بقلم الكاتب: سربند
حبيب
بعد
أن ضاق به الأفق في فضاء الشعر يتخذ الكاتب والشاعر هوشنك أوسي من فضاء الرواية مكاناً
لقلمه، فطرح تجربة روائية ثانية، ثرية بتنوعها الحكائية وفنياتها السردية والدرامية.
تحت
عنوان "حفلة أوهام مفتوحة" أصدر الكاتب روايته عن دار "سؤال"
في العاصمة اللبنانية بيروت، الكتاب من قطع الوسط يقع في 327 صفحة، يقول الكاتب
حول تجربته: في حفلة أوهام مفتوحة هناك تحد لـ "وطأة اليقين" من حيث
الحجم، والقصص. ذلك أن الرواية الثانية أصغر من الأولى، بحدود 60 صفحة، وأكثر غزارة في القصص وتقاطع الحيوات بين
البشر والأوطان والشعوب، أكثر من الرواية الأولى. يعني؛ قصص أكثر، وكلام أقل".
عنوان
الكتاب مستوحى من الواقع الذي يعيشه الأبرياء، حيث شبه الكاتب الحياة بحفلة وهم
مفتوحة على الدجل والخداع لذاك الإنسان الواهم بالحب والخير والسلام والأمان، وفي
الحقيقة هي مسرح للصراعات اللإنسانية، صراع الموت من أجل البقاء.
يهدي
الكاتب روايته إلى أحد ضحايا الحرب في سوريا الطفل الكردي "الآن عبد الله
شنو"، الذي مات غرقاً في بحر إيجه وكذلك إلى ضحايا الأوهام.. وضحايا الحقائق.
تدور
الأحداث العامة للرواية حول اختفاء كاتب وشاعر بلجيكي معروف يدعى "يان دو
سخيبّر –Jan de
Schipper " في ظروف غامضة. لم
يترك خلفه سوى رسالة واحدة، ذكر فيها بأنه سيقوم بإعدام كل ما كتبه من روايات
ودواوين شعر، وكل ما رسمه من لوحات، حرقاً في حديقة منزله الكائن بمدينة اوستند
البلجيكيّة، لكنه لم ينفّذ ذلك القرار، لسبب مجهول، ثم اختفى. ولم تعثر السلطات
البلجيكية على أي أثر له. ولأنه شخصية عامة، شغلت حادثة اختفائه الرأي العام والإعلام البلجيكي. وبعد فشل البحث والتحريّ عنه أصبحت
هذه القضية لغزاً وتحدياً كبيراً للمحقق "إيريك فان مارتن" فقرر قراءة أعماله المكتوبة روايتان مطبوعتان والثالث مخطوط غير
مطبوع، وعرض بعد قصائده على ناقد أدبي وكذلك بعض من لوحاته على ناقد تشكيلي بهدف تسخير
الأدب والفنّ في خدمة التحقيق الجنائي لعله يصل إلى
خيط أبيض، لكنه يفشل، في النهاية يقدّم استقالته من العمل. ويبقى التحقيق في هذه
القضية مفتوحاً ومستمرّاً.
استخدم
الكاتب تقنية حديثة في عمله، ثلاث روايات منفصلة الأفكار والمضمون والحكايا ضمن
رواية واحدة لدرجة يمكن قراءة كل رواية بشكل مستقل عن الآخر، الأولى بعنوان "أيها
الحمقى.. إلى أين أنتم ذاهبون"، والثانية "موتى
يعيشون أكثر منّا"، والثالثة "قطار أعمى
لا يخلف مواعيده"، لكن تتشابك
سيميائيات النص وتتضافر في تشكيل نسيج روائي متكامل منوع ومنسجم ومتفاعل فيما
بينها مشكلة بنية سردية ذات قيمة يتجلى من خلالها مواقف ورؤى الكاتب المبدعة.
بمقدمة
سوداوية تبدأ بـ (لا) النافية للحياة،
يبدأها الكاتب ويعكس مقولة باولو كويلو في روايته الخيميائي: (الحياة تجذب الحياة
) الموت يجذب الموت، الموت يجذب الحياة، والحياة تجذب الموت، الموت والحياة،
عاشقان لدودان. والانتماء، ذاكرة مفخخة، كثيراً ما تفضي إلى الموت، وقليلاً ما تفضي
إلى الحياة التي باتت حفلة انتقام مفتوحة، وحفلة ندم مفتوحة، لا خيار أمامنا سوى
الدخول إليهما.
في
هذا العمل نجد الكاتب يتجاوز الرواية التقليدية المنولوجية باستخدامه تقنية تعدد الأصوات
والأشخاص والزمكانية أي (الرواية البوليفونية) أفقها واسعة ومفتوحة على رؤى وأفكار
ووجهات نظر عديدة.
روايةٌ
تندرج ضمن منهج واقعي موثقة بأحداث حقيقية تعالج فكرة الهوية والانتماء والبحث عن
الذات بقالب درامي مشوق لا تخلو من المتعة ولذة القراءة فيها الكثير من الحب،
الخيانات، الأمل، الانكسارات، الغربة والاغتراب، والخيبات...
لغة الرواية
بسيطة وجميلة لا تخلو من الصور والتشابيه، محبوكة بحرفية ووعي كبيرين، فعندما يصف
لنا مزاج الطقس في الصفحة (12): "نهارٌ غائمٌ، باعث على السأم والكآبة، بسماء
محتقنةٍ مريضةٍ، موشكة على الانهدام والسقوط على رؤؤس السائرين تحتها، كمن يكابد
شيئاً ولا يفصح عنه، فيفشل في مواراته أيضاً. سماءٌ تريد أن تبكي كامرأة حُبلى
تشعر بالغثيان الشديد ولكنها عاجزة عن التقيؤ وتفريغ ما في جوفها كي ترتاح".
يبرز
شاعرية الكاتب في كثير من المواقف وخاصة في شخصية الشاعر "أوميد سرختي"
الذي صاغ حالات الندم والانكسار بطرق مبهمة – (ص 153): "ما من شاعر من دون
ندم، وما من ندم بدون شاعر. الشعر في أحد أوجهه ندم، والندم في أحد تعبيراته شعر.
الندم ثلاث، بصيرة آثرت الصمت، في وقت استوجب النطق، بصيرة آثرت النطق، وفي وقت
استوجب الصمت. وبصيرة عاجزة عن الاثنين معاً. وأحياناً الشعر هو أحد ألسنة حالة
الندم".
الزمكانية:
تنامي بؤر السرد في الرواية تؤدي إلى تعدد فضاء
الحركات الزمكانية، فمساحة الأمكنة والحيوات في الرواية واسعة ومتداخلة ومتشعّبة.
إذ تجري أحداثها في بلجيكا، كوريا، تركيا، سوريا، كردستان، كولومبيا، لبنان،
ألمانيا، فلسطين وباكستان.
ويتصف
الزمن هنا بتشعب وتداخل كبيرين نتيجة المراوحة بين الحاضر والماضي والمستقبل، وبين
الوعي واللاوعي والحقيقة والخيال فهناك تحيالٌ، على الزمن المطلق الذي يتسم
بالاتساع واللامحدود.
رواية
توثيقية حيث وثق لنا الكاتب الكثير من الأحداث وخاصة الحرب، بدءاً من الحرب
الكورية 1950م والصراع الكردي – التركي وانتهاءً بالحرب السورية، فيصف لنا قذارة الحروب
(ص 27): "الحرب عمياء مهما حاولت الإيديولوجيات تجميل قباحتها وقذارتها.
الحرب عمياء وكل المشتركين فيها عميان. في الحروب الزمن زمنان. زمن مخاطي يمضي
بلزوجةٍ وبطءٍ شديدين. وزمن متوحش ومتفجر".
وعن
الصراع الكردي – التركي في (ص 155) يقول: "الصراع الكردي – التركي. كيف أن
هذه الحرب حولت الناس إلى وحوش، إما تحت الشعار التركي: ( حماية الوطن ووحدته من
الإرهابيين والانفصاليين) أو تحت الشعار الكردي: (تحرير الوطن، كردستان من الأعداء
والمحتلين، وبناء الاشتراكية والعدالة الاجتماعية في كردستان".
يؤكد
الكاتب على مقولة الثائر الفرنسي الشهير جورج جاك دانتون عندما قال وهو أمام مقصلة
الإعدام "إن الثورة تأكل أبنائها"، وهنا يسلط الضوء بشكل كبير على نضال
حزب العمال في الجبال فهو يعتبره مسلخاً إيديولوجياً، والمناضل الحقيقي فيه الذي
يعبد الحزب والقائد ويكشف كثير من خفاياهم ومظالمهم، ( ص 196): "اكتشفت أنه
إذا حملت معولا وهويت به على أرض معسكر الحزب، ستخرج لي عظام شخص تم قتله أو
تصفيته على أنه خائن أو عميل للنظام التركي أو مرتد عن الحزب والثورة".
الحب
يفرض نفسه وبقوة في الرواية، فهو بصيص الأمل بالحياة وسط الحرب وطغيان الموت، فظهور
مارغريت أثناء الحرب غير حياة آلفونس كثيراً (ص 28): "مشاعر الحب التي يكنها
آلفونس لها، كانت بالنسبة إليه، مشاعر مواطن فقير وحقير تجاه أميرة أو ملكة أو حتى
إمبراطورة. أن الحب يمكن التعبير عن نفسه مهما تعمقت واتسعت مستنقعات الكراهية".
وكذلك
التعريف والتوصيف الأوميدي المختلف للحب من خلال حواره مع يان (ص 182): "الحب
ليس صفقة حتى يكون فيها مجال للتفاوض والمساومة على نمط تفكيرك وحياتك".
"الحياة تصبح أجمل وأكثر روعة مع وجود الحبيب كما هو، لا كما أريد له أن
يكون، وليس كما يريد لي أن أكون. أن نحب بعضنا مع احترام مساحة الاختلاف. والحياة كفيلة بتقليص هذه المساحة.
إن زادت مساحة الاختلاف، نصبح خارج دائرة الحب. وإن تقلصت مساحة الاختلاف، وازدادت
مساحة التطابق، أيضاً نخرج تباعاً من دائرة الحب".
أحداث الروايات الثلاثة:
في الرواية
الأولى، يسرد لنا الكاتب سيرة والد بطل الرواية الرقيب "آلفونس دو سخيبر"،
الذي شارك في الحرب الكورية مع الكتيبة البلجيكية، لإنقاذ البشرية وتحقيق السلام
والخير في أوروبا والعالم، لكنه لم يكن يدري بأنه سيكون أحد ضحايا الحرب، إلا بعد
أن أيقظ ذاك العجوز في المحطة قبل انطلاقهم شعوره البريء بجملته "إيها الحمقى..
إلى أين أنتم ذاهبون"، صدى هذا النداء الساحر شكل في
خاطر آلفونس الكثير من الأسئلة والأفكار، الهواجس، والخلاصات، في منولوج داخلي
عاصف، شديد التعقيد. هذه المقولة قلبته رأس على العقب انعدمت رغبته في الحياة أصابه
الحزن والاكتئاب، لدرجة الانتحار والموت. لكن عندما يصل ساحة المعركة ينسى ذاته
ويتعافى قليلاً من ذاك الشعور وخاصة بعد ظهور المراسلة الأمريكية "مارغريت
هيغينز"، كخيط عنكبوت واهن يربطه بالحياة في تلك الجغرافية العمياء التي
تنهشها الحرب فغيرت حياته من عالم الحرب والفوضى الداخلية إلى عالم الحب، حبّ من
طرف واحد.
وبعد
تطور مجريات الحرب يصاب آلفونس بفقدان ذاكرة كلية، فتنقذه أرملة كورية تدعى
"يون" في عقدها الثالث ترعاه وتعتني به وتطلق عليه اسم "دان بياو
جونغ"، تعلمه الكورية وفن ممارسة الحب والجنس وسط ضجيج وركام الحرب، لكن
علاقتهما تنتهي بموت يون وإصابة دان برصاصة طائشة لجندي أميركي مجنون، متحدياً
جبروت الله ولعنة القدر، في المشفى يشك الأطباء بهوية دان وبعد إجراء التحقيقات
يصلون إلى هويته حيث الشبه الكبير بينه وبين جندي تركي مفقود اسمه لاوند أوصمان
أوغلو كردياً من مدينة ديار بكر، فيرسلونه
إلى أهله في تركيا، لكن يكتشف والدي لاوند بأنه ليس ابنهما يقتنعا بأن الله بعث
لهما هدية من السماء ويجب أن لا يرفضها، تأقلم آلفونس معهم وعاش حياة سعيدة بينهم
كأهله تعلّم الكردية وقراءة القرآن دون فهمها، ثم تزوج لاوند من ابنة خالها
"غزالة". بعد وفاة والده وعندما عرِف أخوته بأنه ليس أخوهم الحقيقي
ضايقوه فيقرر الهجرة إلى بلجيكيا كمواطن تركي لغرض العمل في إحدى مناجم الفحم في
مدينة...، وبعد فترة من الزمن يصاب لاوند نتيجة انفجار ضخم في المنجم فينقل إلى
المشفى هناك يتعرّف عليه ممرض اسمه "سيمون" كان رفيقه في الحرب، يحاول
"سيمون" بشق الأنفس أن يثبت للاوند بأنه الرقيب آلفونس لكنه لا يتذكر
شيئاً، فيسرد عليه مشاهد من الذاكرة من خلال صورة جماعية لهم..عزف هيرمونيكا..
حبيبته مارغريت، تتشتت ذاكرته في حالة اغتراب نفسي وعقلي ويدخل محنة أخرى في مواجهة
واقع جديد بأنه بلجيكي، مع انعدام شعوره بالانتماء لأصله وبلده، يلتقي آلفونس
أخيراً بعائلته الأم وشقيقتان، لكن الاستقبال كان بارداً مقارنة مع استقباله في
تركيا، عانق آلفونس أمه دون الشعور بمشاعر البنوّة وتمنى في سره أن تكون هذه محطة
الأخيرة في حياته، استقرت حياة آلفونس نوعاً ما وتطورت علاقته بشكل كبير مع
الأكراد والأتراك، ووجد نفسه منتمياً للشرق أكثر من الغرب، بعد فترة من الزمن تموت
أمه الكردية "زليخة"، وبعدها تموت أمه الحقيقية، لكن حزنه على
"زليخة" كان أكبر من حزنه على أمه الحقيقية، وأخيراً يدخل آلفونس صراع
داخلي مع نفسه يتمنى الموت ويعاتب قدره الأسود فيتشاجر مع ضريحه المفروض، ويطلب من
ذاك الميت أن يخلصه من هذا العذاب، يهجم على الضريح، يضربه فيفقد توازنه، يقع
ويرتطم رأسه بحافة القبر، فيحدث نزيفاً ومع خروج الدم من رأسه، يرتاح كثيراً
ويستعيد ذاكرته، يتذكر جميع الأحداث التي مرت به كشريط سينمائي أمام عينيه، وهكذا
يدرك ويتأكد بأنه "آلفونس دو سخيّبر" في اللحظة الأخيرة ويموت، وكانت
وصيته أن يدفن في القبر نفسه الذي دفن فيه والده وذاك الجندي المجهول على أنه هو. فأصبح
الضريح لشخصين لهما نفس الاسم ولكن بتاريخي وفاة مختلفين.
وفي
النهاية يحاول "يان دو سخيبر" الوصول إلى هوية ذاك الجندي المجهول الذي دفن
في قبر والده قد يكون خاله "لاوند أوصمان أوغلو" من خلال فحص البصمة
الوراثية (DNA)،
ولكن جهوده تضييع بنتيجة مخيبة، وتبقى هوية ذاك الجندي مجهولة.
الرواية
الثانية (موتى يعيشون أكثر منّا)، يتحدث الكاتب عن رواية صدرها يان عام 2013م عن
شاعر كردي من تركيا، وفيها جانب من سيرته، بعد أن تشرّب فيه المشاعر الكردية بحكم
صلة الدم الذي تربطه بالأكراد أمه الديار بكرية، دفعته للتعاطف مع قضيتهم في تركيا
فكان دائماً يتردد إلى معسكراتهم في لبنان،حيث أعجب بنضال حزبهم وخاصة زعيمهم الذي
لمس فيه الزهد والتقشف الثوري وفي المقاتلين نكران الذات والتضحية، لكنه ما لبث أن
غيّر مسار روايته من كتابة قضية إلى صراع ضحايا الحرب الكردية – التركية بعد
اكتشافه هول الخديعة والجانب الخفيّ والمظلم للحزب والاستبداد والقمع ودمويته،
فأراد اللقاء ببعض الأشخاص الفارين والمنشقين الذين كتب لهم القدر حياة جديدة،
فكان الشاعر "أوميد سرخَتَي" الذي تخلى عن مستقبله للنضال من أجل حقوق
شعبه، الضحية الذي هرب من جحيم الحزب تاركاً أحلامه الثورية تحترق في مهب الريح،
وكذلك "لاورا" طليقته الكولومبية التي عشقته من خلال قراءة وترجمة
قصائده وأنجبت منه طفلاً ولكنها أيضاً باتت الضحية، ويلتقي "يان" صدفة بضحية
أخرى فتاة في عقدها الرابع، هربت من جحيم عائلتها لتلتحق بصفوف الحزب في الجبال
لعلها تنعم بالاستقلال والتحرر لطالما سمع عنها كثيراً، لكنها تصطدم بزيف الحزب
وشعاراته البراقة وتكتشف حقيقته من مؤامرات ودسائس واتهامات وعمليات القتل
والتصفية، فتهرب من ذاك المستنقع إلى اسطنبول لتتحول من امرأة مناضلة ومحافظة إلى
عاهرة لتسد رمق عيشها. وهناك الكثير من ضحايا ماتوا باسم الحزب والقائد والقضية
والثورة والوطن. بعد انتهاء المحقق من قراءة هذه الرواية يكتشف مدى تعاطف "يان"
مع الثورة السورية.
الرواية
الثالثة (قطار أعمى لا
يُخِلف مواعيده) يتحدث الكاتب فيها عن ذاك المخطوط غير المطبوع، فبطله الألماني
"يورغن" هاوس اللغات، إذ يجيد اللاتينية، الانكليزية، الفرنسية، الايطالية،
العربية، الكردية، العبرية والتركية بالإضافة إلى لغته الأم، وبحكم عمله في مركز
للسلام والدراسات السياسية (WBZ) تعاطف مع ثورات الربيع العربي ولكنه تراجع
حماسه مع تصاعد وتيرة الجماعات الراديكالية التكفيرية مصاباً بخيبة أمل. وكان من
أهم عاداته السرية الخاصة الإنصات لأحاديث الناس وخاصة على متن القطار دون التدخل
في مسار الأقدار، حيث يخلع مبادئه على رصيف المحطة قبل ركوبه، فالقطار بالنسبة له
خشبة مسرح تتداخل عليه آلاف المسرحيات غير المكتملة. وعند ترشحه للمشاركة في مؤتمر
مباحثات (جنيف) للسلام في سوريا،اختار السفر بالقطار ليمارس متعته الخاصة بالإنصات
في رحلته الطويلة هذه من (فرانكفورت إلى جنيف). فاستمع خلال سفره إلى كثير من
القصص والمصادفات منها: الحديث عن صراع السلطة بين الأطراف السياسية الألمانية وكذلك الخوف والقلق العربي اليهودي
المتوارث للطرفين وكذلك الحديث عن الجهاديين في سوريا والعراق، وعلى لسان مترجمة
ألمانية استمع يورغن إلى رواية الكاتبة الباكستانية عن
تحطم طائرة حبيبها الطيار الفلسطيني اثر عاصفة رملية في صحراء ليبيا. نقاش آخر
لعلاقة غير شرعية بين شخصين متزوجين أرادا كسر الروتين وملل الحياة الزوجية. قصة
أخرى لذاك الأرمني ومعاناته مع الإقامة والجنسية البلجيكية فلم يحصل عليها بعد
بالرغم من إقامته الطويلة فيها. وفتاة ساحرة الجمال تقرأ النوتة الموسيقية بدل من
الكتب والمجلات والصحف، وأخيراً شعر يورغن بالملل والضجر من استماعه إلى هذه
الحكايات والقصص خلال رحلته، وانتابته موجة خانقة وقابضة على روحه من الاكتئاب
واللا جدوى من كل شيء.
هكذا
نرى عالماً ثرياً بالحكايا والقصص والشخصيات، وبمواقفها من الحياة والموت بتلك
الأوصاف المعبرة والموحية وبتلك الجرأة في معالجة قضايا وموضوعات تعتبر من
الممنوعات والمسكوت عنها.