-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

هل يشقى الإنسان لأنّه يفكّر، أم أنّه يفكّر لأنّه يشقى؟



زكريا إبراهيم


لقد كان أفلاطون يقول أن أكثر الناس يسيرون نيّاماً ، في حين أن الفيلسوف وحده هو الرجل المتيقظ ، إن لم نقل أنه أكثر المخلوقات وعياً و تيقظاً. وليس "التأمل الفلسفي" في أصله سوى ضرب من ضروب "الدهشة الأليمة" التي تطرُق عقل الإنسان وقلبه ، حينما يتحقق من أن العالم ليس حقيقة منسجمة متوافقة ، وأن القيم ليست قوى متحابَّة متآلفة ، وأن الفكر والوجود لا يمثلان حقيقة واحدة متطابقة. ومن هنا فقد يصح القول: إن ما يدفع بالموجود البشري إلى التفكير والتفلسف ؛ هو إدراكه لما في الوجود من شقاء ، وألم ، وفشل ، وإخفاق ، وشر أخلاقي.

والحق أن ما يخلع على الدهشة الفلسفية كل قيمتها و حِدَّتها إنما هو "الشر الأخلاقي" والآلام الكثيرة التي تحفل بها الحياة ، والفناء الذي ينتظرنا في نهاية المطاف.

وليس ثمة إنسان لم تقلقه يوماً مشكلة الشر ، فإن الموجود الذي ينشد السعادة بطبعه؛ ما كان ليأخذ الألم على أنه واقعة محضة أو ضرورة لا محيص عنها! وحسبنا أن نرجع إلى تاريخ البشرية في كل زمان ومكان ، حتى نتحقق من أن هذه المشكلة الفلسفية الكبرى قد أثارت لدى الإنسان قلقاً عنيفاً لم تنجح شتى النزعات التفاؤلية أو الإيقانية في تخفيف حِدَّته ، والواقع أننا نتساءل لماذا كان العالم حافلاً بكل تلك الشرور؟

إن الإنسان إذن لا يشقى لأنه يفكِّر ، بل هو يفكِّر لأنه يشقى ، ولا يتفلسف الموجود البشري لأنه يشقى ويتألم فحسب ، بل هو يتفلسف أيضاً لأنه يملُّ و يسأم. فكل واقعة نفسية عند الإنسان تمثل في مجرى الشعور على ضوء الواقعة الأخرى المقابلة لها ، فالمرض يذكرنا بالصحة ، والألم يثير في أذهاننا فكرة اللذة ، والموت يولد لدينا الرغبة في الخلود ، وهكذا. ولهذا فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأفكار السلبية : كالشَّر ، والعدم ، والفوضى ، والفناء ، وغيرها ، هي الأصل في نشأة التفكير الفلسفي. أليس شقاء الضمير البشري هو السر في تفَتُق ذهن الإنسان عن النظريات الأخلاقية والتأملات المثالية؟

أليست تعاسة الوجود البشري هي الأصل في شتى مبدعات الروح الإنسانية من فنون وعلوم وفلسفات ومؤسسات اجتماعية؟ وإذن أفلا يحق لنا أن نقول أن الإنسان يفكر لأنه يقلق ، ويفشل ، ويمرض ، ويتألم ، ويشقى ، ويدرك أن وجوده قد حِيكَ من نسيج الفناء ، ويعرف أنه لا محالة ذائق الموت؟ وبعبارة أخرى : ألا يمكن القول أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفكر ويبحث ويتفلسف ويفحص ذاته وينقد حياته ، لأنه الحيوان الوحيد الذي يعاني الشر ، والهمّ ، والقلق ، والجزع ، والخوف من الموت؟

تعديل المشاركة Reactions:
هل يشقى الإنسان لأنّه يفكّر، أم أنّه يفكّر لأنّه يشقى؟

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة