» يقدّم منظوراً
مهماً حول «عنف اللغة الاستعمارية»، بالنسبة له فإن استخدام لغة المستعمر قد يكون
ضرورة تكتيكية، لكن الحفاظ على اللغة الأصلية يبقى شكلاً من أشكال «مقاومة
الاستيعاب الثقافي». الكتابة بالكوردية إذن فعل تحرّر، حتى لو كان محدود الانتشار.
إدوارد سعيد يقدّم حلّاً
جدلياً لهذه المعضلة في مفهوم «المثقّف المتنقّل»، فالمثقّف الحقيقي لا يقيّد نفسه
بحدود لغوية أو ثقافية، بل يتحرّك بين الثقافات واللغات ليخدم قضايا العدالة والحرّية.
وبناء عليه يمكن للكوردي أن يكتب بلغته، للحفاظ على تراثه وهُويته، وبلغات أخرى
لإيصال قضيته إلى العالم.
في النهاية، الكتابة
بالكوردية تضع الكاتب في موقف صعب: إما أن يكتب لجمهور محدود بلغة محبوبة، أو
لجمهور واسع بلغة قد تشعره بالاغتراب. لكنني لا أرى هذا «عبئاً» بقدر ما أراه
اختياراً أخلاقياً وسياسياً له كرامته الخاصة. الكتابة بلغة مهمّشة فعل حبّ وعناد
في آن واحد. إنها رسالة للعالم أن هذه اللغة موجودة وتستحق البقاء، ورسالة للمجتمع
الكوردي أن ثقافته قادرة على الإبداع والتجديد، لكنها أيضاً تضحية شخصية قد تحدّ
من انتشار الكاتب وتأثيره.
في هذه الأنطولوجيا،
تتكشّف أمامنا صورة فسيفسائية غنية، حول علاقة اللغة بالهُوية الكوردية، حيث تنطلق
الآراء من خلفيات موسيقية وأكاديمية وتشكيلية وأدبية، لتتلاقى عند مركزية اللغة
الأمّ، وتختلف في طرق مقاربتها.
يرى الموسيقيّ وعازف العود
ستار صدقي، أن الفنّ واللغة وجهان لتجربة واحدة؛ فالموسيقى تستطيع أن تعبّر دون
كلمات، لكن اللغة تظلّ شرطاً لتطوير واستمرارية الفنون، فيما يذهب ديلاوَر عمر إلى
أن اللغة تتحوّل داخل اللوحة التشكيلية إلى ذاكرة جمعية، وأن استدعاء المفردات
الكوردية في العمل الفنّي يمنحه عمقاً إضافياً ويحوّله إلى وثيقة حيّة للهوية.
من جهتها، تؤكّد الأكاديمية
في الإرشاد النفسي سلمى جمّو أن اللغة تشكّل وعينا وهُويتنا من خلال المجتمع
والذاكرة، وأن الإنسان مهما أتقن لغات أخرى يظلّ يفكّر ويشعر بلغة واحدة هي الأقرب
إلى وجدانه. أما ميران أحمد فيطرح جدلية أكثر مرونة، إذ يعتبر أن اللغة تملكنا منذ
الطفولة، لكنها أيضاً مجال للتمرّد والإبداع، وأن الكتابة بالعربية بالنسبة له لا
تنفي كورديته وإنما توسّع مساحتها التعبيرية والذهنية.
في المقابل ترى الروائية
هيفا نبي أن الكتابة بلغة الآخر هو خضوع لضرورات الواقع وليس نفياً للذات، لكنها
تفقد جزءاً من الإبداع، مؤكّدة أن غياب التعليم بالكوردية يجعل المسؤولية مضاعفة.
ويذهب أحمد عثمان إلى أن المعيار الحقيقي للأدب هو أثره لا لغته ولا موضوعه،
فالكتابة بلغة الآخر قد تكون مقاومة من داخل منظومة القامع، وليست خيانة كما يظن
البعض. وفي هذا السياق تحذّر شيرين كَدرو من أن الكتابة بلغة غير معترف بها تُشعر
الكاتب بالنقص، وتقترح أن يُكتب النص بالكوردية أولاً ثم يُترجم، مشيرة إلى أن
الاحتفاء العالمي بالكتّاب الكورد الذين يكتبون بلغات أجنبية قد يخفي الأدب
الكوردي المكتوب بالكوردية.
أما الصحفي ماجد ع
محمّد، فيرى أن اللغة الثانية قد تكون طوق نجاة للمقموعين، وأن الانتماء الإنساني
يتقدّم على الانتماء اللغوي أو القومي، معتبراً أن لغة الآخر قد تسعف الكاتب حين
تعجز لغته الأمّ عن تلبية طموحه. وتشدّد شيرين بوظان على أن الكتابة بالكوردية
واجب أخلاقي ووطني، قبل أن تكون خياراً شخصياً، وتربط بين صمود الكوردية والفعل
التحرّري، وإن كانت ترى أن التعدّد اللغوي يظلّ غنى للكاتب وتوسيعاً لحريته
الإبداعية. في حين يخلص ابن شنكال سرمد سليم، إلى أن الأدب لا يُختزل في اللغة
وحدها، ولا في الوجع الإنساني وحده، وإنما في التفاعل الخلّاق بينهما، مؤكّداً أن
التفريط باللغة الأمّ يعني خسارة الذاكرة الجمعية، التي تمنح الأدب صدقيته وعمقه.
تتجلّى من خلال هذه
الرؤى والمقاربات حقيقة أن اللغة بالنسبة للمبدع الكوردي ساحة صراع بين القيد
والتحرّر، بين الخصوصية القومية والامتداد الإنساني، بين الذاكرة الجمعية والحاضر
الضاغط، لتظلّ الكوردية في النهاية أكثر من لغة، هي فعل مقاومة، وذاكرة حيّة، وجسر
يربط بين الأنا والآخر.
في ختام الكلام، وبين
تشعّب الآراء وتنوّع الأصوات الكوردية الشابّة، يتّضح أن سؤال اللغة ليس سؤالاً
لغوياً فحسب، هو سؤال وجود، كرامة، وهُوية. ولعلّ خير ما نختم به هذه الرحلة في
أعماق الوجدان الكوردي، هو ما كتبه الأمير جلادت بدرخان – رائد الصحافة الكوردية –
في الذكرى السنوية الأولى لمجلّته «هاوار»، حين قال:
«يجب أن نعلم أن اللغة هي عنصر من عناصر وجودنا، فبدونها لا يمكننا العيش مع الآخرين كشعب حرّ، يتميَّز بالعزّة والفخار. وبديهي أن كلّ شعب هو هكذا في موقفه تجاه لغته، إن الشعب المُستعمَر الذي لم ينسَ لغته، هو مثل الأسير في الزنزانة ومفاتيحها معه، يستطيع الخروج يوم يريد، خلافاً للذي ينسى لغته». هكذا، لا تبقى اللغة مجرّد أداة للتعبير، إنما تصير المفاتيح التي تُبقينا شعوباً قابلة للحياة والحرية.
إدريس سالم – شاعر
وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية
«بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.
عمل مدرّساً للغة
العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة.
محرّر وعضو في موقع
وجريدة «سبا» الثقافيّة.
مدير «مكتبة فيرمين
للكتاب» في تركيا.
من مؤلّفاته:
1 – «جحيمٌ حيٌّ»:
أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تمّوز 2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)، والطبعة الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).
2 – «مراصدُ الروحِ»:
ثاني عمل أدبيّ له في
الشعر، صدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (أيّار 2025م).