recent
جديدنا

«ترانيم التخوم»: رواية الذات المحاصرة بين المُحاكاة والعدم

الصفحة الرئيسية


إدريس سالم

 

تنطلق رواية «ترانيم التخوم» من تصوّر ميتافيزيقي، يبدأ من أقصى درجات الوعي «بين عالم محاكاة افتراضية قسرية، وعالم واقعي بارد قاسٍ يفتقد العلاقات الإنسانية الدافئة»[1]، حيث يقدّم البطل «الراوي» نفسه كوعي كوني في عالم افتراضي، بلا مادّة أو روح، بلا حدود للزمان أو المكان، وكأنه يعيدنا إلى فلسفة الوعي المحض عند ديكارت، لكن الكاتب يدمجها هنا بأسلوب ما بعد الحداثي، يعكس حالة التيه واللايقين، وهو يسألنا: «هل أنا حكاية؟ وهل هناك مَن يحلم بي في عالم محاكاة بعيد؟»، ليتداخل خطابه مع مفاهيم مثل: الذات كمحاكاة، الواقع كصورة، الزمن النفسي مقابل الزمن الواقعي، وتفتّت الهوية في سلطة المنفى.

إن رواية «ترانيم التخوم»، الصادرة في العاصمة الفرنسية باريس، عن دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، عام 2025م (300 صفحة)، مليئة بالإحالات إلى الواقع المعاش لمهجّر حرب في أوروبا، عبر مفردات حياة يومية، كاشفاً نصّه عن اللاجدوى الوجودية والفصام بين الداخل السوري وخارجه، لينقسم نصّ الرواية من الناحية البنيوية إلى ثلاثة أقسام:


 

«أنا وعي كوني، أو ربّما محاكاة له... ذاتٌ مدركة من نزوة الاحتمالات. أعيش في عالم افتراضي، بل ربّما في حكاية، أو بالأحرى في حكاية محاكاة افتراضية. أنا وعيٌ، لا مادّي لا روحي، لا مكاني لا زماني؛ طاقة كثيفة، من دون تمركز أو تخوم، بقدرات لا محدودة، لكن لديّ مشاعر كونية، تعبيراً عن وجودي. لا يمكن لاستيهامات الكلمات، أو الصور، أو الأصوات، أو الإشارات، أو الرموز، أو التصوّرات الذهنية، أن تحيط بي، أو حتى تستشفّ شيئاً من كينونتي. أنتمي إلى كائنات ما بعد الأحلام، ما بعد الرؤى، خارج التوقّعات والإيحاءات، والتخيّلات والهلوسات». مازن عرفة

 

القسم الأول: «حياة رتيبة مملّة»:

يشكّل حجر الأساس في فهم عالم البطل الداخلي، يصوّر فيه الروائي السوري، مازن عرفة، الواقع العبثي اليومي، الذي يعيشه بتفاصيله الكبيرة والصغيرة، ولحظاته المفصلية في صياغة تمثيل وجودي حقيقي عميق، لحالة الذات المهاجرة في المنفى الأوروبي، بوصفها ذاتاً معلّقة متأرجحة، لا مركز لها، ولا جذور، ودون أيّ انتماء نهائي لأيّ مكان يؤسّس له هويته الواقعية، قد يرى القارئ أو النابش عن ذاته في هذا القسم سرداً عادياً عن تفاصيل يومية، والحقيقة أنه مشهد متكامل لفلسفة الانكسار الهادئ والدافئ؛ إذ تذوب الحدود بين الواقع والافتراض، بين السكون والاشتعال الداخلي، بين أحلام اليقظة وكوابيس الحلم.

يبدأ الكاتب روايته، مازجاً بين مفاهيم: الوعي، الوجود، المحاكاة، والتجاوز الكوني، هو أقرب إلى تأمّلات كائن يرفض ويتعالى على المفاهيم التقليدية للمادّة والروح، للزمن والمكان، بل وحتى للغة نفسها، إذ يقول في الصفحة (15): «أنا وعي كوني، أو ربّما محاكاة له... ذاتٌ مدركة من نزوة الاحتمالات. أعيش في عالم افتراضي، بل ربّما في حكاية، أو بالأحرى في حكاية محاكاة افتراضية. أنا وعيٌ، لا مادّي لا روحي، لا مكاني لا زماني؛ طاقة كثيفة، من دون تمركز أو تخوم، بقدرات لا محدودة، لكن لديّ مشاعر كونية، تعبيراً عن وجودي. لا يمكن لاستيهامات الكلمات، أو الصور، أو الأصوات، أو الإشارات، أو الرموز، أو التصوّرات الذهنية، أن تحيط بي، أو حتى تستشفّ شيئاً من كينونتي. أنتمي إلى كائنات ما بعد الأحلام، ما بعد الرؤى، خارج التوقّعات والإيحاءات، والتخيّلات والهلوسات».

يتشكّل النصّ من لحظة وعي متصدّعة، بل وحتى ما قبل التشكّل، في الفقرة الأولى «محاكاة رقم 1»، حيث نغوص في تأمّل شعري ميتافيزيقي عن الذات، بوصفها وعياً كونياً غير مجسّد، طاقة بلا زمان أو حتى مكان، فيتجاوز هذا العمل الأدبي، حدود السرد التقليدي، ويتّخذ من الواقع اليومي المعاش واجهة يُخفي خلفها أسئلة وجودية وفلسفية تأمّلية وعميقة. هذا الوعي اللامتناهي هو تمهيد لشخصية الراوي/ الروائي، الذي انحشر في قالب جسد صار عبئاً لا يُحتمل، فنجده بعد ذلك مستلقياً في سريره، وهو غير مدرك إن كان سريره الضيّق حلماً آخر أم سجناً من نوع راقٍ، فهو غير قادر على النهوض، غارق في دوّامات من العدم الحسّي والبلادة الروحية، وكأن حياته ليست سوى صدى لتلك المحاكاة الأولى، لكنه هنا كائن له جسد منهك، محمّل بذكريات غير عائدة وخسارات كبيرة، بأملٍ لا يعرف ما ينتظر، وبانتظارٍ لا يعرف ما يأمل.

 

«الخيار السردي البطيء لدى مازن عرفة ليس نقصاً في الحبكة، أو ميلاً فنّياً خاصّاً، بل موقفاً فلسفياً وجودياً، يتقصّد من ورائه إظهار هشاشة الوجود». إدريس سالم

 

صدى المحاكاة الأولى، لا يزال يتردّد داخله، لكنه صدى ضعيف، مشوّه، كأنه قادم من بُعد آخر، لا يملك فيه السيطرة. جسده ينهار ببطء، وعقله يتآكل من فرط التحليل. هذا القسم محمّل بدلالات رمزية كثيفة: فالوسادة غير المريحة تصبح علامة مادّية على انعدام الراحة الوجودية. صور الذكريات على الجدران لا تحفّز الحنين، بل تزيد من الشعور بالفراغ؛ وكأن الذاكرة فقدت حتى قدرتها على المواساة. الرسائل الإلكترونية من دُور النشر تعيد إنتاج مشهد الرفض، رفض النصّ، وضمناً رفض الوجود ذاته، أيّ أنه يعكس أزمة المثقّف المهاجر بين الاعتراف والاغتراب، فيتحوّل الإبداع إلى محاولة صعبة، لإثبات حضوره أمام عالم أعمى وأبكم، حتى محاولات البطل في إرسال روايته إلى ناشرين ألمان، عبر صديق كوردي، تتحوّل إلى مأساة وخيبة أمل.

يمرّ البطل على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل عابر في مقبرة افتراضية؛ يراسل، يلتقط الصور، يبني الإيماءات، لكنه لا يتلقّى سوى الصمت أو ردود باردة، وحين يأتيه اتّصال من أحد أبنائه، يكون اتّصالاً جافّاً، لا يحمل دفئاً ولا حنيناً، بل استعراضاً لما تمّ تسوّقه وشراؤه. فيصبح البُعد بين الأجيال القديمة والجديدة ليس مسافة جغرافية فحسب، بل انقطاعاً عاطفياً وجمالياً كاملاً؛ فالأب الذي يكتب الروايات ويقرأ أمّهات الكتب الفلسفية والفكرية لا يُرى ولا يُسمع، وكأنه كائن من خيال أو سراب، بينما تربية الكلاب والانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والكثيرة تحتّلان واجهة الحياة.

كنت أتساءل، وأنا أنهي قراءة هذا القسم: لماذا استثمر الكاتب أسلوباً سردياً بطيئاً، وكأنه يتعمّد في ذلك بتخطيط متقن، أسلوب أشبه بالكاميرا الثابتة على صورة تتقشّر صمتاً؛ اللغة تميل إلى الحياد البارد، لا تشويق ولا إثارة، لكنها تتقطّع أحياناً بعبارات عميقة، وأفكار أعمق، تمزّق هدوءاً لتكشف ألماً دفيناً. العالم من حوله يتحرّك، لكنه يبدو دائماً بعيداً، كما لو أن المدينة ذاتها تعيش في بُعد زمني آخر. حتى طَرْقات الأبواب، والغرباء الذين يظهرون فجأة، لا ينتمون لعالمه، بل يهدّدونه باستمرار. لا شيء مضمون، حتى الخصوصية مهدّدة، وحتى العروض الإعلانية في صندوق البريد لا تصله كفرد مستهدف، بل كرقم مجهول في قاعدة بيانات لا تبالي بحاجاته؟!

يبدو أن هذا الخيار السردي البطيء هنا ليس نقصاً في الحبكة، أو ميلاً فنّياً خاصّاً، بل موقفاً فلسفياً وجودياً، يتقصّد من ورائه إظهار هشاشة الوجود وانعزال الذات، في زمن تختلط فيه الحقيقة والمحاكاة، الإنسان والرقم، المدينة والعبث. يفرض على القارئ أن يعيش قلق الشخصية، لا أن يشاهده من الخارج. يجعلنا نختبر الزمن كعبء، والعزلة كواقع لا كموضوع. في صمتها تقول اللغة الكثير، وفي حيادها، تكشف وجعاً لا يُحتمل، لنفهم أنه لا يعوّل على الحبكة، ولا على تطوّر الحدث، بل يوسّع التجربة الوجدانية والوجودية للشخصية، ويفكّك معنى الذات وهويتها، وصلتها بالزمن والمكان والإنسان. وهذا النوع من السرد لا يبحث عن الإثارة والتشويق، بل عن الحقيقة، حقيقة أن الإنسان، في هذا العصر، يمكن أن يكون حاضراً بلا أثر، وموجوداً بلا صوت.

إن العالم من حول شخصية البطل يظهر في حركة تفكيرية دائمة، لكنها لا تتّصل بها، وكأن المدينة كيان منفصل، يعيش في بُعد زمني آخر. وما الغرباء إلا الذين يظهرون فجأة، ليسوا كشخوص، بل تجلّيات لتهديد الخصوصية والوجود الفردي، أما العروض التجارية التي تصل إلى بريده لا تُخاطب شخصاً، بل تخاطب رقماً في قاعدة بيانات، لا يمتلك خصوصية ولا ملامح إنسان، لذلك فإن السرد البطيء هنا ليس نقطة ضعف، بل هو عبارة عن عدسة دقيقة تكشف تشوّه العالم من حول الذات، وتفضح الانهيار الداخلي البطيء، لكلّ ما كنّا نظنّه متيناً، من المعنى، الهوية، وحقّ الوجود.

يتّضح في هذا القسم، أن كلّ ما يعيشه البطل، ليس مجرّد حياة راكدة فقط، بل حياة مفرغة من التفاعل، تشبه جداراً صامتاً يمتصّ كلّ شيء، ولا يعكس شيئاً، حيث تتحوّل الرتابة إلى تجلٍّ للانكسار الداخلي وغياب الصوت والتأثير والمعنى. وبين الوهم والواقع، يزرع الكاتب تساؤلاً وجودياً مقلقاً: هل ما نحياه هو حقّاً ما اخترناه، أم أننا مجرّد شخوص في رواية نسجها خيال آخر؟ وهل نحن نعيش في ذاكرتنا القديمة، أم نحلم بأننا نعيش في ذاكرة جديدة؟

 


القسم الثاني: «رسائل»:

وفيه يكشف الكاتب عن التعدّدية الصوتية، وتنازع الذوات والأفكار والذهنيات، داخل النسيج السردي. يتبدّل إيقاع النصّ فجأة من السرد الداخلي المتأمّل والمكثّف إلى شكل من أشكال المراسلات المتعدّدة المعاني، والاعترافات المتشابكة صوتاً وهوية، تنتقل فيه الذات الساردة من عزلتها الفردية المنعزلة في القسم الأول، إلى مواجهات مؤلمة ومباشرة مع ذوات أخرى، هذه الذوات، وإن اختلفت في مدى القرب الجسدي أو العاطفي، فإنها تشترك في الهشاشة والخيبة والانكسار، وفي تصدّعات الذاكرة واصطدامها بالحاضر البارد، لتغدو كلّ مراسلة بمثابة مرايا متكسّرة، تعكس التمزّق الوجودي للبطل من زوايا متباينة، كاشفة بذلك عن عمق أزمته الوجودية، ومحدودية صوته أمام ضجيج العالم، وتعدّد سردياته، وآلام هلوساته وكوابيسه.

 

«في الرواية يُخضَع الألم لمعايير الاستيعاب الأوروبي، كالإنسانية المجرّدة، التسامح، والتضامن». إدريس سالم

 

تتجلّى كلّ رسالة في هذا القسم، كصوت صادح من برزخ وجودي، لا يصل إلى المتلقّي بشكل مكتمل، ولا يُفهم على نحو مقصود، بل يظلّ معلّقاً بين الإدراك والتيه، فكلّ ضحية داخل الجغرافية السورية أو في منافيها، سيجد ذاته بشكل أو بآخر، في صدى هذه الرسائل.

تبدأ السلسلة برسالة من مارك، الصديق الألماني، وزوج ألفريدا، لكنها رسالة مشبّعة بالخطاب الليبرالي والتنظير الأخلاقي والتجريد الإنساني، تُخضِع الألم لمعايير الاستيعاب الأوروبي، كالإنسانية المجرّدة، التسامح، والتضامن؛ لكنها تُفرِغ التجربة من خصوصيتها الجسدية والعاطفية؛ لأن مارك لا يخاطب صديقه المهجّر، بوصفه إنساناً يحمل جراحات وآلام لا تُحتوى، بل يخاطب فكرة اللاجئ المهجّر، كما يُبنى في المخيّلة الأوروبية. إنها رسالة لا تُعانق ولا تواسي، بل تُراقب؛ لا تُداوي، بل تُؤطِّر الألم، ضمن رؤية خارجية لا تُلامس جوهره.

بهذا المعنى، تمثّل هذه الرسالة وجهاً من وجوه الاستلاب الثقافي، حيث تتحوّل التجربة السورية إلى مادّة قابلة للاستهلاك الأخلاقي، داخل سرديات ما بعد الحداثة الأوروبية، لا بصفتها نكبة فريدة، بل كملفّ إنساني آخر يُضاف إلى أرشيف الكوارث.

الرسالة الثانية كانت من يوهان، الرجل العجوز والمهتمّ بالفكر الإسلامي، بوصفه تمثيلاً آخر لنموذج المثقّف الأوروبي المخضرم والمتضامن، لكنه مستقرّ في مقولات الندم الجمعي ومثقل بإرث الذنب التاريخي، الذي تحمله الذاكرة الألمانية الجمعية، عاطفته النبيلة الصادقة لا تُخفى، غير أن نبرة صوته لا تخلو من تفوّق ثقافي وامتنان ذاتي، تتسلّل عبر مجازات الانتماء الأخلاقي والإنساني إلى الجيل القديم من الألمان الطيّبين. يحاول أن يقيم جسراً مع البطل، مستخدماً لغة نقدية مدروسة بإنسانية إنسيابية، لكنه جسر ورغم متانته الشكلية إلا أنه هشّ في مضمونه، مشبع بتوتّرات دفينة تقطعه بين موقع المُخاطِب والمُخاطَب، بين المثقّف الأوروبي الذي يرى في ذاته مرآة أخلاقية، وبين العربي الذي يرزح تحت عبء التجربة الشرقية المباشرة، وهنا، تنكشف حدود التواصل الفعلي؛ لأن المثقّف المتفهّم، النقدي، والمتضامن، يبقى محكوماً بحدود سرديته، مرجعياته الحضارية، ورغبته في احتواء الآخر، دون أن يشاركه الأرضية بالكامل.

لا يتوجّه يوهان برسالته إلى صديق فحسب، بل إلى كيان حسّاس، صوت منفي مقلق، كاتب إشكالي غريب غير مستقرّ في خانة الانتماء للمكان والزمان، يثير فيه الإعجاب والريبة معاً. من اللحظة الأولى، تستشعر القارئ أن الرسالة مشبّعة بنبرة أخلاقية متعالية، تشبه نبرة الخطاب الألماني ما بعد الحرب: الاعتراف، الذنب، إعادة التأهيل. لكن هذه اللغة، رغم نبلها الظاهري، إلا أنها تُخفي خلفها مسافة لا تُردم، وموقفاً فيه بعض الوصاية، وإن لم تكن متعمّدة، فهو يوصّي بأهمية التعدّد الثقافي، وضرورة أن يكتب اللاجئون المهجّرون ويُسمع صوتهم وحكايتهم بلغاتهم وتجاربهم، لكنه في الوقت ذاته، يتوقّف عند المزاج السوداوي في نصوص البطل، ويقترح أن يُدخل إليها شيئاً من الروحانية أو الأمل. هذه الملاحظة البسيطة، تكشف عن جوهر التوتّر: فالبطل يكتب من ألمه، من تصدّعه المجنون، من هشاشته؛ لكن القارئ الأوروبي يريد نصّاً قابلاً للقراءة والتقبّل والفهم، دون أيّ صدمات، ارتباكات ولا تعقيدات.

يوهان، في رسالته عن الكون والوجود والألوهية، تأجيج عواطف الشرقيين وحميميتهم، الأساطير التوراتية وسلام الجنّة المثالية، والاستمناء الإلهي الأسطوري، يُشبه كمَن يمدّ يده إلى الغريق، لكنه في ذات الوقت يطلب من الغريق أن يبتسم قليلاً وهو يُنقَذ، يريد الثقافة العربية أن تكون مرآة للثقافة والمعرفة، لا مرآة للخراب والدمار. فيما البطل، الذي لم يكن يردّ على رسالته، لكنه يشعر في خلفيتها بوقع الخيبة والانكسار، فهو لم يطلب منه تقييماً أدبياً، ولا إرشاداً حول نبرة الكتابة، يطلب فقط أن يجد إنساناً يقرأه ويتقبّله كما هو. لكن يوهان الناقد، لا يستطيع إلا أن يبحث عن التوازن، عن الرسالة، عن التأثير، وكأن الأدب رسالة سياسية أو علاج نفسي.

إن هذه الرسالة إشكالية بصياغتها ومضمونها وصعبة التفكّك والتوازن، رغم لهجتها الودودة والمحبّبة، تكشف عن الهوّة العميقة بين الرؤية الوجودية لمَن عاش المنفى والتهجير بشكل عنيف، وبين مَن ينظر إليه من زاوية النقد والحوار الثقافي الإنساني؛ فالبطل ليس مشروعاً أدبياً، بل إنساناً يحاول النجاة، ويوهان، رغم صدقه ومحبّته، لا يرى سوى نصّاً مكتوباً، لتشكّل رسالته لحظة تماسٍ رمادي بين المثقّف الغربي والمثقّف المنفي، هي لحظة من الاقتراب المستحيل والجدلي، حيث يبدو الحوار قائماً، لكنه محفوف بصمت عميق، لا يخترقه الحبر ولا النوايا الطيّبة.

ومن جهة أخرى، وعلى عكس مارك بصوته الليبرالي المعاصر، ويوهان بخطابه الألماني العميق والملتزم، اللذان يقدّمان نفسيهما من موقع المثقّف الخارجي أو المتضامن الشكلي، تأتي رسالة جيزييل محمّلة بثقل العلاقة الحميمية السابقة، وبحساسية مزدوجة؛ فهي لا تخاطب كاتباً ولا لاجئاً، بل رجلاً كانت تربطها به علاقة وجدانية ثقافية إنسانية، في جمعية ثقافية. ومن هنا، يُصبح الخطاب أكثر التباساً؛ لأنه يتأرجح بين العاطفة وتأنيب الضمير، بين الرغبة في الاقتراب والرهبة من جراح إنسانة لاجنسية بالكامل، قد لا تُفهم بشكل صحيح.

جيزييل لا تُخاطب فقط الألم، بل تُخاطب اختفاء البطل، تغيّبه، صمته، سكوته، انسحابه، تلمّح إلى أنها كانت جزءاً من حياته، لكنها لم تُفهم يوماً أعماقه، فتأتي رسالتها كمحاولة لاستعادة توازن مختلّ، أو إعادة حوار انقطع قسرياً، لكنها في الوقت ذاته، تنزلق، ومن حيث لا تدري، إلى موقع الضحية الثانية، امرأة تشعر أنها استُبعدت، وأُقصيت، ولم يُفتح لها باب في عالم الرجل الذي تحب.

والخطير في خطابها ليس اتّهامها الصريح وخوفها المريب، بل تلميحاتها العاطفية الناعمة التي تخفي مطالبة ضمنية: أن يكون الألم مشتركاً، أو على الأقلّ مفسَّراً. لكنها، مثل مارك ويوهان، لا تدرك أن البطل يكتب من مكان لا يتسع للمشاركة، بل من منطقة داخلية منزوعة عن منطق العلاقة والتبادل. وهكذا تكون رسالتها لا بوصفها اعترافاً عاطفياً، ولا تضامناً إنسانياً، بل محاولة لفهم غير ممكن وإشكالي، تُحمّل البطل عبثاً وعبئاً مضاعفاً، في أن يُشرح نفسه، أن يُبرّر صمته، أن يُفسّر لماذا لا يمكنه أن يحبّ، أو ينفتح كما كان من قبل، وبذلك، تصبح رسالتها كشفاً عن هشاشة العلاقة العاطفية والجنسية والإنسانية، حين تُقابل بجدار الذاكرة المتصدّعة والمنفى الداخلي المكسور، رسالة تكشف عن العجز البنيوي، في الحميمية الإنسانية، حين تحاول أن تتجاوز ما لا يمكن تجاوزه أصلاً، الكسر الذي لا يتشارك، والآلام التي لا تُروى، والصمت المريب الذي لا يُترجم إلى أفعال أو مشاعر.

 

«لا تظهر الرسائل كوسيلة اتّصالية تفاعلية معتادة، بل تتحوّل إلى مرآة حادّة، وأداة تشريح نفسي ونقدي، تكشف هشاشة الذات المنفية وانقسامها الوجودي». إدريس سالم

 

أما رسالة يوني، فتبدو كأنها الأقرب إلى التماس حقيقي، لكنها في جوهرها تعكس مأزق العلاقة العاطفية المكسورة، عندما تصبح مطالبة دائمة بالشرح والكشف عن التوتّر الكامن في علاقات تبدو حميمية، لكنها محكومة بعدم التكافؤ الوجودي، وبحاجز مرئي بين الذات والآخر. يوني يريد أن يفهم الدوافع التي تجعله يشعر بأنه لم يعد يحب. أسباب بروده، غموضه، انغلاقه. عدم الكتابة لها، والانسحاب من العلاقة. لكنه لا يدرك أن ما يطلبه هو اعتداء على مساحة الصمت، التي صارت بالنسبة له، آخر ما تبقّى من الأمان، ما يقوله في ظاهر كلامه لا يقلّ خطورة عمّا يُخفيه. إنها علاقة تتحوّل إلى نوع من سوء التفاهم العاطفي، حيث كلّ طرف يتحدّث بلغة مختلفة، لا من حيث الأسلوب، بل من حيث السياق العاطفي والوجودي.

وهكذا تصبح رسالة يوني، عبئاً آخر يضاف إلى سلسلة المطالب الصعبة والمفروضة على البطل، بطل لم يعد يملك إلا صمته، لا كموقف، بل كحالة نهائية. فالمرسل، وإن كان أكثر رقّة وهدوءاً من المرسلَين السابقَين، إلا أنه يشاركهما في اعتقاد عميق مفاده أن الألم يمكن مشاركته، أن الحبّ اكتفاء، وأن المعنى قابل للإنتاج.

أما الرسائل التي تأتي من خليل وفراس – أيّ من عالمه السابق: العربي السوري، أو من الدائرة العربية – فهي تنكأ الجرح بحدّة مغايرة. لا توجد رومانسية هنا، بل غضب، وخيانة، ومساومة، وأسئلة معلّقة بالحبّ والحرب والأمان. خليل، الذي يبدو كأنه ابن البلد المنهك، يغوص في خطاب الواقع السياسي المتصدّع، ينتقد ويلوم ويعاتب البطل لأنه انسحب؛ إذ صار في نظره كافراً بالثورة. أما فراس، فيكتب من مسافة أشدّ قسوة وبرودة؛ رسالته هي صوت الابن، الحاضر الغائب، صوت البراءة والطفولة، الذي يتحدّث بلغة هجينة، محمّلة بلومٍ خفيّ، واغترابٍ عميق، ليس هناك دفء وبراءة في كلامه، بل برودة أوروبا، وقد ترسّخت في لغته ونبرة عقله.

لا تظهر الرسائل في هذا القسم كوسيلة اتّصالية تفاعلية معتادة، بل تتحوّل إلى مرآة حادّة، وأداة تشريح نفسي ونقدي، تكشف هشاشة الذات المنفية وانقسامها الوجودي، أشبه بما يسمّى «تقشير الذات» من طبقاتها الدفاعية والهجومية. فكلّ رسالة تسقط قناعاً، تفتح ألماً، وتفضح منطقة معتمة من انقسامات البطل الداخلية. هو مكسور وتائه في كلّ اتّجاه؛ لا الغرب يتبنّاه كلّياً، يتقبّله ويتفهّمه، ولا الشرق يسامحه على غيابه ويشفع لهروبه. لا الحبّ يمنحه معنى، ولا النقد ينقذه من الضياع والتصدّع.

 

«أنت لا تملك حقّ الانتماء، لا إلى المكان الذي هربت منه، ولا إلى المكان الذي استقبلك». إدريس سالم

 


الأكثر جمالاً وإيلاماً في هذه الرسائل السرديةـ أنها تُسرد من جانب واحد؛ فالبطل لا يردّ ولا يتدخّل في الحوارات المتتالية، وكأنها رسائل كتبت من طرف واحد، تراكمت فوقه كطبقات من الطين على جسد هامد متعب. هو فقط يتلقّاها كجدار، كمتلقٍّ أبدي، لا يقول، لا يشرح، لا يبرّر، لا ينتقد. وهذا الصمت هو الشكل الأعلى والأعمق من الوجع.

هذه الرسائل إذًا، ليست مجرّد تبادل أفكار وخطابات وتفكيكها، بل مقطع مونتاج سينمائي لوجوه متعدّدة، تمثّل العالم الذي يدور حول هذا الكاتب اللاجئ، وكلّ وجه يُقرّب المأساة أكثر، أنها ليست فقط مأساة وطن ضاع في الخراب والحرب، بل مأساة كاتب تحطّم في منتصف حكايته، لم يعد يدرك أين تبدأ الحكاية ومن أيّ مكان تنتهي؛ كلّ رسالة هي صفعة وجودية، عبر مرايا لا يملك كيفية النظر فيها طويلاً، وكلّها تصرخ في وجهه وتقول له بالمعنى الضمني الصريح: أنت لا تملك حقّ الانتماء، لا إلى المكان الذي هربت منه، ولا إلى المكان الذي استقبلك. أنت لست لاجئاً منفياً فقط، بل مراسلة مؤجّلة في بريد الحياة، نصّ غير مكتوب، غير مُستقبَل، غير مقروء، عالق بين الصدور والوصول.

لتكون نتيجة هذه الرسائل انعكاساً لمشروع فنّي، يؤسّس لما يمكن تسميته بـ «الرواية الرسائلية الجديدة»؛ حيث تُوظَّف لأداء دور فلسفي وجمالي، وتغير البنى العقلية والروحية، وتُؤدّي دور مرآة تكشف الذات المهزوزة، وتعرّي الغرب بوصفه مكاناً غير محايد ثقافياً أو إنسانياً، لتحمل أخيراً حمولة فكرية، تنتمي إلى أدب الاعتراف والمراجعة السياسية والتاريخية.

 


القسم الأخير: «هلوسات – العود الأبدي»:

وهو انزلاق نحو الميثولوجيا واللاوعي، عالم روائي مليء بالكوابيس والهلوسات، يقفز في هاوية الحلم والهذيان، يُعدّ ذروة النصّ الروائي، وتجلّيه الأكثر تحرّراً من الواقع. هنا يتخلّى مازن عرفة عن الزمن الخطّي، ويكسر ما تبقّى من السرد الكلاسيكي، ليدخل منطقة كثيفة من الرموز، الأحلام، الأصوات، والكائنات المتصدّعة، حيث يصبح النصّ نفسه في حالة من الهلوسة الأدبية، تتحوّل إلى مرآة مشروخة.

 

«يحاول مازن عرفة أن يكسر العود الأبدي النيتشوي، عبر اللجوء إلى الأحلام اليونغية». إدريس سالم

 

يحمل عنوان القسم دلالة فلسفية جوهرية «العود الأبدي»، وهي إحالة واضحة وذكية إلى فلسفة نيتشه، عن تكرار الحياة للأبد، بكلّ ما فيها من ألم ولذّة ومتعة حميمية، من دون خلاص أو تطوّر، فقط عودة لا نهائية، دوائر متكرّرة من التجربة نفسها، وكأن بطل «ترانيم التخوم» يعيش انفجاراً داخلياً لهذا المفهوم: لا طريق للخروج من الاغتراب، ولا خلاص من العزلة، ولا نهاية للمنفى، فقط دورات من التذكّر والانفصال، الحنين والخيبات، الحضور والغياب، مستخدماً صوراً كثيفة، حلمية، مشبّعة بالأسطورة والتجسيد المشحون بالرمز: كائنات غريبة نصفها آدمية ونصفها وحشية، غيلان بأعين مشقوقة، سعالى تتنقل بأذنابها، وساوس تتشكّل في الهواء، أبالسة ومردة وعفاريت تحمل رؤوساً متعدّدة... كلّها تتحرّك في فضاء لا يخضع للمنطق، بل يبدو وكأنه لاوعيه وقد انفتح بالكامل.

في المقابل، يحاول الكاتب أن يكسر العود الأبدي النيتشوي، عبر اللجوء إلى الأحلام اليونغية «نسبة إلى كارل غوستاف يونغ»، فعندما نعود إلى أحلامنا البدائية، أساطيرنا البدائية، والخوف منها، نخرج من الحاضر الذي يقتلنا برتابة، وبذلك يحطّم العود الأبدي من خلال تلك الأحلام، وأن حياة الإنسان بدون استيهاماته لا معنى لها؛ فالحقيقة أننا نعيش في أوهام كثيرة، أوهام فرويدية، يونغية، نيتشوية، أو أوهام المجتمع الحديث، وهذا الأوهام نخلقها ونتعايش معها، لنستمتع بحياتنا، كوهم الصداقة، الحبّ، ووهم الجنّة والنار، كي نهرب من الموت أو قذارة الحياة، وفي النهاية يسقط بطله في العدم.

 

«حين لا تفهم العالم، تخيّله على طريقتك». إدريس سالم

 

إن هذه الهلوسات ليست انفلاتاً عشوائياً من الواقع أو المعقول، بل وسيلة فنّية دقيقة، فحين تعجز القوالب العقلانية عن تمثيل العالم، يلجأ الكاتب إلى أدوات اللامعقول، حيث تصبح الكائنات السحرية المتشيطنة، وحركات قفز الصور وتصدّعها، التحوّل، التداخل، والانشطار، تعكس تفكّك الذات وفقدان بوصلة الإدراك، وفي هذا السياق تتحوّل الهلوسة إلى شكل أعمق من الحقيقة، وكأنه يقول لنا: «حين لا تفهم العالم، تخيّله على طريقتك». هو ليس قسماً عن الخيال، بل عن الحقيقة حين تنهار قوالبها التقليدية، وعن الإنسان حين يعيش نفسه ككائن ميتافيزيقي محاصر بين قوى استيهامية لا يراها الآخرون. يتحوّل البطل من كاتب إلى كائن حلمي، يرسم عالماً سُريالياً، من راوٍ بسيط إلى كائن يُروى عنه، يفقد السيطرة على الزمن، غارقاً في تزامنية عشوائية، كلّ لحظة فيها تعيد لحظة أخرى، وكلّ ذكرى تنسج شبيهة لها. هذا ليس فقط فقداناً للزمن الواقعي، بل تمرّداً عليه.

في «ترانيم التخوم»، لا نقرأ سرداً عن ذات منفصلة فحسب، بل ندخل إلى مختبر سردي يعيد تشكيل المفاهيم التقليدية حول الهوية، الدين، الجنس، الوطن بمكانه وزمانه. الرواية لا تكتفي بطرح تجربة لاجئ سوري مهجّر في أوروبا، بل تتجاوز ذلك إلى تفكيك الذات البشرية، في زمن اختلطت فيه الحقيقة بالصورة، والذاكرة بالخوارزمية، والألم بالتمثيل البارد.

يكتب مازن عرفة – الذي لا يزال يعاصر ويعيش كلّ أزماته وحكاياته وقضاياه – نصّاً يتعمّد ألا يكون مريحاً، نصّاً يرفض الاستقرار داخل أيّ قوالب أدبية جاهزة، يرفض الركض خلف حبكة تقليدية، أو الانهماك مع تطوّر درامي بالمعنى الكلاسيكي، بل الكتابة عنده مقاومة وجودية للزمن الخطّي، وتأسيس عالم سردي قائم على الهشاشة، التكرار، الانكسار، والانفصال؛ فالسرد البطيء ليس تباطؤاً في الحركة، بل هو كشف طبقي لانهيار المعنى، وتحلّل الواقع في محيط افتراضي يزداد استحواذاً على الذات والكينونة، واستعادتهما.

 

«تلعب الاقتباسات دوراً بالغ الأهمية على المستويين الفنّي والدلالي، وتُستخدم بوصفها أداة فكرية وجمالية لبناء عالم الرواية». إدريس سالم

 


في غالبية الروايات والكتب الأخرى، تلعب الاقتباسات دوراً بالغ الأهمية على المستويين الفنّي والدلالي، وتُستخدم بوصفها أداة فكرية وجمالية لبناء عالم الرواية/ الكتب، من بناء المثقّف/ القارئ/ الإنسان داخل النصّ، إضفاء عمق فلسفي وإشكالية حضارية، تفكيك الواقع عبر المفاهيم الكبرى، وتعميق الانفعال العاطفي والروحي والفكري والاجتماعي، والاقتباسات في «ترانيم التخوم» ليست مجرّد خلفية ثقافية، بل هي جزء بنيوي من السرد، تشكّل طبقة فكرية موازية للمشهد الروائي، وتدفع القارئ ليتأمّل نفسه أمام النصّ:

«إن الإجابات عن الأسئلة الوجودية، «من أين أتينا؟ ولماذا نحن موجودون؟ وإلى أين نمضي»، لا بدّ أن توجد في هذا الكون الفسيح الهائل، وليس في استيهامات الأديان وتخريفاتها، التي يؤلّفها معتوهون».

«منذ زمن بعيد، سألني طفلي الصغير، ذو الأعوام الأربعة، وهو يتأمّل السماء: «إذا كان الله موجوداً في السماء، فلماذا لا يقع على الأرض؟». سألني هذا السؤال بعفوية وبساطة سؤاله نفسها، عندما كنّا نسير في الشارع ظهراً، وصوت المغنّية «فيروز» يصدح من مذياع أحد الحوانيت «لماذا تغنّي الآن فيروز، والوقت ليس صباحاً؟».

«إن المجتمعات الغربية تحّرر طاقات الإنسان الإبداعية، عندما ينتهي من عُقد الجنس. ما نفكّر فيه من قضايا أخلاقية جنسية حولهم، يحمل ميراث عُقدنا الشرقية، فهم يعيشون بانسجام مع أنفسهم، ويعيشون الصدق في العلاقات الحميمية، بعكسنا الذين نلجأ إلى الخيانات الزوجية باستمرار، لا يردعنا منطق ديني أو أخلاقي».

«مع عروض نتفليكس، الأكثر شعبية، التي تنافس قاعات السينما من المنازل، لم يعد هناك حدود بن تمثيل المشاهد الإيروتيكية، وبين الانغماس بها في أفعال حقيقية أمام الكاميرات، لا فرق إن كانت علاقات غيرية، أو مُثلية، أو جماعية«.

«أصبح الجنس في الأفلام الروائية حقيقياً، وليس تمثيلاً. لم تعد مشاهده هذه تثير أيّ ردّات أفعال سلبية، لدى الرأي العام الغربي، بل يبدو أن الجميع يستمتع بها، وبإخراجها الفنّي المتقن».

«مجتمع الميم» هو عابر بأفراده للحدود الجغرافية – السياسية، والقوميات، والثقافات، والأديان، والأجناس العرقية».

«لماذا تغيّرت رؤى الغرب الثقافية والفكرية جذرياً، في القرن الحادي والعشرين، نحو التركيز أكثر فأكثر على حرّية الفرد الشخصية، المغرقة في الذاتية؟ لماذا انزاحت دائرة اهتماماته من قضايا الفقر والتنمية، في ما كان يُسمّى «العالم الثالث»، إلى قضايا المناخ وانقراض الأنواع الحيوانية والنباتية على الكرة الأرضية؟ لماذا هذه اللامبالاة بالدكتاتوريات العسكرية الطائفية، وممالك النفط العشائرية، والأنظمة الدينية الوحشية، السائدة في هذا العالم، على الرغم من المناداة بحقوق الإنسان؟»

«إن الحبّ والصداقة والعلاقات الإنسانية المنفتحة على الجميع، هي ما تعطي وجودنا معنى».

«اللاجنسيون هم طيف واسع من الأفراد، رجال ونساء، لا يمتلكون أيّ رغبة جنسية، بأيّ شكل من الأشكال. هكذا ولدوا، ويمارسون حياتهم الطبيعية من دونها. لا يعني لهم الجسد، كموضوع جنسي، شيئاً، وما يُسمّى أعضاء جنسية هي مجرّد قنوات لتفريغ مفرزات الجسد البيولوجية. لا تُعرف أسباب معظم الحالات لديهم، وليس من المجدي التفكير بسخافات معالجتهم، طبّياً أو نفسياً. هم لاجنسيون فقط، متأقلمون ومنسجمون مع أنفسهم، وينبغي تركهم بحالهم، واحترام حياتهم».

«في المجتمعات الأوروبية، يُفصَل حالياً بين الحبّ والجنس، فالحبّ لا يعني الامتلاك، ولا الحدّ من حرّية أحد الشريكين، خاصّة جنسياً».

«علاقات الحبّ صادقة، لكن المتعة واللذّة هما أساس الحياة المعاصرة في جميع جوانبها، بما فيها العلاقات الحميمية. عندما يصل طرفان إلى ذروة الإشباع الجسدي، في علاقة محدّدة، ينتفي مبرّر وجودها، ويتمّ الانتقال إلى علاقة جديدة».

«الحياة لن تتكرّر، والزمن يمرّ سريعاً، والفرصة التي تأتي، لا ينبغي إضاعتها. لذلك، ينبغي اغتنام أقصى درجات المتعة وتنوّعها».

«التديّن ليس إيماناً، إنما هو مجرّد حالة من نشاط دماغي؛ تموّجات يمكن قياسها، كتعبير بيولوجي عن اضطرابات في العقل، وأنه، بالنتيجة، ما هو إلا تعويض نفسي عن إخفاقات الحياة».

«سأكتشف أن معايير المنظومات الأخلاقية لا علاقة لها بالدين، وإنا بالحياة، فكثير من غير المؤمنين هم أخلاقيون، ومسالمون، ومنفتحون على الآخر، أكثر من الذي ينشر دينه بحدّ السيف، وينال على ذلك جائزة حوريات، في جنّة متوهّمة».

 



[1] مقتبس من كلمة الناشر، كما جاءت في الغلاف الخلفي من الرواية.

google-playkhamsatmostaqltradent