recent
جديدنا

«مراصد الروح»: قصائد على تخوم الألم والكونية

الصفحة الرئيسية


 

محمود نعسان

 

عندما يتحول الشاعر إلى ساعي سلام

 

تمرّ أطوار الكتابة بجميع أنواعها، النثرية والشعرية، بلحظة تنبثق منها الفكرة، مثل نطفة تكبر وتتعدّل وتتحرّر من بعدها. وكأنما معنى الكتابة بيولوجياً، عبارة عن «تزاوج» بين الفكرة والكتاب المنشور ورقياً أو إلكترونياً. إلا أن المنتج الأدبي وحيد الخلية (أيّ أنه لا يستطيع أن يقترن مع خلية أخرى من غير جنس (ذكر – أنثى)، وهذه الخلية الواحدة هي فكرة. فمن أين تنبع وتنشأ هذه الفكرة إذا كانت وحيدة الخلية؟ ومن ثم كيف يمكن أن يتزاوج وحيد الخلية (الفكرة) وينتج شيئاً ما؟!

تنتج الفكرة في الذهن من مسبّب، وهذا المسّبب يكون واقعياً (من الواقع)، إذ لا يمكن أن ينبت في الذهن شيء لا يمكن إيجاد مثيل له في الواقع؛ فكلّ رغبة في الإنسان هي حاجة، وكلّ حاجة هي دليل وجود هذا المطلوب، إذ كيف يمكن للإنسان أن يطلب الماء (رغبة)، بغير حاجة (عطش)، وبغير علم بالموجود (ماء)؟!

 

«هل الشاعر منتمٍ إلى المدرسة السوداوية أو العبثية». محمود نعسان


 

ويبدو أنه حتّم على الكاتب والشاعر الكوردي، إدريس سالم، أن يستلهم إبداعه، ويستنهض وعيه من واقعه (الألم والمآسي والفرح...)؛ إلا أنها غالباً ما تزكّي نيران الإبداع وفتيل الفكرة في وجدانه. فيذكر في استهلال مجموعته الشعرية «مراصد الروح»، الصادرة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب 2025م، يذكر أنه كتب قصائده وهو «يشاهدُ السماءَ ترمي قيودَها، قيودَ القمعِ والاستبداد»، و«أنا أتأمّلُ جنازةً، كانَ يجبُ عليها أن تعبرَ تخومَ الحدودِ بساعةٍ، فوصلَتْ مرقدَها بعدَ ثمانٍ وأربعين ساعةً»، و«كتبْتُ هذه القصائدَ وأنا أحضنُ إغماءات “هيما” في السيّارة، وبكاءً يرتجفُ في صدرها...».

 

«الألم رافد الشاعر ومنجمه لنحت القصائد». محمود نعسان

 

هل الشاعر منتمٍ إلى المدرسة السوداوية أو العبثية، كي يصارح القارئ بهذه المقدّمة، أم أنه ثمّة شيء ما أطّر قلمه ليكتب بهذه الطريقة؟ لنمضي على بعض صفحات مجموعته الجديدة، ونكتشف السبب. يبدأ بعد هذه المقدّمة بقصيدة عنوانها «دمٌ أعمى»، تتردّد فيها مفردات تدلّ على المعاناة والألم: (وحيد أنا – هارب – سوط – ضربة – فؤوس)، في إشارة إلى حالته النفسية، ضمن واقع يحيطه من كلّ جانب، في أتون الحرب المترامية الأطراف على امتداد الجغرافية السورية:

«وحيدٌ أنا

كهاربٍ من رائحة زنزاناتٍ

تخافُ من سوطِ جلّادٍ مؤجّر».

 إنها مفردات ومصطلحات شاعر، يعيش واقعاً غير سلمي، ليؤكّد لنا أن الألم هو رافده ومنجمه لنحت القصائد. وتتكّرر هذه المصطلحات في مناسبات كثيرة في المجموعة، مثل قصيدة «ليسَ للكوردي... إلا البكاء»، التي يقول فيها:

«في وطني

يستلُّ المارقون أسيافَ البترِ

يقطعون أطرافَ الأمسِ،

وشرايينَ الضوءِ

يرصفون مساربَ لحظاتٍ محتدمةٍ

برَقْعِ تمنّياتٍ ذائبةٍ

على أذيالِ خواطرِ غدٍ ضبابيٍّ».

وفي قصيدة «قضية مخذولة»، من الصفحة الواحدة والعشرين:

«خذي حروبَك من هنا

خذي جدالاتِك

خذي حواراتِك

خذي مفاوضاتِك

خذي مَن يشتروننا بكلمةٍ

ويبيعوننا برصاصةٍ،

خذي كلَّ شيءٍ

وارحلي... من هنا».

حتى أن الألوان البهية غابت عن «مراصد الروح»، ولم تحضر غير الألوان، التي تدلّ على الموت والقتل والدم، كما افتتح قصيدته «مَمرّات الكراهية» بذلك:

«سائلٌ

أحمرُ

سائلٌ

أسودُ

بنيٌّ

قاتمٌ

مُرٌّ كفوهةِ البندقيةِ

تسيلين في الصدورِ السوداءِ

إلغائيةٌ أنت، وغوغائيةٌ

أيّتها الكراهية».

 

«الحزنُ وباءٌ عالميٌّ». إدريس سالم

 


مَن يمكن أن يستخدم هذه المفردات؟! إنه شخص يعتصر واقعه. ما هو واقعه؟ إنه واقع الحرب (الألم). يزاوج بين الفكرة والواقع؛ لينتج عملاً أدبياً شعرياً، يتماشى مع واقعه وحالته، فهو (وكلّ شاعر أو كاتب أيضاً) مثل كيميائي يقوم بعملية تزويجٍ بين الفكرة والواقع، وهو الذي يؤرشف هذا التزاوج، ويحنّط النسل عن طريق تحويله إلى كتاب بين أيدي القرّاء.

ويبدو أن الكاتب نفسه، أدرك مدى انغماسه بالألم والمآسي، فحاول أن يقدّم مبرّراً للقارئ:

«يسألُني أصدقائي:

لم كلُّ كتاباتِك عن الألم؛

تتنفّسُ السوداويةَ والعبثيةَ؟

أقولُ لهم:

الحزنُ وباءٌ عالميٌّ».

ولكن للقارئ أن يتساءل عن أيّ عالمية يتحدّث والشرق وحده غارق في الحروب والجهل، أما الغرب فهو يرتع في نعيمه! فما علاقة الغرب بمشاكل الشرق الاجتماعية؟ إن الإجابة على هذا التساؤل هو أن سالم يحاول في مجموعته الشعرية أن يمارس «الكَونية»، فيوصل رسائله للبشرية جمعاء، ويتكلّم باسم ألم الكلّ، وكأنه ألمه الذي يخصّه «في عفرين وفي كركوك» مدينتان كورديتان، «وفي دُكّالة» اتّحاد قبلي يتألّف من قبائل عربية وأمازيغية، و«الجيزة» مدينة في مصر. حتى أنه يسرح بنا على سرح الخيال إلى فلسطين فيقول:

«أستمدُّ حقّي من غيابٍ

لا يزالُ يستدرجُني

نحوَ الأوهامِ والظنون

منذُ «وعدِ بلفورَ» وأكثر.

يسحبُني البكاءُ منّي صوتي

ويصرخُ في مخاضِه الأخير:

لا تنفصلْ عن جسدي».

لنا أن نتساءل: ما علاقة الشاعر «الكوردي السوري» بوعد بلفور؟ ربما ليس هناك إلا إجابة واحدة؛ هي أن الشاعر ينظر إلى قضايا العالم وكأنها قضاياه، يكتب وكأنه معني بكلّ وجع يحدث في بقاع الأرض.

إذا كان إدريس سالم يكتب للعالم كلّه، ويعتبر الشعر لسانه ومنبره في توصيل رسائله للجميع، فلِمَن يوجّه شِعره؟ ولأجل ماذا؟ هل يهمّ الغربي الذي يبحث عن التقدّم والتطوّر المستمرّ أن يقرأ عن الدم والحرب؟

إنه يحاول أن يقدّس الوجع والمأساة، ويجعل منهما نبراساً يسمو فوق الفرح، ففي قصيدته «قياماتي»، يبيّن بشكل واضح لمَن يكتب؛ إنه يكتب للكلّ؛ للبشر والحجر والجمادات:

أكتبُ جدّتي «مَالِيكَان»،

وهي تلفُّني بأحاديثِ الصباح،

ورائحةِ الثومِ البرّيّ...

أکتبُ دُميةً تمزّقَتْ في حضنِ طفلةٍ هامدةٍ

أکتبُ حذاءً، احترقَ في قدمِ امرأةٍ جميلةٍ

كانَتْ تهربُ من قذيفةٍ مسعورة.

أكتبُ جبالاً اهتزّتْ دماراً وخراباً

أکتبُ حزناً تائهاً بينَ الذُّعرِ والسكينة».

وتمتدّ هذه (الكونية) على امتداد المجموعة الشعرية كلّها، بشتّى أنواعها الجغرافية والاجتماعية والأسرية حتى:

«في بيتنا الممزوجِ بالحطبِ والزعفران

تمشي أمّي ومنفضتُها

وبها مئاتٌ من الأحلامِ المطرّزةِ

من حزنِ سُنبلةٍ ماتَتْ على ظمأ

يتقطّرُ منها الخوفُ بكلِّ أشكالِه

القلقُ بكلِّ أعراضِه

الحيرةُ الرطبةُ

ودهشتُها الغريبةُ من أنها تمشي...».

إلى أن يقول:

«وأبي

يتأفّفُ قابِعاً في حنينِه العتيقْ».

ليغلق باب البيت الأسري بالأخ:

«أصهلُ على ملامح أخي

أحترقُ من دخان ذنبه».

وفي نهاية القصيدة يرشدنا إلى أن نواجه مصائرنا لوحدنا، وإن كنّا محاطين بأسرتنا وأصدقائنا، إلا أنه من الرفعة أن تكون مع الناس في مصائبهم، ولا تنتظر منهم المقابل بالمثل:

«أرفعُ رأسي وحيداً

وأناجي...».

بعد أن بدأ الشاعر الكوردي بطرح تجربته الشخصية مع الألم، ومن ثم مع البيئة المُصغّرة (الأسرة)، ينتقل إلى محيطه العام وقضيته الرئيسية في قصيدته «قضية مخذولة»:

«هو وطنٌ أخضرُ يلبسُ خَفتَاناً أحمرَ».

ليرسم في قصائده مشاهد ميلودرامية مكثّفة، تضع القارئ أمام حقيقة الواقع والحالة النفسية ليوميات الحرب، التي لا تكترث بالعاطفة والعقل، بل تستمرّ في طريقه الروتيني:

«في الشرقِ المَلدوغِ من تاريخِه

أخٌ يكفّنُ روحَ أخيه بصراخِ الوعي والهزيمة

يغمّضُ عينيه بضريبةِ حقيقةٍ تجعّدَتْ في الخنادق

يتّكئُ عليه حاضناً مُنتحِباً

بحذاءين مَقهورَين

يقولان ما لا تحتملُه اللغةُ

وبلاغاتُها.

في الحربِ

جدائلُ تخرجُ من تحتِ القصفِ

تتفقّدُ إيمانَ اللهِ فوقَ رأسِها.

في الحربِ

يسألُ الطفلُ باكياً مُرتعِشاً:

ما الذي تريدُها منّا هذه الحربُ؟».

تترافق هذه الميلودرامية، التي يكتبها مع مفردات وجمل، تتواءم مع معاني القصيدة، لتشكّل موسيقى تناسب المشهد، الذي يرسمه، وكأننا أمام موسيقى تصويرية، ففي قصيدته «الموتُ على دُفعاتٍ»، يعزف موسيقى هادئة، تتناسب مع القصيدة ومعانيها، التي يغصّ بها القارئ، وكأنه يتجرّع سمّاً، وهو يقرأ واقع الحرب، الذي ربما لم يكن على علم بصنوفه العديدة:

«نموتُ على دُفعاتٍ متتاليةٍ

في كلِّ تهديدٍ نموتْ

وفي كلِّ وعيدٍ نموتْ

نموتُ بكلمةٍ

نموتُ بتحليقِ طائرةٍ

كنّا صغاراً نلعبُ مع دُخانِها وصوتِها.

نموتُ بنعوةٍ

نموتُ بإشاعةٍ

نموتُ بخطاباتٍ

بشعاراتٍ

عن العارِ والمآسي...».

 

«الحرب هي التي تغيّر نفوس الناس». ابن خلدون

 

يريد الشاعر الكوردي لهذا البلد، الذي يمجّد نصره بسقوط طاغيته وزوال فساد حكّامه، ويمرّ على سجونها المخفية «صيدنايا» والظاهرة، وحال المعتقلين في قصيدته «متى تقرّرُ الحربُ، أن تكبرَ، وتتخلّى عن جبروتِها وعفاريتها؟!»، يريد الإصلاح ما استطاع، دون أن ينزع البذرة الأولى والنواة، التي تتمثّل في القيم والمبادئ، التي نشأ المجتمع عليها قبل الحرب، وكأنه يقول بأن المجتمع قبل الحرب كان على وئام ووفاق، مذكّراً إيّانا بمقولة ابن خلدون، بأن الحرب هي التي تغيّر نفوس الناس:

«نريدُ أن نزيّنَ الجدائلَ

لا أن نقصَّها بكلامنا».

لقد جمع إدريس سالم في مجموعته الشعرية «مراصد الروح» بصفحاتها (120 صفحة) الهواجس والمشاكل التي يعاني منها، بدءاً بسريره (أحلامه وكوابيسه)، وانشراخاتِه الروحية، والقلق الذي يعاني منه نتيجة واقع متهالك تنزلق عليه القدم، وجهل أعمى يتمشّى داخله الشاعر، ومن ثم تضحية أب وأمّ يقدّمان حصيلة أعمارهما من أجل لملمة شظايا ربيع شباب كهلوا في صِباهم، وضاعت أحلامهم بين ركام بيوت مطأطئة الرأس. وعالم يقتل نفسه بنفسه، ويُفني بعضه بعضاً، دون رادع أخلاقي أو إنساني، والقسم الآخر منه يتفرّج وهو يفصّص البزر، ويحتسي قهوته مع موسيقى هادئة.

 


google-playkhamsatmostaqltradent