صدرت
رواية اختبار الحواس للكاتب علي عبد الله سعيد، عن دار تكوين، في دمشق 2019م, لا
أدري كم عدد الصفحات في الطباعة, لكن ما بين يدي من نسخة الـ " PDF" 224 صفحة, وتناولي
لهذه الرواية هو بمثابة قراءة وانطباع أكثر مما هو دراسة، لسبر أغوار النص
والكاتب.
يستهلّ
علي عبد الله سعيد روايته بمقتطف موجع من ابن خلدون «طور
الفراغ والدعة لتحصي ثمرات الملك وتخليد الأثر بعد الصيت وتشييد المباني المرتفعة واعتراض
جنوده... وأدرار أرزاقهم، وهذا الطور آخر أطوار الاستبداد».
وهذا
ما يقودنا إلى أننا حتماً سنعرّج في الصفحات الأولى إلى محطات موجعة تحاكي استشهاده
بابن خلدون، في البداية كانت المشرحة حيث يتخيل الروائي حجم الميت بقياسات كبيرة،
قبل رؤيته، لكنه يتفاجئ بأنه وقدره الغبيّان يتفقان على تلك التخيلات.
في
الصفحة الثامنة «أنني
وقدره أغبياء إلى درجة لا تصدق، كيف قدر لنا، أنا بقوة تخيلاتي، وهو بخلقه لكائن
من هذا الطراز العجيب؟».
كأن
الأرواح تطول وتطول لتتوحد بالظلام والنور وتلك الجثث المحنطة منذ عشرات السنين،
يفتح الباب على مصراعيه لملَكة التخيل، ويصب خمرته الأزلية لك، حيث يصبح العشق
عبادة في اللازمان واللامكان كإله واحد أحد لا شريك له. في هذا التناقض يصل إلى اقتراحاته
المذهلة، أن يخلق الأبطال مساحات أكبر للجثث الكبيرة ويقارنها كيف أننا لا نحترم
قتلانا كما نحترم قادتنا, في هذه المقارنة شيء صارخ داخلي يرفض ما آلت إليه الأمور
في جغرافية ملعونة تحكمها الخصى والجزم العسكرية.
بينما
في الصفحة الرابعة والعشرين يقود حواراً متأنقاً بعناية بين مجانين يذهبون ويجيئون
في كاريدور أفكاره، تدور الأحداث بداية في مصحّ عقلي, ربما هذا المصحّ هو الوطن
الذي بات كل شيء فيه يؤرقه كما يقول علي سعيد, في الدولة السافلة يحدث كل ما لا
يخطر في بالك، بعد ذلك يأخذنا إلى أماكن أخرى أكثر ضبابية ومشوهة.
«لا
يهمنا التعليق. لا تعليق... بدون تعليق.. الجميع. هم مَن سيأكلهم الماضي، دون شفقة
يا بني. الحماقات.. الحماقات، الزنابق البيضاء، الأطباء، السراخس, الذين يرفعون شارة
النصر على شاشة التلفزة, أي.. الذين يعتقدون أنهم أصبحوا أعظم من عظماء التاريخ الغابر،
قادة ألوية الصواريخ، قادة الكتائب والسرايا المقاتلة، القوّادات، والقادة الشرفاء،
والمجانين، على حد سواء. كلهم.. كلهم.. سيأكلهم الماضي دون أن يتذكرهم أحد».
علي
عبد الله سعيد يجمع بين كل هذه الإرهاصات واللغة الساقطة كأمطار ربيعية، إلى الآن
لا نعرف الشخصيات سوى السارد الذي يروي, مساعد الدكتور والممرضة التي هي على هيئة
حمامة سلام منسوفة، والدكتور موريس, كلهم يفتقرون إلى الملامح، إلا تلك الجثة
الكبيرة التي أخذت حجماً أسطورياً كالنبي هابيل الذي لا تسعه سيارات الحمل ويتزين
بسبع أكفان، لا أعلم هل تعمد علي الرقم سبعة الذي يتكرر في روحانية الشرق واللاهوت،
كالدوران حول الكعبة والطلاق وألوان الطيف،
والسموات السبع ، والعجائب السبع، أم سقط الرقم سهواً ولا شيء يسقط عند علي سهواً،
إلى الآن لم نستدل إلى غايته، الزمن في هذه الرواية زئبقي ومرن ما بين الدقائق
والأشهر والسنوات، أقصد الزمن التفاعلي لتراتبية الأحداث، لا يوليه الأهمية.
لكن
أن يرمز إلى الشتائم والكلمات البذيئة لموريس الذي أرغمه على البقاء خارج إرادته
في المصح إلى نقاط وفراغات, فهذا يثبت لنا أن الكاتب على الرغم من إحراقه كل
القناعات الموروثة, وأنه ما زال يسيطر عليه الخجل.
في
الصفحة السادسة والعشرين يقول: «أن
بعض الممرضات يذهبن إلى ... إلى ... إلى... الفراغات، النقط الفارغة، تعني لغة سوقية،
لغة بذيئة، يتكلمها الدكتور، وتنال من كرامة وشرف الممرضات اللواتي يتهربن من خدمتهن
الإنسانية للمرضى بشكل سيء.. رديء.. سافل جداً».
اليميني
المتطرف واليساري المتطرف يحلقون لهم شعورهم الأيدلوجية والفكرية، هو يغوص إلى عمق
الممارسات الديكتاتورية للحكومة ولا يأتي عبثاً باسم موسكو ونيويورك, يستند على
الرمزية والإسقاطات في زمن الحرب الباردة بين القطبين الاشتراكي والرأسمالي، إذ أن
الرواية كتبت في بداية الثمانينات، انتماء الشخصيات الضبابية إلى بلدان أخرى موسكو,
شيكاغو، شغالة من هونغ كونغ, كلها جاءت حسب الانحياز الفكري والقوقعة التي كانت
موجودة آنذاك، يتوه القارئ في المكان ويتعثر بالزمن, هل هو في نيويورك أم في إحدى
مدن الشرق اللعين؟!
وقبل
تعرفنا إلى كريستين نتعرف ببضع جمل بشأن الحوَل في عيني الدكتور موريس، وطوله
ونمرة حذائه الكبيرة، وعينيه الزرقاوين وأنفه الخرطومي ودبلومه الذي يشوبه
المصداقية من كل كليات العالم بتقدير وسط وما تحت الوسط، إلى هذه الصفحات ما زال
المكان ضباباً بلا ملامح، لا نعلم سوى عن الكريدور والنافذة في مكتبه وهو يرمي بالمنفضة،
ثم ينظر إلى رمال الصحراء ورعاة البدو, كل هذا لم يأتِ عبثاً إنما بدراية، التحالفات
التي تربط تلك الدول الصحراوية مع القطب السائد المتمثل في الرأسمالية، والمطار
الحربي الذي تقلع منه الطائرات وتحط.
الصفحة
مائة وإحدى عشر «في
الجلسات العائلية، والاجتماعية، والسياسية، التي يحدد على ضوئها ويرسم على هداها الخطط
الخماسية والسداسية والعشارية والربع أو النصف قرنية، وهو بذلك يريد أن يبرهن للجميع
على أنه واحد أحد، فرد صمد دوماً وأبداً../ ولد كي يبقي ما بقي شيء اسمه الوطن».
لموريس
الدكتور أو الدكتاتور أسلوب ومهارة تفوق العقول العادية, يستأصل المخ, المخيخ والبصلة
السياسية, يتدخل في شأن الخالق ويكتشف عيوب الخلق في الأعضاء البشرية، يتعامل معها
كأمراض خبيثة ووباء, وموتوسيكل القيادة المسروق، هو السلطة الضائعة بين ردهات
الحديقة والكراج.
هناك
في القلب ما تزال شعلة مقدسة تحرق الظلام، يمضي إليها حتى النسغ الأخير وما زالت
كريستين تمزق ستائر الذاكرة رغم مضي الصفحات إلى أتون التفاعل السردي، إلى موته الأصفر,
ما زال علي عبد الله يتسول الفارق بين التبرج والحشمة ورائحة الكلمات والإيمان والإلحاد،
التي ما زالت عالقة بأنف الأيام تستنشق حكايات البوح والفراق، يطفأ قناديل الفرح وأي
كلمات ينقشها على ضريح الوقت الصاعد إلى حتفه مع الأحداث، بالكاد / تلاشى البكاء، العواء،
والإغاثات.
الصفحة
مائة وست وسبعين «والمشي
على الرأس، وصوت السوط، لم أتمكن من القبض على قلبي الوحيد وأصابعي الشاردة أو دموعي
السارحة, أخذني الخوف على حين غرة، وتملكني، ثم بددني كحفنة من رمل بارد على عواصف
الخليقة العادلة».
والمكان
ليس مصح إنما معتقل سياسي لإخصاء المعارضين وتدجين الموالين لقوانين صارمة صادرة
لضبط وتربية أبناء الشر, السوط للحيوانات المعارضين فقط حيث تمتثل الضحية لتلَقّي
الأوامر ويتعمد الراوي إلى عدم إظهار ملامح الجلاد لكي لا يتساوى الجلاد والضحية،
هو خصم وعدو بلا ملامح, حتى الزنزانة أقل طولاً من طول السجين المريض – المتعافي
والعاقل – وشمال الوقت وجنوب المسافات, ومن ثم يبكي, فقد سبق وبكى علي نهراً
وملوحة جنون لأنه لم يجد من يفهمه؟ هكذا يحدثنا، لتتحدث عمن له صومعة ما للحب، إن
لم نتوحد لنا، بنا، معا، الله أوجد كل هذه الكمية من الكره فينا ,الصراصير والكلاب
والجثث والزرقة في قبضة الله, ما القتلة خلف الباب أمام الأعين وأمام هلام، هلام
في المصح، قلب المرأة كريستين, الحرب الخراب، سيراً على خطى القرف الذي أوجدوه لنا،
لا شيء ينقذك منك سوى سكارى وحانة، الجليد العرّاب، یتزین بالأنقاض والجثث.
ويمسك
قرني القمر ويزّرع الجثث هنا وهناك,أي عدل للإله في الخلق؟ الخنازير, سفّاكة الدم
والقيح ينز من وجنتي الجمال والقبور صارمة وباردة ورخوة، الحلزون في مسيرة الملح الرخوة،
بكلمات بلغت حدّ التقزز بها كان الكاتب يسرد الوقائع.
هل
اختيار أسماء أيوب ويوسف جاء عن عبث, لا عبث أو اعتباط في هذه الرواية, أيوب مات
ربما بمعنى أن الصبر مات والجمال في يوسف عطب وتشوه بعد موته, يقول الدكتور في الصفحة
مائة وسبع وتسعين «هي
ليست ذنوبي وحدي، إنها ذنوب الأهل الذين أرسلوها معي إلى الحرش لقطف نبات أخضر كعلف
يومي للحيوانات بدلا من التبن. ليست ذنوب كل الأهل، إنما ذنب أمها التي كنت أريدها
في ذاك اليوم،أكد لها بأنه رآها تحتي أكثر من مرة وهي تفح».
ذاك
اليوم أيوب المريض مات ولم يمت, عموما ليس للرواية فصول إنما تسقط كماء شلال من الأعلى إلى الأسفل,
تفتت صخوراً، تقلع أشجاراً وحيوات.
الصفحة
219 «ليس
من حاجة بعد الآن إلى نصب أعشاش العنكبوت في الزوايا
-
أعرف
أن الجميع سقطوا في الكمائن.
-
ما
زلت تجيد بعض الفذلكات الكلامية.
-
الظلام
لا يعمي البصيرة.
-
لكن
الحواس تموت.
-
في
الحر نتحمل القر.
-
وفي
القر؟
-
نسافر
إلى الجنة».
في
النهاية يبدأ الدكتور بشواء مساعده ومقربيه ومضغهم كما أي دكتاتور , وعندما يفوز
بالسلطة يطلق العنان لبطشه ويكنس رفاق دربه من أمامه كأي قمامة.
في
آخر صفحة في الرواية «أيها
الحراس الملاعين الأوفياء:
اطبخوا
لي مساعدي.. قلّبوه حتى يحمر مع الثوم والبصل والنبيذ الفرنسي الأبيض».
يجد
الكاتب له صدى في حرب لم يخضها, ولحب لم يعشه،
لوطن مات في قلبه الصغير إلى الأبد، إلى الفتاة عيوش، المختار، أيوب، الدكتور أوجدهم
بخطأ مدروس لتكرار عبثهم، هؤلاء الشخوص ابتعدوا عن أرواحهم الحقيقة كشجرة جوز لا
تحمل الرمان مهما تطاول وتحايل عليه التطعيم، والحق بأشكاله المتماوجة وسر الخلود
يكمن في هذا القوم، هناك بين الأوراق يسيل حبر المعنى, وهم لا يخضعون إلاّ لقانون علي, فالأرواح شفافة لا تملك عشاء الخيول
في اسطبلاتها، أنجب الراوي الولادة كسطر أسود على مساحة الورقة, حيث تفرّ الشخصيات
من أضلاع "الزمكانية" ويرتدون الخيبة في أقدامهم لينتموا إلينا كلنا
ويبكون بدموعنا ويتلقون السياط عنا.