عبد المجيد يوسف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة الشّعر هي على نحو ما عمل الخيميائيّ، مادّته في هذا العمل
القريبِ من عمل السّحرة هي اللّغة والكلام.
الخيميائيّ ليس له من الدّعائم والمستندات إلاّ حدسه ومعارفُ أبعد ما
تكون عن التّجريب والوثوقية.
والمترجم لا مرجع له إلا ذاته وتجربته وما تراكم في وجدانه من المعارف
المتنوّعة وما يسهُل عليه توفيره بالوسائط المختلفة وسيلة لاستجلاء أبعاد النصّ
الموضوع للتّرجمة. وعليه مع قلّة الحيلة وشحّ الوسيلة أن يصل في النّهاية إلى
استخراج الكلام النّفيس مع احترام عدد من المقاييس والضوابط والسنن التي من بينها
ما يسمّيه النقّاد الواقفون خارج حقل التّرجمة بالأمانة والوفاء للنّصّ الأصل.
الضوابطُ العلميّة والأخلاقيّة ومقتضياتُ النّقل وجموح التّأويل –
فيما يتعلّق بالنّصّ الشّعري خصوصاً – كلُّها نوازع تتزاحم لتفرض لونها على مهجة
النّاقل وعلى النّصّ الحاصل من فعل التّرجمة، عملٌ له أرضيته الموضوعيّة لا شك،
بما أنّه يشتغل على مادّة موضوعيّة تجريبيّة هي اللغة، ولكنّه سرعان ما يتحوّل إلى
مفهوم ميتافيزيقيّ بما أنّه خاضع للحدس ولنوازع الذّات وإلى التّأويل.
من هذه الزّاوية يبدو أنّ ترجمة الشّعر ليست عملاً ميسوراً بالمرّة.
ومعيارُ هذا العمل إمّا بلغ منتهاه أن يقيس المترجمُ ما صنع بالنصّ الأصل وأن يزنه
بميزان الأدبيّة. فإن ْرأى أنّ ما أنتجه ترجمةً هو دون هذا النّص الأصل جمالاً
وإيصالاً لقيم الجمال والمعرفة فإنّ ما صنع إلى ضلال وبطلان، عليه أن ينصرف عنه
ويتركه.
ذكرنا في التّقديم ما معناه أنّ التّرجمة هي
سياحة النصوص من لغة إلى لغة ومن حضارة إلى حضارة ومن زمن إلى زمن ومن.
والنّصوص إذ تضرب في الأرض وفي الأزمنة والحضارات يعترضها ما يعترض المسافر
النّازح من الوطن إلى غيره من الأمصار. لكنّك إذ تحلّ بالقطر القريب المجانس
لموطنك فإنّ المصاعب تكون محدودة، وهي دون ما يعترضك فيما لو سافرت إلى صقع بعيد
مختلف… فأنْ تنقل من لغة إلى لغة تمتّ إليها بالقرابة كما بين اللّغات ذات الأصل
اللّاتيني أو ما بين اللّغات الأنجلوسكسونية أو حتى فيما بين اللّغات ذات الأصل
السّنسكريتي هو حتماً أيسرُ من النّقل ما بين اللّغات ذات الأصول السّامية وبين
لغة جَدّة مختلفة.
في هذه الحالة يعترض المترجمَ صعوباتٌ من جنس تركيبيّ ومعجميّ وثقافيّ
عليه تخطّيها وأداء محاميل الألفاظ والعبارات بما يقابلها في اللّغة المنقول
إليها. ونشير إلى أنّ الأمانة في مفهومها العلميّ الصّحيح ليست مقابَلة اللفظ
بمرادفه ممّا ينتُج عنه ضربٌ من استعادة النّصوص بشكل مشوّه وإدراجُها في سياق غير
سياقها الأوّل بحيث تكون غريبة منبتّة أو “نسراً محشواً بالقش” حسب عبارة "إدوارد
فتزجيرالد" (1809/1883) مترجمِ رباعيات الخيّام إلى اللغة الانجليزية.
ولم يتطوّر علم التّرجمة في عزلة عن المراجعات المفهوميّة للنّصّ التي
تمّت بداية السّتّينات من القرن العشرين مع انحسار البنيويّة التي كانت تعتبر
النّصّ نظاماً مغلقاً مستقلاً بعالمه. وقد أقرّت هذه المراجعات أنّ النّصّ نظام
مفتوح على القراءات والتآويل التي تُراكم الدّلالة وتجعلها إمكانيات لا عدّ لها…
فاستفادت التّرجمة من هذا المفهوم وانخرطت في الإجراءات المترتّبة عن هذا المنظور
فبرزت نظريّة التّرجمة العابرة للثّقافات ربّما قياساً على مفهوم "جيرار
جينيت" للنّصيّة العابرة.
وقد ظهر هذا المفهوم خصوصاً في ترجمة الأمريكيّ عمر شكسبير باوند Pound لمختارات
من الشعر الفارسي والشعر العربي من الشعر الجاهليّ والإسلاميّ والأندلسيّ، فكانت
التّرجمة لديه نوعاً من النّقل المعرفيّ عن طريق استكشاف المشترك بين اللغتين
المنقول منها والمنقول إليها. ومع هذا التّطوّر في مفهوم التّرجمة تنهار فكرة
الأمانة بمعناها القديم القائل بأنّ التّرجمة خيانة وتنهار فكرة الأصالة في النّصّ
المترجم مثلما انهارت أصالة النّصّ الأدبيّ التي كان يؤمن بها النّقد الكلاسيكيّ
منذ عشرينات القرن العشرين مع ميخائيل باختين… هذا الانهيار يتجسّد في تعدّد
التّرجمات للنّصّ الواحد بتعدّد المترجمين.
سوف نحاول بعد هذه المقدمة النازعة منزع التّجريد إلى أن نسوق نماذج
ممّا قد يعترض المترجم من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات، حيث تقوم أمامه بعض
العوائق التي عليه أن يتخطّاها:
· ينفرد الشّعر النّثريّ بإمكانات أوسع للتّرجمة. فالكلام الموزون عموديّاً كان أم حرّاً يعوّل بدرجة مهمّة على الإيقاع
الجرْسي لاكتساب أدبيته وطاقته التّأثيرية. وحين يُنقل إلى لغة أخرى فإن ّهذه
الطّاقة المولّدة للجمال تُحيّد تماماً، وعلى المترجم تعويضها من مآتيَ أخرى اتقاء
أن يكون النّصّ الحاصل من التّرجمة دون النّصّ الأصل.
· يعوّل بعض الشّعراء على جنس الكلمة فينسجون على سبيل المثال علاقة بين
الذّات المتكلّمة من جنس المؤنث وبين طائفة من الأشياء من الجنس المقابل أو بين
الذّات من جنس المذكّر والشّمس أو السّماء أو النّخلة أو ما شابه ذلك، ويصادف أن
يكون طرف العلاقة في اللغة المنقول إليها ممّا لا يتيح مثل هذه العلاقة… كما يشتغل
بعضهم على أشكال رسم الحروف وعلى تنقيطها من حيث العددُ والموقعُ تحت الحرف أو
فوقه وعلى ترتيبها في القائمة الألفبائية كالاشتغال على استطالة الألف أو كقول
محجوب العياري “الآن أدركت الحكاية ياءها” وهو يريد نهايتها… كل هذه المسائل صالحة
عند الشّاعر العربيّ لنسج صور مجازيّة على المترجم أداؤها.
· وتمثل المقولات النّحويّة مصدراً آخراً من مصادر التّخييل في النّصّ
العربيّ مثل الفاعلية والمفعولية، والإضافة ويعوّل على الحركات الإعرابية في أداء
إلماعات دلاليّة كالرفعة والسّلطة والسّلبيّة والانقياد والتّبعيّة والانحطاط وما
إلى ذلك… ممّا يمثل عائقاً أمام الترجمة ويدعو إلى بُعد التأويل أو يسقط في ما
يسمى بالترجمة المستحيلة L’intraduisible.
· وتمثل التّناصّات والتّضمينات عائقاً آخراً أمام التّرجمة، فإذا كان
النّصّ المنقول غنيّاً بالإحالات فإنّ على المترجم التفطّن إليها ونقلها والتثبّت
من مصادرها بما يتحقّق به فعل القراءة السّابق بالضّرورة لفعل التّرجمة. فإن لم
تكن هناك قراءة مُجلية لهذه التّضمينات العميقة فإنّ التّرجمة آيلة لا محالة إلى
الفشل الذّريع.
· وعلى المترجم أيضاً أن يكون ملمّاً بروح اللغة المنقول إليها عارفاً
بالعبارات الجاهزة في اللغة قديراً بأن يقابل هذه العبارات الجاهزة ذات المحمول
الحضاريّ بما يقابلها في اللغة المنقول إليها.. فقد يكون المعنى الإجماليّ لا صلة
له بالمعنى المعجميّ القريب فعبارة prendere
in giro في الإيطالية لا صلة لها
بالمصاحبة لغرض التجوال... والعبارة الفرنسيةJeter son bonnet par-dessus les moulins
لا علاقة لها لا بالطّواحين ولا برمي القبّعة، ولكنّها تعني تخطي
اللياقة وإساءة الأدب…
وهكذا فإنّ القوالب القوليّة تدعونا إلى مقابلتها بما يناسبها من جاهز
القول في اللغة المنقول إليها وتضع وجهاً لوجه عبقريّة الحضارتين وقدرتَهما على
اختزال الأوضاع والأحوال وصياغة الحكمة المأثورة والتجارب الموروثة… بل إنّ
التّرجمة المُحكمة لتأصّل النّصَّ المترجم في بيئته اللغوية الجديدة حتى لكأنّه
كتب أصلاً بها. وبعبارة أخرى فإنّ جهوداً تتعلق بالتّداول اللغويّ في اللغتين
ينبغي أن يبذلها المترجم فلا يكتفي بالكفاءة اللغوية وحدها لإنجاز عمله إذ تتدخّل
في صياغة الخطاب عوامل غير لغوية كالمقام والسّياق وهو ما ينبغي على المترجم أخذه
في حسبانه في عملية النّقل.
وأقول على سبيل الختام إنّ ترجمة الشعر ينبغي أن ينهض بها الشعراء دون
غيرهم ولا يكفي للمرء أن يكون ضليعاً بلغتين ليتاح له ترجمة الشعر، فالشعراء وحدهم
مَن تتاح لهم ملكة التصوير وتخيّل الصور وتخييل الخطاب وتحميله بما يتجاوز الدرجة
الأساسية للكلام مثلما أنّ لكل صناعة أهلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن موقع "أنتلجنسيا"