-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

قراءة نقدية تطبيقية لرواية «التشابيه... صفحات مرويّة عن الأيام الخوالي» (2)



د. بوزيان موساوي – المغرب / خاص سبا



نستمر خلال هذا الجزء الثاني من قراءتنا النقدية لرواية "التشابيه" لداود سلمان الشويلي في مقاربة المتن عبر طرح أسئلة محورية أخرى أغلبها كما في الجزء الأول ذات طابع "إبيستمولوجي" أكثر منه نقدي – تقييمي للعمل.

·       السؤال المحوري الثالث: كيف نقرأ تصوّر الكاتب المبدع لمدخل الرواية؟
على سبيل التذكير يحيلنا عنوان الرواية "التّشابيه" على مسرحية شعبية تراثية؛ والمسرح الكلاسيكي كجنس أدبي، كان يتقيد في "مشهد العرض" (Scène d’exposition)، وهو المشهد الأول من الفصل الأول من المسرحية، بتحديد المكان والزمان، وتقديم الشخصيات الرئيسة، مع الإشارة الأولية للموضوع، وذلك احتراماً لمبدأ "الوحدات الثلاث" كما عرّفها أرسطو.

وقد سارت الرواية التقليدية على هذا المنوال كما الحال في عدة روايات عالمية وعربية، إذ يقوم الروائي في الجزء الأول من الفصل الأول من روايته (L’INCIPIT) بوصف الفضاء الرئيس في الرواية بشكل دقيق، مع تحديد الزمان (الأزمنة)، وهو ما يسميه الشكلانيون الروس مثل فلاديمير بروب "عناصر الظرف" (Les circonstants)، وتقديم الشخصيات الرئيسة برسم بورتريهاتها تدريجياً "العناصر الفاعلة" (Les actants)... ووصف "وضعية الانطلاق" (Situation initiale)، كما سماها ياكوبسون، أي وضعية ما قبل أول حدث درامي في الرواية.

في مطلع رواية "التشابيه" لعب المبدع داود سلمان الشويلي، كما على خشبة مسرح، على تقنية الأضواء ليخلق لدى القارئ التقليدي فضول اكتشاف ما يخفيه الظلام:
·       قدم الكاتب الشخصية الأولى (كما في مشهد أول) بضمير "هو" طيلة صفحة ونصف (15 و 16)، ولم يسميه (جاسم الأعور) إلا انطلاقاً من النصف الثاني من الصفحة (16)؛ وكأننا بذلك نطرق أبواب رواية من نوع آخر:
تشبه كتابات "الرواية الجديدة" أو "موت الرواية" (Le nouveau roman ou la mort du roman) كما عند آلان روب غريّي الذي تزعم تيار "اللا ـ بطل"، فـ " هو" ليس فقط "أعور" كما اسمه، بل كما وصفه:
"برزت عيناه، إحداهما ترى الظلام الذي حوله، والثانية نسيت لون الضوء من سنين طويلة..." (ص. 17).
وقد يتأكد لنا ذلك ربما من خلال تعامل الكاتب داود سلمان الشويلي مع وحدتي المكان و الزمان:
تقديم المكان:
فخلاف الكاتب بالزاك في روايته "الأب غوريو" الذي خصص 33 صفحة لوصف المكان في مطلع الرواية على سبيل المثال لا الحصر، يكتفي داود سلمان الشويلي بتغييب الأضواء عن أول مكان في الرواية: "الخصّ القصبي" (وهو كما عرفه في هوامش الرواية المخصصة للمعجم: "بناء بسيط يأوي إليه الناس من القصب و البواري")، مكان يوحي بالفقر والعوز والهشاشة والعدمية... لا نعرف أننا وسط "قرية" إلا في الصفحة (17): "فابتلعه ظلام أزقة القرية الصقيعي..."، فضاء مغمور بالظلام تحت سماء سوداء: "كانت السماء من فوق رأسه، سوداء كسخام الفانوس، وكأن النجوم الذهبية و الفضية التي تمتلأ به، قد تساقطت كلها..." (ص. 17)، هي "سماء حبلى... ستمطر برداً يجمّد الدّم في العروق.." (ص.16). وكأننا في مطلع هذه الرواية مع "اللا – بطل"، ومع "اللا – مكان": "مكان لم تتوضّح معالمه بعد.." (ص. 15)... ورغم أن عنوان القسم الأول من الرواية ("رواية الأحداث: وقائع ما حدث في المدينة") تشير مباشرة إلى أن فضاء الرواية هو "مدينة"، إلا أن القارئ يجد نفسه على طول ما يفوق 30 صفحة في رحاب "قرية" بدون اسم، إلى أن حدد الكاتب موقعها الجغرافي في الصفحة 31 لما كتب:
"كانت القرية معزولة بتل ترابي عال عن المدينة، يحاذيه نهر ماءه أسود برائحة نتنة. تنتشر فيه بعض جثث الحيوانات النافقة..."؛ وصف يقرب القارئ جغرافياً من منطقة "أبي جداحة" التي عرفها الكاتب في هوامش المعجم على أنها "منطقة غرب مدينة الناصرية فيها سدة ترابية تحيط بنهر الفرات لحماية المدينة من الفياضانات"، ونفس الدالة الوظيفية تنطبق على الزمان.

·       تحديد الزمن في مطلع الرواية:
الظلام إحدى عوالم "لا – بطل" أعور، والظلام يغطي سماء القرية وأرضها، والظلام يحول دون تحديد الزمان إلا نسبياً تمّت الإشارة إليه بالإحالة على "هلال عاشوراء".
نقرأ: "رفع رأسه إلى قبة السماء، فهاله ما رأى، إذ راحت كتل من الغيوم الداكنة الثقيلة تنتشر في المكان الذي حملقت فيه قبل ساعات مئات العيون تبحث عن هلال عاشوراء في سماء الله الواسعة، وكأنه طفل خبيث يلعب (الختيلة)، وعندما لاح لعينين من تلك العيون التي أضناها البحث، انمحى تاركا أصوات التهاليل والتكبير تملأ الفضاء". (ص. 16).

هكذا رسم الروائي داود سلمان الشويلي فضاء روايته بدءاً من مطلعها: لعبة الأضواء لاستتباب الظلام في المكان، وفي عيون الشخصية... والحدث/الزمان: ذكرى "عاشوراء".

-         السؤال المحوري الرابع: ما الغاية من توظيف رمزية "عاشوراء" كحدث روائي؟
للتذكير، يعتقد البعض أن "عاشوراء" مناسبة فرح عن "أهل السنة" من المسلمين، بينما هي ذكرى حزينة بالنسبة لأهل الشيعة. يربطها الفريق الأول بقصة "اليوم الذي نجّا الله فيه النبي موسى ومن معه من بني إسرائيل من قوم فرعون، حيث فلق النبي بعصاه البحر وتمكن من الفرار، بينما غرق فرعون وجنوده"، بينما بالنسبة للفريق الثاني، فإن عاشوراء هي ذكرى مقتل الإمام الحسين، حفيد النبي محمد من ابنته فاطمة، الذي لقي حتفه سنة 680 ميلادية، في صراع على السلطة، كان إحدى أهم نقاط الانقسام بين السُّنة والشيعة.

ويتموقع قارئ رواية "التشابيه" في فضاء "شيعي" بشكل جليّ ابتداء من الصفحة (24)، حيث نقرأ: "كانت الصورة الأولى تمثل رسماً للإمام علي بن أبي طالب (...) كان الشيخ عبد الكريم قد اقترب بفانوسه من الصورة، وراح يتملّاها وكأنه يراها لأول مرة... مردداً مع نفسه: السلام عليك يا أمير المؤمنين وعلى ابنك الحسين سيّد الشهداء...".

فضاء ديني شيعي محافظ جداً ومنغلق على نفسه، تتحكّمه عقلية الفقيه الذي بدوره يتحكم في القرارات الإدارية والسياسية الحكومية... ولعلّ من بين الأمثلة العديدة الدالة على هذه العقلية المنغلقة – الاقصائية للآخر والتي أوردها الكاتب سلمان الشويلي على طول "التشابيه"، قصة المرأة التي استقطبها "جاسم الأعور"؛ نقرأ: "كانت في الثلاثين من عمرها... سمراء، طويلة، مضمومة الجسد، يلوح على صفحة وجهها الأسمر لون مغبر، مائل للسمار المحبب. لا يعرف لا اسم سوى اللقب الذي أطلقه عليها الحاج "فريج" عندما رآها أول مرة مع "جاسم الأعور" (...) إنه الشيطان بعينه... أعوذ بالله منها ومنه. ردد الشيخ ذلك مع نفسه، وتأفف كثيراً، وأشاح بوجهه عنها، وهو يتذكر محاولاته العديدة مع الحاج "فريج" لإقناعه على ترحيل هذه المرأة الملعونة التي جاء بها "جاسم الأعور" قبل أكثر من ستة أشهر، إلّا أن محاولاته باءت بالفشل، رغم ما قدمه مع ساكني الزقاق من (عرائض) إلى أعضاء المجلس البلدي...". (ص. 39 و 40).

صراع بين معارضين لتواجد تلك المرأة باعتبارها "بلوة سوداء"، ومؤيدين لبقائها معتبرين إياها "نعمة ربانية"... وهكذا ينصرف الناس حسب قصة هذه المرأة إلى اجتماعاتهم وعرائضهم ومطالباتهم بتدخل السلطة الإدارية والسياسية الحكومية إلى أمور أخلاقية متخلفة صرفة، بدل التفكير في تغيير وضعهم الاجتماعي الهش، وإعادة تهيئة قريتهم السوداء النتنة بدءاً من السد الترابي التي تنتشر فيه جثث الحيوانات النافقة...
 

الكاتب والروائي العراقي داود سلمان الشويلي

وما استهل داود سلمان الشولي روايته "التشابيه" بصراع الظلام مع النور ("كان الضوء الخابي للفانوس يصارع كتلة الظلام الهائلة في الركن الجنوبي من (الخص)" ص. 15) إلّا كناية عن "التفكير الظلامي" المعشش في عقل ووجدان شعوبنا المتخلفة والذي يجد ضالته في قراءات خاطئة وموجّهة للخطاب الديني الإيديولوجي... الذي يركب عليه رجال السياسة في مجتمعات تتحكّكمها عقلية "الفقيه".

وقد كان داود سلمان الشويلي واضحاً في هذا السياق لما صرح في مقدمته بعنوان "تنويه" بمقولة الثالوث "الوطنية، والحكومة، والدين"، وساق في السياق شهادة المفكر المتنور فرج فودة الذي قال: "المسألة كلها باختصار أنه عندما تفلس الأحزاب ويفلس السياسيون.. يلعبون على المشاعر الدينية لأنها المدخل السريع لمشاعر الناس وليس عقولهم، و هذا الخلط بين الدين و السياسة هو الخطر...". (ص. 10).

هي أسئلة من بين أخرى كثيرة قاربنا من خلالها جوانب من رواية "التشابيه" للكاتب والناقد المبدع العراقي المكتوي بنيران الظرفية الحرجة التي يمر منها بلده العراق.. ولنا عودة في مستقبل الأيام إن شاء الله إلى جوانب أخرى...


خاص ب سبا الثقافية 
تعديل المشاركة Reactions:
قراءة نقدية تطبيقية لرواية «التشابيه... صفحات مرويّة عن الأيام الخوالي» (2)

kaya heci

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة