-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

حب يعانق السحاب

القاص : خليل عثمان 



انبهر جانو بذلك المشفى الخاص ، فأحبَّ أن يكون مقرّاً لعمله ، كان يرغب بممارسة مهنته وهو المتخرّح من كلية الطب حديثا ً، كانت أفكاره وآماله تذهب به بعيداً و هو يرسم لنفسه صورة عن أيامه المقبلة وقد لوّنها بالأماني والأحلام ، كان يسير شارداً سارحاً في ذلك العالم الجميل والذي شرع بوضع ملامحه برومانسية وعناية واضحة .
جانو شاب ريفي في مقتبل العمر لا تنقصه الوسامة والحيوية ، أنطلق إلى الحياة بعصاميّته واعتماده على نفسه في كل شيء بينما والداه في قريتهم النائية ما كان بإمكانهم أن يقدّموا له سوى أدعية صلواتهم وبعضاً من تكاليف الحياة . ولعلّ طموحه في إكمال دراساته العليا لم تنتهِ ، رغم عدم رغبته بمهنة الطب ، والتي فرضها عليه مجتمعه وربما والده ، في الوقت الذي كان يعشق الرسم وفنونه.. !
في ذلك الصباح كان يسير في أروقة المشفى يبحث عن مديرها عندما لمحت عيناه فتاة قادمة نحوه ، كانت تبدو كالملاك وهي بزيّها الأبيض وإطلالتها الأنيقة ، عندما دنت منه أكثر استقرّت نظراته على عينيها ، فأيقظت روحه بجمالها . تسمّر في مكانه ، لم يقوَ على الإتيان بأي حركة ، غير أنّ نبضات قلبه كانت برهانه الوحيد على أنه مازال حيّاً في هذه الدنيا...!
هي الأخرى رمقته بعينيها اللّتين سرعان ما اتّسعتا في لحظةٍ غير مألوفة حيث الدهشة سرقت منها الكلمة التي كانت بصدد نطقها من على شفتيها .
مرّت دقائق من زمن الصمت وكلٌّ منهما يترقّب ولادة كلمة البدء .
بات المكانُ محراباً لقصّة حبّ أينعت دون أن تستغرق الكثير من الوقت ، استمرّا على هذه الحال حتى قطعها أحدهم بصوته الأجش قائلا" : ماذا يجري هنا ... من أنت ايها الشاب ؟
كان والدها مدير المشفى رجل يبدو عليه الهيبة والوقار وقد لمح بعضاً ممّا جرى أمامه وهو يكاد لا يصدّق عينيه ، ابنته الطبيبة الشابّة ليست مراهقة كي تقع في حبّ شاب تراه لأوّل وهلة ...!
طلب منهما مرافقته إلى مكتبه ، فما كان من جانو إلا أن يهزّ برأسه ويستأنف السير خلفه بوجهٍ عابس ...
وبعد التعرف ، دار بينهم حوار قصير انتهى بإعطائه وعداً بتقديم يد المساعده له ما أمكن ، وكان الطبيب المخضرم متلهّفاً لمعرفة اللغز الذي حيّره وهو يحاول إخفاء استغرابه وصدمته ممّا جرى أمامه ، حتى تلك اللحظة كانت عينا الشاب لا تزالان تتبعان بتلك النظرة الغريبة فتاته والتي لم يفهم أحد معانيها ، وكأنّ العيون تستطيع أن تتفاهم قبل العقول .
كلّ ما يحيط بالطبيب المخضرم بدا غريباً ،
وما أثار قلقه أكثر هي حالة ابنته التي بدت متعلّقةً بالشابّ و كأن كلّاً منهم يسمع مناجاة الآخر دون وسيط ، فكان لابد له وهو المختص بخفايا النفس ومكنوناتها أن يتدخل ، سيّما وأنها ابنته الوحيدة .
وصل العاشق الجديد إلى منزله دون أن يدرك أيّ طريقٍ سلكه ،
أمضى ما بقي من ذلك اليوم المختلف بتوتّرٍ وارتباك .
أقبل عليه الليل ليبدأ معاناته مع الأرق ، فجميع محاولاته للخلود إلى النوم باءت بالفشل ، ما اضطرّه إلى تناول حبّة منوّم ثم أخرى ، ليجد نفسه فارساً من فرسان الملك ، يشارك في سباق معتادٍ للخيول ، يُقام في بداية كل ربيع في مملكة آسرة تقبع في عمق الزمن .
وها هو يتغلب على الجميع ويفوز بالسباق وبقلب سوزان ابنة الملك ، التي أرادت تقليده وسام الفوز بنفسها لتلتقيَ المشاعر قبل العيون ولتتصارع الأفئدة في النبض وكانت البداية ...!
تمضي الأيام ويكاد لا يراها وهي ابنة القصر وهو الجنديّ الذي لا يملك من زمانه ومكانه شيئاً ...!
في عصر أحد الأيام وعندما تأكد من ذهاب الملك وحاشيته إلى الصيد تسلّل إلى القصر التقى بها خلسة ، كانت ترتدي ما يشبه الحرير الابيض ، وتبدو كحورية قادمة من بلاد الجن ، كل شيء فيها غير عادي ، سارا بين الأشجار وهما يشعران بالنسيم يلامس وجههما ، كان يوماً مفعماً بأنفاس آذار وبدأت العاطفة التي تجمعهما تتمايل حولهما بتناغم غريب ...!
وكانت لحظات سعادة جمعت روحيهما ، جلسا تحت ظلّ ليلكةٍ صامتَين وكلٌّ منهما يشعر بنبضات قلب الآخر ، ثم تهامسا بكلمات مفعمة بنغمة الأماني ، وحلّقَ بهم الخيال إلى عالم جميل يشبه نسمات صباحٍ ربيعيّة ....
مضى الزمن مسرعاً وقبل أن تغادر الشمس سماءَها شاءت الأقدار أن يراهما أحد الحرّاس ، الذي أطلق صافرة الحرب وبدؤوا بمطاردته ، تمكّن من امتطاء فرسه خارج أسوار القصر وانطلق مسرعاً يريد إنقاذ روحه ، لكنهم يسيرون على أثره ، تمكن من الوصول إلى أطراف حدود المدينة والجنود يتبعونه إلى أن تمكنوا من إيقافه ومنازلته ، وكانوا كثيري العدد والعدّة حتّى تمكّنوا منه وأوقعوه جريحاً .
حدث ذلك في سفح جبل بدأ مخيفا" بلونه الأسود ، تركوه غارقا" في دمه ! استطاع الوصول إلى شجرة عملاقة في سفح ذلك الجبل زحفا"على صدره ، أسند ظهره إليها ، في تلك اللحظة وصلت إليه سوزان صرخت بأعلى صوتها ......... جااانووو....!
استيقظ جانو مرعوبا"وهو يتصبب العرق ،
تناول كأسا" من الماء ، تمتم ببعض الكلمات الغير المفهومة ، أشعل لفافة تبغ وخرج إلى شرفة المنزل وهو يكاد لايصدق ما جرى له ، لقد بدأ له ذلك الجبل وتلك الشجرة في حلمه وكأنه شاهدهما مرارا"، وحتى سوزان إنها نفسها ابنة الطبيب التي رآها في المشفى وتعلق بها لحد الهيام .
عاد إلى غرفته بعدما اقشعر بدنه ، كان الطقس باردا" ، والشفق أوشك على القدوم ، تذكر قراءته لملحمة (ممو زين) وكأن به يغوص في فصولها ويعيش أحداثها من جديد ...!
تبادر إلى ذهنه عشرات الأفكار بدت متشابكة ومعقدة ، تذكر لحظتها تناسخ الأرواح وغيرها من المواضيع التي لم يقتنع بها يوما" ...؟
أكمل ليلته جالسا" على سريره وهو ينتظر شروق الشمس ليذهب إلى المشفى وليلتقي بحبيبته سوزان ، و ربما لها اسم آخر ، وليحاول فهم ماجرى له ، وقد يتمكن من فك طلاسم رؤيته وأحداثها الأقرب إلى الخيال .
بدأ يغمره فرح ممزوج بخوف غريب ، كان يخشى أن يتلاشى حلمه كغيمة صيفية يتيمة تسبح في السماء ثم تختفي دون أن تترك أثرا" .
أما حبيبته فكانت هي الأيقونة الأجمل في كل ما جرى له من أحداث غريبة جعلته تائها" في عالم آخر عالم أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع ... !
كان يخشى في قرارة نفسه أن لا يبقى له من تلك الرؤية سوى ذكرى مؤلمة وغصة موجعة لن تبرح قلبه الحزين ، لذا بدا ضائعا" مرتعبا" وهو يسترجع حلمه الساحر والذي لن يتكرر ، بينما المدينة تستقبل بشائر فجر جديد ونور الصباح يطارد ظلام ليلة بدت أطول من دهر ...!
تعديل المشاركة Reactions:
حب يعانق السحاب

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة