مايكل ماهر
رؤية تاريخية لحياة وأفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
في السنوات القليلة الماضية أصبح فريدريك نيتشه من أكثر الفلاسفة الذين ذاع سيطهم على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بين الشباب والمراهقين، لما يقدمه من رؤية ثورية مغايرة للأخلاق والمفاهيم التقليدية للخير والشر، ولأسلوبه الناعم الجذاب وكلماته القوية الدقيقة الواضحة، وهذا ما يتناسب مع طبيعة فترة الشباب والمراهقة.
من هو فريدريك نيتشه ؟
ولد الطفل فريدريك فيلهيلم نيتشه عام 1844 لأب يعمل كرجل دين وكان معظم أجداده من أبيه وأمه يعملون كرجال دين أيضًا، نشأ نشأة ورعة في ظل أسرة مسيحية متدينة تحافظ على التقاليد المسيحية، وكان يتميز في صغره بعذوبة صوته في إنشاد الترانيم والألحان الدينية، فكان يتجمع حوله الأطفال في الكنيسة أيام الآحاد لينصتوا لصوته الجميل في أداء الأناشيد الدينية، وكان يلقّب بين زملائه في المدرسة بالقس الصغير وكان يُتوقع له أن يسلك نفس مسلك والده وجده وأن يصبح قسيسًا، ولكن سرعان ما تغير كل هذا وانقلب رأسًا على عقب.
في الثالثة والعشرين من عمره التحق بالجندية رغم أنه كان يأمل في أن ينال عفوًا من التجنيد بسبب ضعف نظره وأنه الابن الوحيد لأمه الأرملة ولكن لم تعفُ عنه الدولة آنذاك، وسرعان ما ترك التجنيد بعفو طبي بسبب سقوطه من على حصان وإصابته بإصابات بالغة في الصدر مما حال بينه وبين إكمال فترته في الجيش. لقد كان ضليعًا في فقه اللغة والأدب الكلاسيكي فعُرض عليه درجة الأستاذية في فقه اللغة من جامعة بازل قبل أن ينال درجته الجامعية وقد قبلها وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
شوبنهاور معلمًا:
كان نيتشه قد فقد إيمانه بإله آبائه وبدأ في البحث عن إله جديد في مستهل حياته، وقد وقع في يده تحفة شوبنهاور “العالم كإرادة وفكرة” وعندها بدأت تتكون أفكاره وتتبلور في شكل فلسفة، ويقول نيتشه عن هذا الكتاب “إني ولأول مرة أرى العالم بهذا الوضوح”، ويصف مدى تأثّره بأفكار شوبنهاور بقوله “لقد شعرت وكأن شوبنهاور يكتب لي خصيصًا، شعرت وكأنه جالس أمامي ويحادثني وجهًا لوجه”، كان شوبنهاور هو الشرارة التي أشعلت في نيتشه ولعه بالإرادة ومعرفة قدرها الحقيقي وجعلها هي الأساس الذي انطلق منه لتأسيس نظرته عن العالم، وكان هو أيضًا الناقوس الذي أعلن عن الحرب التي سيشنها نيتشه على الأخلاق بمفهومها التقليدي لاحقًا.
نيتشه والمرأة:
لم يبتعد نيتشه كثيرًا عن رأي معلمه آرثر شوبنهاور في النساء، فكان شوبنهاور يرى أن المرأة ما هي إلا فخ نصبته الطبيعة من أجل استمرار إنفاذ إرادة الحياة على الجنس البشري عن طريق التناسل، فالمرأة كل مبتغاها النهائي هو أن تصبح أمًا بحسب شوبنهاور، وتعيش حياتها من أجل إغواء الرجل لدفعه للتكاثر ومن ثم استمرار الحياة، لم يبتعد نيتشه كثيرًا عن هذا بل بالغ في احتقار المرأة والتقليل من شأنها، وأعلن عن هذا بمنتهى الوضوح في كتابه الأشبه بالكتب الدينية من حيث الصياغة وانتقاء الكلمات هكذا تكلم زرادشت في قوله “عندما تذهب لمقابلة امرأة لا تنسَ السوط”، فقد رأي أن الرجال يرغبون في النساء من أجل طلب اللذة وليس أكثر من ذلك، ولو كان هناك كائن أكثر رقة من النساء لطلبه الرجال بدلًا من النساء.
وتساءل نيتشه عن نوع التوافق الذي يمكن أن ينتج بين عقل الرجل الميال للحروب والنزاعات والقتال وعقل المرأة الذي لا يوجد فيه سوى المزاح والرقص واللهو، وأن المرأة على الدوام لم تكن إلا بهجة لنفس الرجل المتوترة، ويزيد على ذلك فيُثني نيتشه على الرؤية الكلاسيكية الشرقية للمرأة ويقول: “علينا أن نتخذ المرأة كمتاع كما يفعل الشرقيون”، ويختتم بقوله الأشهر عن المرأة وهو “المرأة هي خطيئة الرب الثانية” في إشارة قوية عن نفوره من النساء واحتقاره الشديد لهم، وأيضًا على سخطه الأنطولوجي من الرب، ويجب أن نذكر في ذلك الصدد علاقته النسائية الوحيدة الأشهر في تاريخ الفلسفة على الأرجح مع لو سالومي تلك الفتاة العشرينية الروسية الجميلة التي أحبها نيتشه حبًا جمًا وطلب منها الزواج عدة مرات ولكنها رفضت جميعها، واقتصرت علاقاته النسائية على قصة الحب الفاشلة تلك، وعلاقته العائلية الطبيعية مع أمه وأخته.
نيتشه والمسيحية:
لم تَسْلم المسيحية من مطرقة نيتشه الثقيلة في النقد، فالتفت نيتشه لتفنيد المسيحية تفنيدًا صارمًا وبحث في جذورها بحثًا أركيولوجيًا دقيقًا، فرأى نيتشه أن المسيحية نشأت في مجتمع تسوده القوة الرومانية الجامحة، وكانت الأخلاق الرومانية آنذاك تمثل المعيار الخيّر للأخلاق، القوة والجموح والعنفوان وأخلاق الأبطال كانت تمثل القيم الخيّرة في المجتمع، وعكسها بالطبع ما كان يمثل الشر، ولكن ما أن نشأت المسيحية بين طبقة اليهود المُحتلّين المغلوبين على أمرهم بدأت في قلب مفاهيم الخير والشر، بدأت في اعتبار أن القوة بكل مفرداتها هو ما يمثل الشر بعينه وعلى الإنسان أن يتجنبه بل ويخجل من الانتساب إليه، ثم بدأت في الإعلاء من قيمة ما يمثل النقيض وهي أخلاق العبيد كما سماها نيتشه في مصطلحه الشهير، الأخلاق التي تدعو لنبذ إرادة القوة والشهوات واحتقار الغريزة والتقليل من كل ما يتأتى عن القوة وهذا ما كان يراه نيتشه ما يمثل الخير للإنسان.
أتت المسيحية حتى تصنف تلك القيم على أنها شرور يجب على الإنسان الابتعاد عنها، وفسر نيتشه ذلك بأنه كان بسبب ضعف اليهود وعدم قدرتهم على مجاراة الأخلاق الرومانية فكانت النتيجة هي قلب القيم في صالح الأخلاق التي ينتسبون إليها، ويقول نيتشه عن المسيحية “إنها كالمرض قادرة على تحويل أقوى الأبطال إلى عبد جبان عن طريق إخماد إرادته وتحويلها إلى احتقار لذاته”.
العدمية كأفق:
كثيرًا ما يتم فهم نيتشه على أنه فيلسوف عدمي، ولكن هذا في الواقع من أكثر المفاهيم الخاطئة الشائعة عن نيتشه، ولكن قبل أن نوضح ما هو الصحيح علينا في البداية أن نفهم ما هي العدمية بحسب نيتشه..يصنف نيتشه العدمية إلى
أربعة تصنيفات أساسية؛
أولًا : العدمية السالبة
وهي العدمية التي تنكر قيمة الحياة وقيمة الإرادة وتحتقر اللذات والشهوات وكل ما هو إنساني وبشري في سبيل قوة مفارقة متعالية، ويمكن أن يتمثل ذلك النوع من العدمية في الأخلاق المسيحية.
ثانيًا : العدمية الارتكاسية
ويمكن أن نقول إن ذلك النوع هو نقيض النوع الأول، فيرى نيتشه أن تلك العدمية تنكر وجود أي قيم مفارقة أو متعالية، وتعوض عنها بالقيم الوضعية في مغالاة شديدة لاحترامها بل والتضحية في سبيلها، وقد أسمى نيتشه تلك الحالة “بالإنسانية المفرطة في إنسانيتها” ويمكن أن نرى ذلك النوع في قيم فترة الحداثة والتنوير في حقبة ما بعد الثورة الفرنسية.
ثالثًا : العدمية السلبية
ذلك النوع من العدمية هو الذي ينكر الوجود مفارقًا كان أو محايثًا، ذلك النوع يُفهم جيدًا حين يتم فهم المعنيين السابقين فالأول ينكر القيم الأرضية في سبيل قيم مفارقة والثاني ينكر القيم المفارقة في سبيل قيم أرضية، ولكن العدمية السلبية تنكر الوجود بكل صفاته، تنكر القيم المفارقة والمحايثة معًا، تقول إن الإنسان وحيدٌ ولا جدوى من أي شيء وأنه ليس عليه إلا الهدوء وأن عدم الإرادة هي أفضل من إرادة العدم، ويلقب نيتشه هذا العدمي “بالإنسان الأخير”، الإنسان الذي أدرك زيف القيم المفارقة والمحايثة معًا ولكنه غير قادر على إنتاج قيم جديدة، ويمكن أن نعتبر هذا الرأي من المرات التي نقد فيها نيتشه معلمه شوبنهاور نقدًا مباشرًا، فحتى شوبنهاور الذي كتب نيتشه فيه كتابًا بعنوان “شوبنهاور معلمًا” يذكر فيه مدى تأثيره على أفكاره لم يسلم من هراوة نيتشه الطائشة.
رابعًا : العدمية الفاعلة
وهذا النوع من العدمية الذي يعلن نيتشه عن انتمائه إليه بمنتهى الفخر، فيقول عن نفسه أنه أكبر عدمي في أوروبا، ويصف نفسه بأنه “عاش العدمية وذاقها وشعر بمرارتها وأحس بها من فوقه ومن تحته وعلى جانبيه”، ذلك النوع الذي يرى العدمية ليس نموذجًا من القيم يجب على الإنسان الالتزام به، وليس رؤية منهجية للوجود على أساس مفارق كان أو محايث، ولا حتى تخلٍّ عن الإرادة، ولكن هي رؤية لاتخاذ الإرادة كبديل عن كل هذا من أجل تجاوز العدمية، فيقول مارتن هايدجر عن نيتشه إن كل مشروعه الفلسفي كان قائمًا على تفنيد العدمية تفنيدًا صارمًا من أجل تجاوزها، ويصف هايدجر أن هذا كان أهم حدث في تاريخ أوروبا الحديث.
مرضه ووفاته :
في أواخر أيامه بدأ نيتشه في فقدان بصره حتى اقترب من العمى، وكان يعيش حياة صعبة مليئة بأوهام العظمة والاضطهاد، وهذا ما دفعه إلى كتابة “ربما أنا أعلم أكثر من غيري لماذا الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك، لأنه وحده الذي يتألم أشد الألم مما دفعه إلى اختراع الضحك”، حتى جاءته الضربة القاضية في تورينو بإيطاليا حين بدأ يتخبط في غرفته ويهزي كالمجانين فأرسلوه إلى مصحة نفسية، ولكن سرعان ما جاءت أخته لتأخذه ليعيش معها، وأخيرًا استطاع العيش حياة هادئة بعيدًا عن آلام الحياة والعقل بعد أن تخلص من العقل نفسه وأَرْدَاه البحث عن المعرفة مجنونًا، ويذكر أنه في نهاية أيامه سمع أخته تتحدث عن الكتب، فأضاء وجهه المريض الشاحب وابتسم ابتسامة بريئة وقال لها “آه، أنا أيضًا كتبت كتبًا جيدة يومًا ما”، وتوفى نيتشه في أغسطس من عام 1900.
وفي النهاية أحب أن أذكر بعض ما كُتب عن نيتشه فيقول ويل ديورانت المؤرخ الشهير: “لا نجد عبقريًا دفع ثمنًا لعبقريته ما دفعه نيشته”، ويقول إيميل فاكيه عضو المجمع العلمي الفرنسي: “ما من مفكر أشد إخلاصًا من نيتشه، إذ لم يصل أحد قبله ما وصل إليه وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من الاصطدام بالفجائع في قراراتها أو انتهائه إلى لا شيء”.
نقل عن موقع المحطة