recent
جديدنا

شاعر خلال ساعات

الصفحة الرئيسية

 


ماجد ع محمّد

 

«وكيف لبعض الشعراء، أن يكتبوا وينشروا يومياً، بمعدّل قصيدة، ومرات قصيدتين، وأحياناً ثلاث قصائد وأكثر؟» إدريس سالم

 

من شبه المؤكد أن مدى التأويلات سيكون مفتوحاً للغاية وعلى الأغلب سيكون منشطراً كلما بالغ صاحب النص في إغلاقه، وهنا ربما تُغتفر حتى أغرب التأويلات التي تصل حدود الشطح والمجازفة في التخمين والتصورات. بينما يكون التأويل بحق موضع الشك وربما السخرية عندما يقوم أحدهم بتحوير النص الواضحِ الشفافِ وأخذه إلى أماكن لا يحبها لا النص ولا صاحبه، أو اختلاق تفسيرات لا علاقة لها لا بالمكتوب ولا بالكاتب.

وحيال هذا التداخل يرى البعض بأن الفضاءات الإلكترونية المتاحة للجميع، وظاهرة ترك الأبواب مفتوحة أمام كل المدونات، أعطت الفرصة في عالم الكتابة لأي شخصٍ يجيد القراءة والكتابة، بأن يتصدى للنصوص الإبداعية ومقاربتها بإمكانيات محدودة وأدوات فقيرة لا تقدر على مواكبة النص الطائر على أجنحة التخيُلات العابرة للحدود، وقد يبالغ غيره فيقول إن بعضهم نتيجة شُحّ الخبرة وعوز الرصيد المعرفي يصعب عليهم التمييز بين الواضح والغامض، بين الواقعي والمتخيل، بين المحسوس الملامَس وبين المتصور المتكهن، وهنا تكمن الإشكالية التي نحن بصددها؛ إذ بأي حق أو بصيغة أخرى من أين لذلك الشخص الجرأة للارتماء في المحيط بينما واقعياً لا قدرة له على الاقتراب من الشط الرملي البسيط، كحال مَن يود خوض معركةٍ حقيقية في الجبهة الخطرة بينما عملياً هو غير قادر على منازلة شخصٍ هزيلٍ بأسهل الأسلحة وأقلها كلفةً وتأثيراً؟

بل وهنالك مَن يُقوِّلون الكاتب ما لم يقله، وما لم يدرِ البتة في خَلَدِهِ، كمَن تناول أعمال هذا المؤلف أو ذاك المبدع في إطار النقد، حيث أنه من فيض التشطيح أتى بأشياء من لدنه إلى درجة الاختلاق الخارق الحارق، وإضافة بهاراتٍ لم يستخدمها في مادته الإبداعية صاحب المحتوى نفسه ولا سمع بها إلاَّ بعد أن قرأ ما كتبه أحدهم عن نصه.

ولماذا الاستغراب مما كُتب عن هذا المنتج الإبداعي أو ذاك بتلك الصيغة؟ بينما التجربة الشخصية حاضرة بكامل حلتها أمامي الآن، إذ نُشر لي يوماً  في أحد المواقع الإلكترونية نصاً أدبياً يتألف من بضعة أسطر، وكنتُ قد شاركتُ النص وقتذاك على صفحتي في وسائل التواصل الاجتماعي، وإذ بي أقرأ تعليقات لا بأس بها على النص، فيما الغريب هو أن الكثير منها لم تكن تمت للنص المنشور بصلة، إنما لعل النص رمى بصاحب التعليق بعيداً جداً، فراح يكتب عما يجول بخاطره هو، ما يفكر به هو، ما يقلقه هو، ما يريد قوله منذ زمن ولكن لم يجد مكتوبه الفرصة السانحة للاندلاق إلا عندما رميتُ بحيرته الساكنة بصنارتي تلك، أي أن منشوري حرَّضه لا ليكتب عنه، إنما ليكتب عما ينشغل به، ما يمثله بالذات ويعبر عنه هو، وليس للمكتوب الأخيرِ أيَّ علاقة بالنص الذي تسبَّب بتفتق مواجعه وتفجير قريحته.

 

«التصوف آتٍ من الصفاء، والصوفي هو مَن صفا قلبه!». عبد القادر الجيلاني

 

وبخصوص الوصف أو التعريف بفئة أو بمصطلح ما تعودنا في أن يأتي بعض المشتغلين في حقل الثقافة بتعريفات غريبة تميل للتنظير الصرف، وليس لتهوين الأمر وتفكيك المعقَّد من خلال  التسمية الميسرة أو الوصف المفهوم أو التعبير السهل، إذ تراه يجلب أو يستقدم مجموعةَ كلماتٍ متنافرة تم حبسها وحشرها في كبسولةٍ واحدة للإيحاء بسعة علم القائل، ومنها مثلاً قد يقول لك أحدهم بأن الصوفي هو من قبر المحظورات في ناووس الشهوة وكبح لجام المسموحات حتى تتساوى لديه الممنوعات والمرغوبات في قيامة الذات، فيأتي آخر ويقول هو من تدرع بصوفٍ لم يتداخل بياضه السواد من فرط الحرص لدى صاحبه الذي مدّ بساط عمره كالصراط بين السواد والبياض، ولم يسمح لها الاختلاط حتى فنائه، ومن سيقول بأنه الذي ربط المشتهيات وراح يُكمل الفرجة على ما سيحدث للمربوط برسن الإرادة حتى يبلغ ذروة النشوة على ما صنع بعضه حتى يُرضى المسؤول عن كله، بينما بعيداً عن كل هذا التحاذق المفترض يأتي أحد العارفين بخلجات تلك الفئة من الناس، والعالِم بأحوالهم، ألا وهو عبد القادر الجيلاني، فيقدم عن الصوفي تعريفاً بسيطاً جداً يفهم مما خطّهُ الكيلاني كل من الجاهل والعاقل حيث يقول: «التصوف آتٍ من الصفاء، والصوفي هو مَن صفا قلبه!».

أما قصة كيف يصبح المرء شاعراً خلال ساعاتٍ قليلة؟ فكانت نتاج سؤال الشاعر الكوردي السوري إدريس سالم في (26.06.2025) عن ماهية الشعر، وكيف لبعض الشعراء، أن يكتبوا وينشروا يومياً، بمعدّل قصيدة، ومرات قصيدتين، وأحياناً ثلاث قصائد وأكثر؟ وهو ما ذكَّرني برسالة عن كينونة الشعر، كانت موجهة من قِبلي إلى الزميل أبو تيم في (10.11.2016) أقول فيها: «بعضهم يظن بأن الشعر خالٍ من الموضوع أو الفكر أو الموقف أو الرسالة، وأنه محصور فقط بالصور الشعرية، لذا بناءً على طلبهم سنكتفي بعرض بعض الصور الشعرية التي ألَّفتها سريالياً على عجل وقتذاك، وهي لا ترمي إلى شيء، ولا تبعث برسائل معينة عبر الكلمات المتراصة، ولا هدف محدَّد لتلك الفقرات، ولا تقصد الجمل شيئاً بعينه:

جيشٌ من النمل الأصفر يُغادر بهدوءٍ شرياني الأبهر

ومِن هول حوافر الفَرسِ يفر الفأر من أوردتي

يدوس الطائشُ على أحشائيَ بعنفِ جاموسٍ يطارده تمساح

غرٌ يذبح الحنانَ على عتبة الكتيبة

كرمى اقتناص الابتسامة من فوهة الضابط. وهكذا إلى آخره...

وإذا ما كانت القصيدة حسب تصور البعض أنها فقط مجموعة من الصور الشعرية التي تلاحق بعضها بعضاً كسربٍ من البقع اللونية المنتشرة بلا أيَّ اتفاقٍ على الصفحة البيضاء، فبإمكان واحدنا وقتها أن يغدو شاعراً غزيراً خلال ساعات، وربما أبدأُ حينها كواحدٍ منهم بوضع دواويني، ديواناً إثرَ ديوان، على الرف حتى أُلفت نظر الزوُّار بها، بينما في الحقيقة فمن صعوبة المكوث في جحيم الشعرية، فإنني منذ ثلاث سنوات لم أستطع كتابة عشر قصائد جديرة بالبقاء بين مكدساتي الورقية والإلكترونية.

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent