-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

على خطى مي وجبران "




                    بقلم الشاعرة :  فاتن حمودي





خالد بوزيان رسائل على الماسينجر ...عزلة الرجل ...وتوقه إلى الحب


أن نستعير من الفكر والأدب الأسماء، لنؤسس لتجربة أخرى، تجربة محمولة على رمز الحب، الصداقة، وفكرة النبي، التي كرسها جبران خليل جبران ببعدها الإنساني، يدفعنا للسؤال: ماذا يريد كاتب في عصر بات فيه العالم قرية صغيرة، وانزاح الجانب الرومانسي نسبيا، زمن أقل ما يوصف بأنه زمن الوجبات السريعة، وكأن فكرة الانتظار انزاحت، واللوعة، وربما العمق الوجداني، أمام نقرة على الماوس، أو رنة على الماسينجر والموبايل، و البوتيم، والواتس أب، حتى بات كل واحد مزدحما بالرسائل والأسماء الأفتراضية؟

ورغم كل هذا نسأل ما الجدوى، أن يدخل كاتب عالم الرسائل، رسائل لا ساعي بريد فيها، و لا رائحة ورق، ولاشغف الانتظار، رسائل الكترونية، تتوزع بين التخييل والواقع،

وما الذي يدفع كاتب مثل بوزيان موسوي، إلى عالم الرسائل، وبالتالي إلى اي درجة مسكون هذا الشاعر بالرومانس والانتظار؟

أطرح هذه الأسئلة بعد صدور كتاب "على خطى مي وجبران"، للكاتب د.خالد بوزيان الموسوي، وقد قامت الكاتبة الفنانة والشاعرة العراقية سعاد العتابي بتصميم الغلاف، الصادر عن عن مطبعة الجسور-وجدة، وجدة-المغرب.

يتبدى لنا في هذه الرسائل، حوارا مع الذات والآخر، سفرا في الامكنة مونولوجا داخليا، حيث مغادرة البيت..الغرفة..المكتب نحو الأفق، بعيدا عن الارتطام بجدران الوحدة والعزلة، إلى جانب حضور ثنائية الوجود والعدم، الحرب والسلم، رسائل تعيدنا قليلا إلى معنى الحوار والأفكار المتولدة منه، وهنا أذكر محاورات سقراط، مع الانتباه إلى الفارق وخصوصية هذه الرسائل والتي منشؤها الحب.

هذه الرسائل، دفعتني للبحث عن نص كتبه يوما د.بوزيان على صفحته في الفيس بوك، يحكي عن علاقته بالترجمة، والتي بدأت حين كان فتى يافعا، سمّاها " التكوين الذاتي العصامي"، وكانت قد ارتبطت هذه التجربة بترجمة وقراءة الرسائل لأهل بلده، يقول:"

لي شخصيا مع الرسائل و الترجمة من الفرنسية أو الاسبانية للعربية أو للأمازيغية، أو العكس، حكايات منذ كنت طالبا في المرحلة الإعدادية والثانوية، وقد ارتبطت بظاهرة هجرة أهل الريف و بني يزناسن إلى أوروبا، و بساعي البريد

كنت أقرأ رسائلَ مكتوبة بالفرنسية، و الاسبانية، و بالعربية، مرسلة من عمال مغاربة مغتربين، في إسبانيا، و بلجيكا، و فرنسا، و هولاندا، و ألمانيا، و السويد، و النرويج، و كنت أقوم بالترجمة الفورية إلى الأمازيغية، أو للعربية العامية المغربية".

ثم يحكي عن الأثر الوجداني الذي تركته هذه الترجمة والرسائل في روحه:" تعلمت أن أقرأ هموم الناس و أفراحهم، و غبنهم، و مسراتهم، و حنينهم، و أشواقهم، و فقرهم، و قناعتهم، و مرضهم، و سلامتهم، و أحزانهم... لدرجة أني كنت أستشرف مضمون أي رسالة مقبلة قبل أن يسلمها ساعي البريد، و كيف أكتب غيرها، أو الرد عنها". 
ويتابع:"كنت أعطي لكل محتوى وزن شحناته من المشاعر مع احترام خصوصية كل لغة و حمولتها الثقافية سواء تعلق الأمر بالتقاليد او العادات، أو بخصوصية كل لغة... حينها لم أكن قد تعلمت هذا من الكتب... هي الحياة كما نمارسها تعلمنا".

استوقفني هذا النص، والذي يشير بشكل أو بآخر إلى عمق معنى الرسالة عند بوزيان، الذي حرّضه لاحقا جبران برسائله، واسأل ما قيمة هذه الرسائل ، وهل وصل بوزيان في رسائله إلى تلك الحرارة والحيوية والصدق، أم أنه أراد أن يكتب أنفعالاته، وما يدور في رأسه من صراع حول القيم والمثل، لاسيما ما يتعلق بمفاهيم كبرى، مثل الحب، الصداقة، الأسرة، السلام، الحرب، الوطن، الأنتماء، الهوية؟



بوزيان، الذي قرأ زهور الشر لبودلير، كحول لأبولينير، مناجاة لامارتين، و كليلة و دمنة لابن المقفع، و نصوص أخرى لابن عربي و الحلاج و الخيام، وكتب الفلسفة والنقد، والكثير من كتب الشعر العربي والروايات، هذه الأرضية الثقافية، دفعته ليكتب رسائل "على خطى مي وجبران"، جبران الذي ترك شيئا كونيا على مستوى الشرق والغرب، في حين كانت نصوص مي بسيطة، مي زيادة، المرأة التي تنافس على محبتها رجال عصرها، العقاد، وجبران عن بعد، طه حسين زكي مبارك الرافعي مي زيادة بصالونها الأدبي، والتي كتبت رسائل حب لجبران ضاع أغلبها،

"الشعلة الزرقاء"التي تركها جبران، تحوّلت بلحظة ما إلى شال أزرق عند بوزيان، أما الرسائل، فنتوقف عند أجوائها،

21 رسالة في كتاب على خطى جبران..يفتح السؤال النقدي، عن سر الرسائل، وتبادل الأدوار في الحوار، هي رسائل حوارية، تشغل كل رسالة موضوعا، ، نشتم فيه رائحة المكان، ونعرف الغاية من هذه الرسائل، ليست رسائل مجنونة، رغم أن شخصية د.خالد بوزيان فيها أنزياح إلى كسر المألوف والرتيب، ولكن يبدو أن عمله في التدريس جعل العقل حاضرا، كإطار حقيقي للرسالة، تلك الرسائل التي تشكل فيها المرأة صوت المبادرة، هي دائما من يسأل عبر البريد الماسينجر، وإن تغيرت الحال وتلونت بين فرح وغضب، وحب وانتظار، هي أمرأة تبدل الأحوال، أمرأة تشير كلماتها إلى وطن محترق، وكأنها من بغداد...من ارض دجلة والفرات والخابور، صوتها يشير إلى الحب أولا، الوجع، والتمرد على قيم سائدة، وهو ما بدا في رسالة الأسرة والمجتمع ، هي أمرأة مبادرة، لأن معظم الرسائل تبدأها هي بكلمة"ايا جبران"، وكأنها تقول" ايا حبيبي"، اينك ، وفي أحيان قليلة يبدأ هو الرسالة بكلماته، هي رسائل في هذا الشارع الأزرق الأفتراضي، الذي بات عالما قائما بذاته، في هذه الرسائل نمسك بملامح أمرأة عربية، مثقفة، تربط كل الموضوعات وبسخرية عالية بالحرب وبوطن لم يعد وطنا، كإشارة رمزية إلى تبدل القيم الثابتة في ظل متغير أشبه بعالم قيامة.
.

مقتطفات من اجواء الرسائل:

"اتصلت ميّ على حسابي كتبت:

أيا جبران

ـ من لمحني والغثيان حالتي حسبني حبلى

وما حبلت يوما، ولا كنت أما ولا ثكلى

وما خلت انعطاف زمني وأحلامي المثلى

ولا انحطاط أهل جلدتي إلى درجات سفلى"

أجبتها:

أ..مي حبيبتي

تقول مي: لقد زرعوا مكان الورد ألغاما.. وذخيرة عديدة

ومن الدماء رسمنا معا خريطة هروب عنيدة".

في هذه الرسالة، نشم رائحة الحرب والدم، وانعكاس هذا على عقم أرواحنا، حيث الحب ملاحق بالغربة، و القلق ...ورغم هذا يأتي صوت جبران برومانسية هي فعلا هاربة من الزمن أ يا ميّ:

ـ وحبي؟ أنسيت حبنا وظلال أشجارنا

وتلك البحيرة حيث ربينا بعشق أسماكنا

كتبت
".

يعتمد بوزيان على السجع، مانحا اللغة إيقاعا موسيقيا، ترادفيا،في رسائله نلمح شعرية الجملة، التي تميز بها اسلوب بوزيان، ورهافة النص، العفوية، نلحظ السهل الممتنع أحيانا، ففي الرسالة الثانية، والتي تبدا بصوت مي، المرأة المندفعة، التي تحمل بلوى المكان، والغيرة في حالة الحب، يقول:"بكت ميّ.. وغادرت.. وليتها:" اتصلت ميّ على حسابي كتبت :"

ـ أيا جبران

هبوب رياحك هيجت بحور الشعر عشقا

فكن حليما ببنات الضاد "

بجملة شعرية كما خطف الروح والتمني تبدأ الرسالة " بكت مي وليتها..وتنتهي بنفس الجملة"بكت مي وليتها"، تلك الجملة الخاطفة وما يليها من سؤال وقلق ، يبدو فيها الحب ورائحة العشق، من خلال صوتين، مي وجبران، أ يا ميّ !..

ما ذاع عني صيت غرام لا غربا ولا شرقا

وما زرت طبيب وباء عشق ولم أبغ ترياقا "

وهكذا يبدو الجانب الوجداني في الرسائل المفتوحة على الأسئلة، ففي المراسلة الثالثة، يستعيد بوزيان جبران خليل جبران بشكل صريح ، ليعيد طرح اسئلة الوجود الفلسفية، والتي قرأناها عند صاحب"النبي"، حول، المجتمع، الأسرة، الطبيعة، و الحب"، تعاد هذه الأسئلة على لسان مي، وما بين رفض القيم، أو قبولها، تمضي الرسالة:"

راسلتني ميّ بعد محطة خصام عابرة، كتبت:"

ـ كتب جبران خليل جبران ـ وهو من ألهمك كتابة هذه السلسلة من المراسلات معي ـ كتابا تحت عنوان "دمعة وابتسامة"...ويدور الكتاب حول موضوعات أربعة: المجتمع، والطبيعة، والحبّ، والوجود،...، يبين فيه جبران فساد المجتمع وما فيه من ظلم واستغلال وطمع وفقر، ويرى أن الطبيعة تمثل الخير والطهر والكمال ...ما رأيك في أطروحاته يا جبراني"، هنا تبدو الإشارة واضحة لجبران، و للأسئلة التي تشغلنا اليوم، اسئلة طازجة حول، المجتمع، الطبيعة ، الحب، حيث يعاني هذا الثالوث اليوم من حالة جحيمة، هنا يلعب الكاتب على التناقضات، وتحضر أسماء فلاسفة وأدباء، كإشارة لثقافة بوزيان، وتبني بعض أقوالهم،مثل، شكسبير، هايدجر، غادة السمان، ويوظف بعض أقوالهم بما يخدم روح الرسالة واسئلتها، والتوجه الذي يريده، وهو المؤمن بدين الحب، يقول:" أجيبك ميّ بما أعجبني في كتابات غادة السمان،

متى ينضج هذا العالم ليحاكم كل من أقفل قلبه دون حب، ويجعل الحاكم أن يكون حاكما عاشقا"،

وهنا إشارة حقيقة، لحكام لا يعرفون معنى الحب، ودعوة لوطن يسوده الحب.

الرسالة الرابعة..المساجلة بين مي وجبران حول موضوع الحب أخذتنا لعصر مضى ...يكتبان بروح ذاك العصر، والتصوف، أين هما من لغة اليوم في الحب والشغف؟

يتخيل أنها الفارسية التي أحبها ابن عربي،

يمضي إلى قصص العشاق ليرى بعيونهم وكأنه يَعُفُ عن الحب في هذا الزمن، يعيش الحب الذي صار قصائد وميثولوجيا.

الرسالة الأخيرة ....يغيب فيها صوت مي ...في حين يقف جبران وحده ....وكأننا أمام حلم يقظة، يحكي فيها عن مي الخيال، وبنفس الوقت هناك إشارة لها كواقع من خلال محبتها لأغاني أنغام وميادة حناوي، الرسالة تتمحور حول بكاء الرجال

في الرسالة الأخيرة، جبران هو من يبادر معلنا معنى بكاء الرجال

الرجل يبكي ويعترف أمام حبيبته بأنه يبكي، يكتب بكاءه، وهنا يرتبط الدمع بالوداع، ويتنامى النص الشعري.

"راسلت ميّ، كتبت لها قبل الوداع

لدموع الرجال ... موسيقى أخرى.. يا ميّ.

أتذكرين كيف أول حرف كان مصيدة

لدموع الرجال ... موسيقى أخرى.. يا ميّ.

أتذكرين لما حكت لنا ستنا

ـ كم صنعنا من خيال حولناـ

وطربت على أنغام ـ بعشقك ـ لميادة

لدموع الرجال... موسيقى أخرى.. يا ميّ.

أتذكرين لما بكى من حولك الرجال

رجال استباحوا أوطانهم حتى في الخيال؟"

هذا النص رحلة، ذاكرة، ورجل يقف معلنا دمعه ولمن؟ لمي، التي هي وهم لكنها تسمع أغان وترددها، ويحفظها جبران.

يقول في الإهداء:"

لك نسمة أهدي كتابي

و لتلك التي

أسميها ميّ

و لا أعرفها"

كتب مقدمة الكتاب


الكاتب منذر الغزالي، قال في مقدمة الكتاب:" سواء كانت مراسلات الكتاب حقيقة أم متخيّلة، سواء كانت "ميّ" الكتاب امرأةً من دمٍ ولحمٍ وجوارح، أو حبيبةً متخيّلةً، ملهمةً للكاتب، فإنّ ما بين ضفّتي الكتاب أدباً حقيقيّاً، ونزوعاً نحو الفلسفة"، واقول كما قال جبران، في الحب والزواج:"



«ولدتما معا وتظلان معا حتى في سكون تذكارات الله، فغنوا وارقصوا معا وكونوا فرحين أبدا
تعديل المشاركة Reactions:
على خطى مي وجبران "

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة