اللوحة للفنّان السوري سعد يكن |
محمد م رمّو
في البدء لم تكن هناك ثورة، ولا حرب…، كان هناك خوف.
هو يوم العشرين من شهر
آذار لعام 2012م، لقد مضت سنة على اندلاع الحرب السوريّة المجنونة، حقيقة لم يكن
هناك وجود فعليّ للقوّات الحكومية داخل المدينة، لكن هذا لا ينفي بالطبع وجود عدد
قليل من رجالات الأمن المتغلغلين بين الناس كديدان زنخة.
شيءٌ من «كاوا» حطّم
الخوف العائش في داخله، وحرّكت الحياة المصاحبة للنوم في روحه، هو الآن نائم وشبه
صاحٍ، أو بالعكس، هلوسات صباحية مع جرعة تخدير لـ (أناه)، لا يهمّ، المهمّ أني
استطعت أن أصف الحالة على وجه التقريب.
جلس على سريره مقابل
المرآة، وتأمّل عيونه الذابلة التي ضناها النوم، تابع مسيرة لُعَابه النتن من
منطقة التدفّق إلى المصبّ عند عنقه، حكّ بقايا لحيته النابتة حديثاً، هي ليست لحية
بالمعنى نفسه، يمكننا أن نقول أنّها بضعُ شعراتٍ تتحوّل من اللون الأصفر إلى اللون
الأسود تدريجاً، كما المسخ الذي صاحب التغيّر المفاجئ لسلوك رؤساء الأفرع الأمنية،
من ضباع ناهشة إلى قطط مسعورة.
غاب عن الوعي للحظات، تدرّج بذاكرته إلى أيام صلداء...
«نوروز»[1] هو
الخلاص. يوم زوال الدكتاتوريات وبقايا تحصيناتهم الصدئة. يوم التحرّر وإشعال النار
في الشوارع والساحات. يوم العمل. يوم إبراز الهوية والانتماء الكوردي، لطالما منعه
الجميع من الاحتفاء به… المجتمع، فروع المخابرات، والده؛ وذلك لغاياته الحزبية، هو
بعثي، وما شأنه هو؟!
خرج من الباب، وعيونه
تراقب المارّين بحذر، هو يومٌ يجب أن يكون فيها حذراً إلى أبعد درجة ممكنة،
فاعتقاله قد يسبّب له متاعب ومشاكل، علماً أن الموضوع لا يحتاج كلّ هذا الحرص،
فاليوم لا يشبه الأمس.
تدرّج ببطء إلى شارع
(48)، هو شارع رئيسي يربط المدينة بقراها، ويعتبر شريان الحياة وموطئ قدمٍ للنيران
المتوقّدة في كلّ عام، عادة ما يجتمع الشبّان في الحواري الفرعية ثمّ ينطلقون
باتجاهه لنصب الشعلة.
كان «روني» يبحث عن رفاقه
الذين اتفق معهم لسرقة الإطارات من العم «أحمد المكنسياني»، الذي كان قد حاول أخذ
التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع المكروه منه، هو ليس بذاك الرجل الطمّاع الذي
يتقصّد منع الشبّان من الاستفادة من إطارات قديمة، لكنّه بالفعل يخشى على نفسه من
زيارة فروع المخابرات بعد نوروز مباشرة، فكثيراً ما تمّت دعوته بغية التحقيق معه
لتورّطه في توزيع الإطارات المستهلكة والقديمة على الأهالي لحرقها.
بانسياب بارع وخطّة محكمة تمكّن روني بمساعدة
من حوله من إشغال العم أحمد بترقيع ثقبٍ متعمّد في الإطار الأمامي لبسكليت «خالد
حم جن»[2]
لتنسلّ بقية العصابة من خلف الدكّانة وسرقة محتوياتها من إطارات قديمة، ودحرجتها
إلى «حوش»[3]
مهجور بقصد إخفاءها.
صارت الساعة الرابعة
والنصف، والليل بدأ بالفعل بسرد حكاياته المظلمة، في كلّ عامٍ ما يحدث أن قوّات
المخابرات والجيش الآتية من النواحي المحيطة بكوباني، من الشيوخ وجرابلس وصرّين
تنتشر في الشوارع والمفترقات، بعرباتها المهترئة وعناصرها المغلوبة على أمرها؛
تتصيّد النيران المرتفعة من هضبة «مشته نور» إلى «كري كانيه» إلى سوق المدينة
والقسم الغربي من المدينة، والمقصود هنا (غابة الحكومة).
ماذا لو سمحت بالفعل من
ممارسة الناس لمعتقداتهم وشعائرهم القومية والدينية؟ ماذا لو شاركت تلك العربات من
نصب شعلة كبيرة وسط المدينة، وعقد حلقات دبكة للناس هناك؟ ألم يكن الحال أفضل
بكثير من الذي يحدث الآن؟
جلب روني بمساعدة الآخرين
الإطارات، ووضعوها حذو بعدها، وبعلوّ لا بأس به، يمكن القول أن ارتفاع الإطارات قد
لامس ارتفاع برج «بيزا» إلّا تسعين متراً فقط، أو برج «إيڨل» إلاّ أمتاراً كثيرة، وفي
الحقيقة هي كانت نقطة خلاف حقيقة بين «مچو نكْ خَارْ»[4]
وخالد، مسألة التشبيهات تعتمد بشكل جوهري على خلفياتهم الكروية الإيطالية
والفرنسية.
كان الجمع بانتظار ساعة
الصفر التي كان من المفترض أن يقرّرها روني، لكن الموعد تأخّر كثيراً، فهم كانوا
قد لازموا المكان لأكثر من ساعة، وكلّ تحضيراتهم التي أخذوها منذ بدء العملية إلى
الآن بتهيئة أنفسهم للجري أمام عربات الحكومة خفّت تدريجياً، وصولاً إلى جلوسهم
عند حافّة الرصيف دون مبالاة.
كان المازوت المنسكب على
تلك الإطارات يجري على الأرض باتجاه المنحدر، وكان الجمع في حيرة من أمرهم، لقد
تأخّر موعد المراسيم هذه السنة.
–
خالد: روني!! تحرّك، ألم يحن الوقت لإشعال الإطارات، تأخّر الوقت
كثيراً، وأخشى أن يبحث أبي عنّي في غرفتي ولا يراني، هناك مشكلة كبيرة، لا يمكنك
أن تتخيّل حجم الكارثة إن حدثت بالفعل.
استشاط روني غضباً، وكان هذا الحديث بمثابة الصاعقة التي زلزلت بنيان
روني.
–
روني: يا حمار، (يا حمااااار…) متى كنّا نبدأ المراسيم قبل أن نلمح
سيارة «أبي معاذ» وشلّته؟!
في غضون عشرة دقائق،
اشتمّ روني رائحة تمرّد، ثمّة اتفاق ضمنيّ بين خالد ومچو في تسمية مجسّم الإطارات
بتمثال الحرّية، لا بيزا ولا إيڨل، أشعلوا عود كبريت، وبسرعة غريبة هبّوها في
المجسّم، ثمّ ولّوا هاربين حتّى دون مجيء سيارة الأمن.
بكى روني لهذه الخيانة
التي حدثت، كيف يمكنهم إشعال نار نوروز دون ملاحقة الأمن لهم؟ أين المتعة الناجمة
عن الجري كالأرانب أمام تلويحات عصا الأمن الجويّ؟ كيف أصبحت هذه المدينة خالية
تماماً من دخان الإطارات المحروقة في ليلٍ كهذا؟ هل تمّت سرقة الفرحة حينما وهبونا
الحرية؟!
ركلَ قارورة المازوت من
أمامه بكلّ غضب، لكنّها حقيقة لم تكن قارورة المازوت بقدر ما كانت المرآة التي كان
ينظر من خلالها إلى نفسه وهو يتأمّل ليل نوروز.
خرّت المرآة مكسورة
أمامه، فجاءته «شحاطة» أمّه، لتصيبه في المنطقة الخلفية من رأسه، يا لعجب قنصها:
– فليضربك الله،
لقد كسرت المرآة بحماقتك وهلوساتك الصباحية المجنونة. هيّا يا مجنون، إنهم ينادونك
في الخارج لتفتح الدكّانة، قالوا أنهم يريدون شموعاً؛ لينيروها في ليلة نوروز.
– «تمتم مع نفسه»: فلتذهب الإطارات إلى الجحيم.