«الألم طاقة وجودية خلّاقة: نحو فهم فلسفي للأنوثة والكتابة والولادة الرمزية، في القصيدة الوجدانية المعاصرة».
تتّخذ قصيدة «حينما
يزهر غصن الألم»، موقعاً خاصّاً، في الحقل النثري الوجداني المعاصر؛ لما تنطوي
عليها من إعادة تعريف للعلاقة بين الذات والأنوثة والحياة؛ إذ تقدّم الشاعرة
والمدوّنة الكوردية، ديلان تمّي، نصّاً يتأسّس على ثنائية الاعتراف والتمرّد، ويتراوح
بين الحنين والجرأة. ليغدو الألم في تجربتها هذه مادّة جمالية قابلة للتشكّل، وغصناً
يُزهر بدلاً من أن ينكسر أو يعطب.
فالقصيدة تمثّل انبثاق
الوعي الأنثوي الحديث، القادر على تحويل الجرح إلى بنية رمزية، تعيد إنتاج الوجود
من منظور جمالي تأمّلي، لتثبت أن الشعر قادر على حلّ المعضّلات الاجتماعية
والنفسية. خاصّة
وأنها تسعى إلى استعادة مركز الذات، الذات التي هي كينونة فاعلة في عالم متحوّل،
حيث تحوّل الشعر إلى وسيلة معرفية لاستنطاق داخلها المبعثر، وإعادة بناء هوية
تتجاوز حدود الجسد واللغة.
تجربة شعرية حديثة،
تنبض بالرمز والأنوثة والوجدان، وتكشف عن امرأة تواجه انكسارها بشجاعة الجمال
وقوّة الحلم، لترسم ملامح حياة، تتجدّد رغم الألم، وروح تسعى إلى الخلاص من الخيبة
والذبول وربما الانكسار أيضاً. إنها قصيدة تُعيد تعريف الأنوثة، كطاقة تجمع بين المقاومة
والاستسلام، تبحث دائماً عن الضوء، وسط عتمة الانطفاء. فتقول:
«أريدُ
وردةً حيّةً،
تجعلُني
أثملُ في ثوبي الربيعيِّ الأصفرِ،
تلملمُ
بقايا أنوثتي المغبرَّةَ في جيبِ المسافاتْ،
وترقّعُ
رقصتي الأحاديةَ بخطواتِها الثلاثِ إلى الخلف،
كأنّني
بجعةٌ شقيّةٌ، تراقصُ وَهمَها أمامَ المرآة…
بلا
خجلْ.
أريدُ
وردةً حيّةً،
تُعيدُ
لي إشراقةَ روحي،
وتطردُ
الظلامَ عن ظلِّ وجهي، الذي انزلقَ منّي،
وانصبَّ
في خيبةٍ ترفضُ الحياةْ.
أريدُها
حمراءَ كالدمِ،
لا
بنيّةً،
طريّةً،
أخافُ
على يديّ إن داعبْتُها،
وعلى
الياسمينِ من على كتفي أن يذبلَ،
ويذبلَ
حلمي بوردةٍ أُحاديةٍ أزرعُها في قلبي،
وأُحنِّطُها
بين كتبِه اليتيمةْ،
التي
تُوبّخُني كلّما يزهرُ فيَّ غصنُ الألمْ.
أريدُ
وردةً حنونةً،
تجعلُني
أُحبُّ الحياةَ بقربٍ،
تلثُمُ
شفتيَّ بألقها،
وتُجفّفُ
دمعي المُخمَّرَ إن فاضْ.
أريدُها
أنانيّةً،
تسقي
غرورَها بماءِ الكبرياءِ،
ولا
تنحني لتراكماتِ الندمِ المختزنةِ في صدرِها.
أريدُها
مجنونةً،
تُغنّي
للخريفِ بعشقٍ،
لكن
لا تَركَعْ،
فتمسحُ
بؤسي بابتسامةٍ نقيّةٍ،
وتُشمِّرُ
عن ساعديها،
لِتُنقِذَ
ما تبقّى من تهشّماتِ امرأةٍ
كانَتْ
تحلمُ،
فَتكلَّلَ
حُلمُها الوحيدُ بالانكسارْ».
تركّز القصيدة على البوح الذاتي، والبحث عن المعنى من خلال الرمز
تتقدّم هذه القصيدة،
التي تنتمي بوضوح إلى شعر النثر، وبالتحديد إلى النثر الوجداني التأمّلي، ذي
النبرة الوجودية الأنثوية؛ القائم على إيقاع داخلي نابع من التكرار والتنغيم، وعلى
توازن تركيبي يحقّق انسجاماً بين البنية اللغوية والدلالة الشعورية. كما يندرج في
إطار التيّار الوجداني الحديث، الذي يركّز على البوح الذاتي، والبحث عن المعنى من خلال
الرمز. وتشكّل الوردة في هذا السياق محوراً مركزياً في بناء الصورة الشعرية، فهي رمز
فلسفي للحياة والرغبة والأنوثة والانبعاث، ما يجعل القصيدة تتجاوز الغنائية
العاطفية إلى تجربة داخلية، تتأمّل الذات وعلاقتها بالوجود، بروح أنثوية متعبة،
تبحث عن خلاصها في رمز بسيط ومركّب في آن معاً: «الوردة الحيّة».
الوردة كائن مخلِّص،
تودّ الشاعرة أن تنفخ فيه من روحها، لتعيد إليها معنى الوجود. تبدأ القصيدة
بإيقاعٍ رغائبيّ «أريد وردة حيّة»، كأن هذا
التكرار محاولة لاستحضار المعجزة، لفتح بوّابة الحياة في وجه الخيبة والذبول. لتكرّر
الطلب وتُقنع ذاتها أكثر ممّا تخاطب الآخر، وكأنها تستدعي الحياة عبر اللغة نفسها
ونداءاتها المتكرّرة.
تعبّر جملة «تلملمُ بقايا أنوثتي المغبرَّةَ في جيبِ المسافات»،
عن الشرخ الداخلي للأنوثة، جوهراً حيوياً وذاكرة مهدّدة بالذبول. فوضع «البقايا»
في «جيب المسافات» يختصر هذا الاغتراب الزمني والمكاني؛ بين ما كانت عليه الشاعرة،
وما صارت إليه. أما قولها «وترقّعُ رقصتي الأحاديةَ
بخطواتِها الثلاثِ إلى الخلف»، فهو من أجمل صور النصّ؛ إذ يوحي الرقص
الأحادي بالعزلة، بالعجز عن الانسجام مع الآخر، أو حتى مع الإيقاع، فيما تأتي الوردة
لتمنح الحركة والتوازن، لكنها تفعل ذلك عبر خطوات إلى الخلف، في إشارة إلى أن الشفاء
لا يتحقّق إلا بالعودة إلى الأصل، إلى الجرح وذاكرة الماضي.
الوردة الحيّة في
المقاطع اللاحقة، تتطوّر وتتحوّل إلى مرادف للنور والدفء والانبعاث، كما في قولها:
«تُعيد
لي إشراقة روحي،
وتطرد
الظلام عن ظل وجهي».
جملتان تشيّدان مقابلة
دلالية دقيقة بين الحياة والموت، الضوء والعتمة، الأمل واليأس. الوجه المنزلق
والمنصبّ في خيبة يرفض الحياة، يعكس ذوبان الكيان الأنثوي في حزن غامر. غير أن
القصيدة لا تستسلم تماماً، فصوتها يحمل نبرة تحدّ خفية، نبرة مَن لا يزال يرى في
الجمال وسيلة للنجاة والشفاء.
كلّما حاولت الشاعرة أن تحيا، ازداد فيها الألم فرحاً وازدهاراً
أما اختيار اللون
الأحمر للوردة لم يكن اعتباطياً؛ فهو لون الدم والولادة والرغبة والحياة الحرّة،
لكنه أيضاً لون الألم والجرح والحزن والتراب، ما يجعل الوردة الحمراء استعارة
مزدوجة تجمع بين اللذّة والفقد. حين تقول: «أخاف على
يديّ إن داعبتها»، يتجلّى ذلك الخوف العذب، الذي يلازم الحبّ النقي،
الخوف من أن يتكسّر الحلم بمجرّد لمسه. في هذه اللحظة تتماهى الوردة مع الكائن
الداخلي للشاعرة، فلا تعود تفصل بين ما هو خارجي وما هو ذاتي، وإنما تغدو الوردة
امتداداً لنبضها الشخصي.
«وأُحنِّطُها
بين كتبِه اليتيمةْ،
التي
تُوبّخُني كلّما يزهرُ فيَّ غصنُ الألمْ».
في هذا المقطع تتضح نزعة
ميتافيزيقية خالصة؛ فالوردة، بعد أن كانت طلباً للبعث، تتحوّل إلى ذاكرة محنّطة.
والكتب اليتيمة، التي فقدت قارئها، تكتسب صوتاً، تُوبّخ الشاعرة؛ لأنها كلّما حاولت
أن تحيا، ازداد فيها الألم فرحاً وازدهاراً. ثم تتطوّر وترتفع النبرة في اتّجاه الصعود
الوجودي، إذ تنتقل تمّي من الطلب الخافت إلى الإصرار الجريء:
«أريدُها
أنانيّةً،
تسقي
غرورَها بماءِ الكبرياءِ،
ولا
تنحني لتراكماتِ الندمِ المختزنةِ في صدرِها».
هنا تتحوّل الوردة إلى
ذات فاعلة، تمارس حقّها في الكبرياء، وتعيد الاعتبار لقيمة الأنانية، لكونها شكلاً
من أشكال حفظ الكرامة. فالأنوثة هنا هي بالقدرة للحفاظ على الذات، والكبرياء شرط
الحبّ، والأنانية وعي بالذات ورفض للذوبان في الآخر. تأتي بعد ذلك المفارقة:
«أريدُها
مجنونةً،
تُغنّي
للخريفِ بعشقٍ،
لكن
لا تَركَعْ...»، فتبلغ القصيدة ذروتها الوجدانية والفكرية؛ فالغناء للخريف
احتفاء بالموت الجميل، بالذبول الواعي، لكنه رفض في الوقت ذاته للانحناء أمام
الفناء. تلك المفارقة تُنقذ النصّ من المأساوية المطلقة، وتمنحه بُعداً فلسفياً،
وهو أن نحبّ نهايتنا، لكن دون أن نركع لها.
الوعي بالذات يمنح القصيدة عمقها الحقيقي
هي قصيدة مبنية على
بنية تناغمية، يتوالى فيها الضوء والظلام، كأنهما موجتان تتناوبان في نَفَس
القصيدة. حين تقول:
«تُعيدُ
لي إشراقةَ روحي،
وتطردُ
الظلامَ عن ظلِّ وجهي، الذي انزلقَ منّي»
وبذلك تخلق تمّي انتقالاً
حسّياً بينهما، يجعل القارئ يعيش تجربة التحوّل ذاتها. الوجه المنزلق إلى الخيبة
رمز لانمحاء الهوية، لكن عودة الإشراقة تعني الولادة مجدّداً من رحم الألم. وبهذه
الطريقة، تتجاوز القصيدة المعنى المباشر للحزن إلى تأمّل فلسفي في إمكانية الشفاء
من الانكسار عبر الجمال.
إن ما يمنح القصيدة
عمقها الحقيقي هو وعيها بذاتها، فهي تعرف أنها تكتب عن الألم، لكنها لا تمجّده، وتحوّله
إلى شكل من أشكال المقاومة. الألم في القصيدة شرط لولادة جديدة. لهذا، تختم بإشراق
رمزي، يعلن انتصار الحياة على الخيبة:
«كانَتْ
تحلمُ،
فَتكلَّلَ
حُلمُها الوحيدُ بالانكسار».
إلا أن هذا الانكسار
نفسه يصبح تاجاً للحلم، لا نهايته. وفي هذه المفارقة، تُعيد الشاعرة تعريف مفهوم
الفشل، فالهشاشة سقوط وبداية لتشكّل آخر للذات، لكنها تعود أيضاً لتبدأ بإعادة
تعريف الوردة، عبر صفة صادمة في السياق الشعري المعتاد:
«أريدُها
أنانيّةً،
تسقي
غرورَها بماءِ الكبرياءِ،
ولا
تنحني لتراكماتِ الندمِ المختزنةِ في صدرِها».
إن الأنانية التي
تقصدها الشاعرة، هي حقّ الكائن في ذاته، عن رغبة في استعادة الكرامة من خلال
الكبرياء، ولكن أين أنانية أن تكون أنانياً في سبيل الآخر الصادق النقي مع تفاصيل
حياة مشتركة؟ إذاً المشاعر الأنانية هنا أنانية بحدّ ذاتها. هذا التناقض بين
الوردة (رمز الرقّة والعطاء)، والأنانية (رمز الحماية والحدود)، والأنانية الأخرى
(تدمير الآخر أو تشتيته) يُنتج طاقة شعرية قوية. فالشاعرة في عمقها، تطلب وردة
تُشبهها، لتبقى حيّة، ولو عبر الغرور.
في ختام القصيدة، تقول
المدوّنة الكوردية:
«لِتُنقِذَ
ما تبقّى من تهشّماتِ امرأةٍ
كانَتْ
تحلمُ،
فَتكلَّلَ
حُلمُها الوحيدُ بالانكسارْ».
هنا تتكشّف كلّ طبقات
السرد الداخلي، الوردة صارت صورة ميتافيزيقيّة للذات. إنها الجزء الحيّ الذي يحاول
إنقاذ الأنقاض والخيبات. الانكسار وكأنه اعتراف متصالح، بـأن الوعي بالخسارة هو
شكل من أشكال النضوج، والحلم الذي تكلّل بالانكسار ترك أثراً من الجمال والصدق،
ولكن ماذا عن الخسارة والانكسار لو كانتا بآثار ونتائج نفسية كارثية مشتركة؟
«حينما يزهرُ غصنُ الألم»، تنتمي إلى خطاب شعري أنثوي وجودي، يتقاطع مع تيار تأمّلي، يرى في الكتابة وسيلة للنجاة أكثر منها للتعبير
على صعيد آخر، تعثّرتِ
القصيدة، في الإفراط العاطفي، الذي يجعل بعض المقاطع أقرب إلى البوح الشخصي منه
إلى الشعر الفنّي المتوازن. إذ تتكاثف العبارات الوجدانية إلى درجة تُضعف التركيب
البنائي، وتحدّ من التوتّر الجمالي بين الصورة والمعنى. كما أن تكرار جملة «أريدُ وردةً حيّةً»، على الرغم من وظيفتها
الإيقاعية، أفقد النصّ شيئاً من تنوّعه الداخلي، فتحوّلت إلى تكرار دلالي أكثر من
كونها لازمة شعرية حاملة للتطوّر الدرامي. إضافة إلى ذلك، هناك بعض الصور تتجاور
دون رابط عضوي قوي، فتبدو كأنها انبثاقات لحظة شعورية، لا تصهرها وحدة دلالية
متماسكة.
أما على المستوى
اللغوي والإيقاعي، فأرى أن القصيدة تعاني من تفاوت في الصياغة الموسيقية بين
المقاطع؛ فبعض الأسطر مكثّفة ومشحونة بالرمز، في حين تنزلق أسطر أخرى نحو المباشرة
الخطابية. كذلك يلاحظ اعتماد الشاعرة على تراكيب وصور تقليدية مثل «تلثُمُ شفتيَّ بألقِها»، أو «تجفّفُ دمعي المخمّر»، ممّا يضعف من جدّة الصورة
الشعرية. مع تعثّر في انسيابية الإيقاع؛ بسبب طول الجمل وتعدّد أدوات العطف، ما
يجعل القراءة أقلّ سلاسة. لو تمّ ضبط الإيقاع الداخلي والتقليل من الاسترسال
العاطفي، لكان النصّ أكثر تماسكاً وعمقاً من الناحية الفنّية.
يمكن القول إن «حينما
يزهرُ غصنُ الألم»، تنتمي إلى خطاب شعري أنثوي وجودي، يتقاطع مع تيار تأمّلي، يرى
في الكتابة وسيلة للنجاة أكثر منها للتعبير. فهي تُحوّل الجرح إلى كتابة، والكتابة
إلى شكل من أشكال الحياة. لا تروي حكاية بقدر ما تُمارس طقسها الداخلي، حيث تمتزج اللغة
بالأنفاس، والصورة بالاعتراف، والرمز بالواقع. وفي وفي هذا المزج، تتحقّق معجزة
الشعر، وهو أن يُزهر غصن الألم حقّاً، وأن يُعاد بناء المعنى من ركام الخيبة،
بروحٍ لا تزال تؤمن بأن الجمال خلاص.

