-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

الشّاعر


 
بقلم : زوهراب عزيز
دخلتُ بهدوء بعد أن طرقت الباب المواري ولم يرد على طرقي لبابه الخشبي الّذي لا يُغلق كان كعادته يجلس وسط الفوضى الّتي خلقها عن قصدٍ أو عن لا مبالاة ، سريرٌ يعلو عن الأرض مقدار شبر غير مرتب ومغطىً بشكلٍ جزئي بشرشفٍ أصفر (كان في الأصل لونه أبيض) وإبريق شايٍ فارغ على ما أعتقد وحول الأبريق بعض الكاسات فيها بقايا الشاي ، وهو جالس على وسادة وعاكف على الكتابة ، حتى إنّه لم يرفع رأسه المُنحني ولم يستقم ليردّ سلامي .

طلب منّي عدم التكلّم معه إلى أن ينتهي من تدوين الوحي الذي نزل عليه من الفراغ والفوضى ، وقال لي على عجالة وكأنه يقبض على فريسة ويخشى هروبها : إن رغبت بشرب الشاي أو القهوة إذهب واغسل الأواني والإبريق وحضّر ما ترغب به وإن أردت شرب بعض العرق اسكب لنفسك ولكن ليس لدي ثلج ، تستطيع الذهاب للدكان واحضار بعض الثلج وشيئاً للأكل لي ولك .

ثم ابتسم دون أن يرفع رأسه أو يترك القلم .

ذهبت لإحضار الثلج و بعض المعلبات وعدتُ لأراه على حالهِ ، فجلستُ دون أن أتكلم وسكبت له ولي كأسين من العرق وأضفت الثلج ووضعت كأسه على طاولته الّتي لم أجد مكاناً للكأس عليها إلا عندما وضعت كتبه المُصفرّة من القِدم جانباً ، أشعل سيجارةً وبدأ يحتسي الشّراب وكأنّه يوازن بين كمية الشراب والسيجارة كي يُنهي الشرب والتدخين سوياً دون أن يترك القلم والورقة الّتي يدوّن عليها كتابته .

بعد وقتٍ وجيز كنتُ قد انهيت كأسين ولم اسكب له الثانية رأيته يرفع رأسه وقال: مُبتسماً لقد اِنتهيت .

قلتُ له بأني أيضاً سأنتهي إن شربتُ المزيد.

فقال : إذا لننتهي سوياً .. اِسكب المزيد ، أودّ أن أثمل .

فشربنا للثمالة دون أن ننتبه لعدد الكؤوس الّتي شربناها ولكن كنتُ قد ثملتُ تماماً ولم أرَ شيئاً سوى جلوس صديقي الشّاعر وهو يلفُّ معطفه المُغبر حول جسده ويقول بحزن مبلّل بالدّموع : لو كنتُ في مكانٍ آخر لصنعوا لي تمثالاً نحاسياً في وسط المدينة .

ثم اِلتفت إلي وقال باِبتسامة مكسورة: ألا أستحقُّ ذلك .

لم استطع الرد لأنّ الغصّات كانت تأكل قلبي لحالتهِ الحزينة وكلامهِ البريء .

وضع يده تحت رأسه وأغمض عينيه وهو يتحدّث إلي وكأنّه مريضٌ يهذي : هل تعرف ؟ الكلامُ الجميل والمديح الّذي أتلقّاهُ ممن يقرأ قصائدي وقصصي لم تعد تغريني ، أنهم يقرأون وجعي ويصفقون لهُ دون أن يسألوا عمّا يتسبّب لي بذلك الألم المكتوب على قلب ورقةٍ بريئة ، الورقة يا صديقي تحملُ وتَحتملُ ألمي ، أمّا القُرّاء المُصفقون يدخل كلامي قلوبهم ويخرج سريعاً كأنهم فقراء و صافحوا حسناء ارستقراطية واِبتعدوا عنها ، تبقى لهم الذّكرى ، ذكرى كلامي ثم يتركوني مع بعض المديح الّذي لا يُشبع جوعي ولا يُسقي ظمأي ، تباً لنا .

سمعتُ ذلك دون أن أحاول التخفيف عنه أو أن أقدم له بعض الأمل ، ربما أردته أن يُكمل كلامه المعجون بحزنٍ أسود ليبكي فالبكاء علاجٌ مُسكن للألم النفسي .

سكتَ طويلاً ولكنّه لم ينم فأنا أسمعُ صوتَ أنفاسه الّتي تترافق ببكاء هادئ ، ثمّ حلّ الصّمت وكأنّنا في قبرٍ هادئ و لكنّ الميتَ الّذي يُجاورني يكبت شيئاً بشدّة ، كفارسٍ يُمسك رسنَ حصانٍ هائج ، قامَ منتفضاً مُسرعاً نحو أوراقه الّتي كان يجمعها بعد الكتابة ورماها في زاوية الغرفة ، عادَ ولمّ أوراق أخرى و كوّمها في الزاوية .

حمل زجاجة العرق ورشّها على أوراقه ثمّ أشعلها ، وركض إلى الشارع وهو يصرخ :

تعالوا تدفئّوا بقصائدي ...

تعديل المشاركة Reactions:
الشّاعر

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة