صدرت المجموعة الثالثة للشاعرة ميلينا مطانيوس عيسى عن دار آس تحت عنوان "القلب لا يتسع إلا لنبي واحد , واحد فقط!" 96 صفحة من القطع الوسط ،تحمل بين دفتيها أربعين قصيدة نثرية ، بعناوين مختلفة تفتتحها بإهداء لم يشر إليه على أنه إهداء.
بهذه الجملة الشعرية تدخلنا إلى عتبة النصوص
"يا لعاصفةَ الّتي حرّكتْ كلَّ سكّرِ القلبِ،
ورَمتْني في غابتِكَ؛
يا لّذي أحبّكَ"
لتكون مدخلاً على مقاس ميلينا التي تقفز من فوق اللغة العادية، في المرة الأخيرة أو للوهلة الأولى أنت أمام الدهشة كما أي طفل, تحتاج إلى اكتشاف لعبتها و إعادة القراءة بهدوء وحذر, أن تقلّب المعاني والجمل في ذهنك, ميلينا لا تغوص كثيراً في الموضوعات الفلسفية, بل تحاكينا بلغة مباشرة نستخدمها في أحاديثنا اليومية ، ولا تفتعل لغة معجمية ، بل بسلالسة وجرأة قادتها أحياناً لأن تتعثر بلثغ بضع كلمات هنا وهناك ، و أن تتعثر بذاتيتها في النصوص.
لنقرأ معاً هذا المقطع من قصيدة "قنديلي مريض"
"اذهبي وحدّثيه
إنّ اللهاثَ حين تغطيه الطحالبُ
يتخدّرُ
وإنّ المواعيدَ حين يقترفها البهتانُ
تتشظى
وإنّ ورقة التو ت حين لا تكفي
لستر الذريعة
ينطفئُ تموز ."
إن تنتبه كيف تبتسم الجمل بنظرات نسل مغتسل بالفضيحة , يزداد وجهك دهشة و حزنا على الخراب الذي تشاهده الشاعرة ميلينا برؤية عميقة تتشح بالألم المبطن ،إنها تمتلك مع النص رمية نرد بدراية لتحتفظ بتلك الدهشة التي تربح المعنى في المفردة وتخسر روحها في سبع سماوات وجهات ست, فتقول لنفسك :"أنت, لماذا تخشى النظرات" !
"حصرمٌ أسفلَ المشنقةِ"
أثقلُ من وعاء عفّة
تتراخى
وشرنقة تتقوقعُ ما أنْ
تحاصَرَ باعتذار
_ رجلٌ واحدٌ وتنتهي المسألة _
أحادث نفسي:
كيف أبدو للعيا ن؟
أيَّ التضاريس أحطم
ما الجدوى من انتفاخ الفكر ة
وهل سأنجو!
قد أخبروني:
هذه السنة بخمسة فصول حُبلى"
وكان لا بد لألسنة اللهب أن تصل المتن من شمالها القصي إلى جنوب الهوامش لرمزية إسقاط الأسماء مثل كويلو ومرتا من الإنجيل ويوحنا وزليخة من قصص اللاهوت, تستشهد بتلك الأسماء في تركيب المشهد الشعري لتتواتر القصائد النثرية بإيقاع داخلي ، هاجرت نصف الحروف وقُتِلت ربعها, وأما ما بقي من سكان المدينة والشوارع التي تشيّد المعنى كأشجار مشذبة وعلى هيئة قصائد , تعدك بإمكانية معرفة ملامح المواسم ذاتها بثمارها الناضجة والعجراء وأنفاس الذين سكنوها ،نفس تلك الوجوه التي تعرفها من خلال القراءة وتصادفهم يومياً، والعالم من البشاعة حيث لم يخرج أحد ليوقف عجلة الموت والخراب وهي تشكو إرهاقها من الحدس في نص آخر.
من أيّ شبر سأتدفقُ؟
قد أرهقني الحدسُ
وأنيّ أتعثرُ
كلما مارست غسلَ الغيمة
بكسر كاحلك الحلو
الشاعرة تدخل إلى أغوار النفس ،الإنسان بكونه جريء وخائف،واثق ومتوتر, بارز المعالم ومغمور أحيانا ويتحول إلى الأذية أحيانا أخرى, البشر يشبهون كومة من الأشياء, لكنهم الظواهر الحقيقية المتشكلة على هيئتنا, لذا تشبهنا هذه الصور وتتقمص ما يحيط بنا من تداعيات ,أن تتحول الفصول المذكرة في اللغة والسنة المؤنثة لتكون حبلى بالفصول، وتضيف رقما آخر لتصبح خمس فصول ، كما حواسنا ، هذه التركيبة أو الصياغة في الجملة الشعرية يذهب إليها حدس مجنون كرؤوية ميلينا لللامحسوس إلى محسوس وتجسيده عبر الصورة ,
ففي هذا المقطع نلاحظ الجمل العادية التي لا ترتقي إلى تلك الشاعرية الحالمة حتى العنوان نجده عبثيا ، ولا يرفع منشأن الصورة التي نتوق إليها, أو أن نشعر بالدهشة والصدمة معها, و انسيابية القصيدة هنا قريبة من الإنشاء.
"حبّةُ زبيب في حلقِ رجلٍ يحترقُ"
"كتفاي تعوَّدا قدميكِ
و لن أجيدَ تكرارَ المعصية
تذهبينَ كما العيد
يغفرُ لك بياضُك
وصمتُك يستحيلُ أفقا
......
ترهقُني الفواصلُ
وأنا أحث خطاي خلف
الصوا ب
في محو نظمكِ الرَجيم
والمساحا ت الشاسعة
من أحاديثكِ العارمة"
لنخرج من الشفق،الجرح،والله بيننا ،والقبر الجالس الغارق في الاستعارة الذي بلله دفء الجرح من فصل تتعمد ميلينا فيه إلى أن تشوّه وجه الأحلام الناهضة ،و تكسر الحروف لتمزجها أكثر من الكحول بالماء لتعطي لونا آخر ، بنت علاقتها بالنصوص بناموسها الكوني الخاص , كغيمة فضيحة محملة بحكاياتنا المسكوبة على أرائك الوقت ، تستعير ذاكرتنا وضفاف أحلامنا، لكنها في الوقت ذاته تطرح نيران المعاشرة من العرق, التراب والنبات ، كرقم زائد من حيز البيت وأحضان الشوارع , تعري التفاصيل اليومية والهامشية وترميها على الورق لتحول الصمت إلى لغة واللغة إلى صمت ، هل نجحت في هذا ؟ أم أن الحرف خانها ، نترك هذه التساؤلات بموضوعية للقارئ ,والانزياح الذي أوقعها أحيانا بين هنيهات الشطح وشرك الاسترسال ، والصفة التي أثقلت كاهل الجملة تستند لمعادلاتها ، هي تتقن الأرقام والغيرة و تعرف امرأة +رجل = ..... و تفهم الجماع في المتن نقطة (م)التي ترتكز عليها البيكار لرسم دائرة الحياة بأطوارها , وصلت إلى هذه النقطة الشاعرة ميلينا في الكتابة الشعرية , هي تكتب مالا يكتب ، و ترى مالا يرى ,إنها مغامرة النرد التي لا تخلو من الخسارة.
لنقرأ هذه التغريدات أو ما يدرج تحت تسمية الومضة
"-1-
أحيانا
حصادُ الفكرة يسفرُ عن تلوّ مفجع
لا يأخذكَ الغيمُ عندما يفتحُ أدراجَهُ
فعنبُ عرائشه حامضٌ
لانفعَ من حشو الجيوب به
- 2 -
من لا يجيدُ احتواءَ امرأة
لا قدرة لهُ على صنع وطن.
- 3 -
رذاذُ السيكولوجيا
حين لا يوقظُ حائطاً ميتاً
مقاضاتهُ حق "
من خلال هذه التفاصيل الصغيرة ندخل الى عالم أرحب كومضات تشتعل هنا وهناك, تارة تضيء المعنى وتارة تخفيه في الظل، لتسقط من علو شاهق إلى الهوة ...... هكذا تهجر طيور القصائد من مواسمها دون أثر لأعشاش ، و سرب آخر يعلم فراخه أحجية الطيران ،لتهرّبهم من ظل الانتماء إلى كينونة الضياع في ذات الخلق التائهة ، الموت يتناسل و يتقطر خلف قرى النسيان الممزوج بطين الرب و صلصاله المرن ,ويبقى في هذا الزمن الرديء أن تكتب حرفا وتدشّن كلاما على مساحة الحب ,هو قيمتنا الوجودية أمام الهزيمة.
كتاب ميلينا يُقرَأ بهدوء وهمس ،هو ليس شعر منابر ، إنه تميمة حب تضعه تحت وسادتك ثم تخرجه لتقرأ بحميمية شغف العاشق المهزوم المكسور بدلالة النص .