سربند حبيب
صدرت مؤخراً مجموعة
شعرية بعنوان »ظلال
الحروف المتعبة«، للشاعر الكوردي روني صوفي، ضمن إصدارات دار آفا للنشر، وهي
باكورة أعماله الأدبية. تقع المجموعة الشعرية في (108) صفحة من القطع الوسط، و
تتوزّع قصائدها ما بين الطول والقِصَر. تعكس صوتاً شعرياً، يسعى للبوح والانعتاق
من قيد اللغة المألوفة، عبر توظيف صور شفّافة وأخرى صعبة، تقف بين الحلم والواقع،
الحبّ والخذلان، وتضع القارئ أمام أسئلة وجودية كثيرة، ليستهلّ مجموعته بهذا
الإهداء:
إلى الأنثى التي لا
أعرفهاً.. لكنّنا نمضي معاً مثل الوقت.
أحذروا...
الذين يقرأوُن
الكُتُب دائماً ..
أن حُبهم عظيم،
وكرهِهِم بقناعة.
تعتبر مجموعة »ظلال الحروف المتعبة« رحلة ذاتية وجدانية،
ينبش روني من خلالها عن حبّ ضائع في أنين الحياة، مستخدماً لغة سلسلة غير مبتذلة، مألوفة
على سمع القارئ، وكلمات ذات دلالات، لبناء تشكيل فنّذي، يعكس صراعه الداخلي وسعيه الدؤوب،
نحو حياة تملؤها الحبّ والسلام. تنقسم المجموعة في شكلها الفنّي إلى أربعة فصول:
(الحبّ، الحمل، الإجهاض، شذرات)، لكنها تحمل في طيّاتها مواضيع كثيرة (العشق،
الولع، الأمل، التحدّي، الشوق، الحنين...، واليأس)، فهي حبلى بالمشاعر والأحاسيس.
أرجوكم
أوقفوا الريحَ
واستبدلوها
بالرقص..
وأنتِ
أيتها المجنونةُ
خذي
قلبي واكتبي
قصائدَ
العشقِ بأناملكِ
أوقدي
حواسَكَ الستّ
وحاولي
أن تلعبي بالنار
على
جسدي المجمّد
ربما
ندفنُ الأنينَ هناك
دعي
الثقةَ تنضحُ من داخلكِ
وقولي
إن صفيرَ الريِح
من
ألحانكِ..
هنا، يشير الشاعر إلى
أن الكلمة هي وسيلته الأمثل للعبور إلى عالم الأحلام والخيال، وهي بمثابة جسر
يربطه بواقع آخر، أكثر تفاؤلاً وبهجة، وفي تفاعله مع الآخر، يسعى جاهداً لمواجهة
نفسه، وتجاوز ظلالها المظلمة، بتعايشه مع الطبيعة، التي ترمز إلى الحياة النابضة
بالحركة والنشاط:
تخيّلوا
أن نصبحَ أبناءَ الحلمِ..
وتنبتُ
أشجارُ الكرزِ بينَ أصابعِنا
وتفوحُ
رائحةُ القبلاتِ
من
وجناتِنا.
تخيّلوا
أن نتحدّثَ كلّنا بلغةٍ واحدةٍ؛
لغةُ
الحبِّ والموسيقى
فقط
تخيّلوا!
هنا تعكس رغبة الشاعر الملحّة
في تحقيق التآلف والانسجام مع الآخر، بتوحيد لغة العالم في لغة العشق والموسيقى،
التي يراها من أقوى اللغات تأثيراً في نفس البشرية، وهي الوسيلة الأفضل لتعزيز
الوحدة الروحية والجسدية، بدلاً من الانقسام والانشطار والانكسار، فهو يبحث عن بصيص
أمل يضيء دربه ويخرجه من الظلمات.
تعِالي
يا مرُهَقِةَ الروحِ!
لا
أحدَ سينافسُنَا
على
الموتِ..
إن
كان هنِاكِ جريمةٌ فإنها صِنعُ والديكِ
هُمِ
قدّموك لعذابات الحياةِ
تعِالي،
ما زلْنا نملكُ الكثيرَ مثل كاتبٍ خجولٍ يتكئُ تحت
سقفِ
الكلمات
تعالي
لنكونَ الأكثرَ حُمقاً
في
دنيا العشق.
يبتكر روني فضاء
مختلفاً لعمارته الشعرية، بالتوغّل في غوايات النفس، حيث يؤسّس رقعة الكلمة في
مساحة الإحساس بالمتخيّل على نحو يرى علاقته بالواقع، ويتبع حضوره في الراهن
باستحضار صور شعرية منسوجة من مخيّلته الكوردية القلقة، التي تعكس حالته الوجودية،
فثمة نبرة تحدّي واضحة للعادات والتقاليد البالية، يجب الانعتاق من عبئها، بحثاً
عن الحرّية.
حينما
يقهرُ الكردي
يخاطبُ
الله..
إلهي،
نحن نموتُ بفتاوى!
الذين
بشّرْتَهم بالجنّة
إلهي
نحن نموتُ
بفتاوى
وسور
قرآنية!!
سورة
الفتح في عفرين
وسورة
الأنفال في حلبجة
إلهي..
نحن
نموتُ على يد
الذين
لا يستحقون الحياةَ
ويرفعون
الراياتِ
السودَ مدوّنةً
بـ
لا إله إلا الله، محمد رسول الله
يسرقون
ينهبون
يصلبون
ويقتلون
الإنسانيةَ والطفولةَ
ويردّدون:
الله
أكبر
والعزّةُ
لله.
يثور الشاعر في هذه
القصيدة على واقع الكوردي، الذي عاش منذ ظهور الإسلام تحت وطأته، مستغلاً صفائه
وطيبة قلبه من قِبل وكلاء الربّ على الأرض، فقد كانوا وقود لمعارك ليست لهم، مخاطباً
إياه وشاكياً على مبشّريه لأفعالهم الشنيعة بحقّ الكورد، عندما يقتلون على أساس
هويتهم، فما ذنبهم إذا خلقوا كورداً.
مدينتي
تشبهُ قلبي،
قلبي
الذي يشبهُ كنيسةً مهجورة
خلفَ
كلِّ شيءٍ لا شيء
وألفُ
شيءٍ خلف كلّ شيءٍ
يحكمُها
أبالسةُ العصر
مدينةٌ
ترقصُ وتغنّي
على
أجساد أبنائها
مدينةٌ
جميلاتُها
يحرقْنَ
جدائلَ شعرهنّ
للتدفئةِ
مدينةٌ
تبحثُ عن الخلاص
في
موتها.
عبّر الشاعر عن سخطه
الكبير إزاء مدينته المدمّرة، بعد أن أصبح أبناؤها وقود الحرب والدمار، تحترق
بجدائل جميلاتها، وأصبحت قربانة لسياسة خاطئة، وتحولت مقبرة تبتلع قاطنيها وتبحث
عن خلاصها بهلاكها.
تتناول المجموعة موضوع
البحث عن الحبّ والأمل والسلام، في مواجهة ظلام العالم ووحشيته المقيتة، يصوّر
الشاعر رحلة ذاتية نحو ضفّة الحلم، حيث يسعى للحصول على الحرّية والأمان والحبّ، فثمة
صراع بين الصمت واللحظة العالقة في دهاليز الحياة، يصوّر لنا الشاعر حالة من
الانتظار والتأمّل في العبثية.
تتميّز لغة المجموعة
بالبساطة والسلاسة والصور الشعرية الدفينة. يستخدم الشاعر فيها مفردات ذات دلالات
عميقة، مثل: (الحلم، الأمل، العشق، الوهم، الحرب، الحنين، الشوق... وغيرها. وأسلوب
شعري فيها نوع من الموسيقى الداخلية، وذلك باستخدام تقنيات مثل التكرار: (اذهبي،
اذهبي، اذهبي، ولكن عودي)، والمجاز: (تتكئين على الهواء مثل السماء)، والتشبيه: (أهرب
من ذاكرتي كمرآة مكسورة).
في المجموعة صور شعرية
جميلة ومؤثرة: (سلالم الجوع لدى أطفالي صفرٌ)، في الحرب يصبح الجوع سيّد الموقف،
فهي الحالة الغريزية للوجود الإنساني. كذلك: (لنجعل أنينه موسيقى)، وصف الألم في
أقسى درجاته، بأن يصبح الأنين موسيقى روحية، فهي تضيف بُعداً حسّياً وعاطفياً، وتعكس
حالة من الحزن والانكسار، (تخيّلوا أن نصبح أبناء الحلم)، هذا التشبيه البليغ يضفي
حسّاً جمالياً من الأمل والحبّ.
في المجموعة رموز عديدة،
تعكس معانٍ عميقة (الضوء): حيث يرمز للأمل والخلاص. (الظلام): يمثّل الأسى والمعاناة.
(الحلم): هو المغزى الأساسي، الذي يرنو إليه الشاعر. (الروح والجسد): يمثّل الحياة
والحركة. (الشجرة): ترمز إلى الأمل والازدهار. (المرأة والجسد): ترمز إلى الخصوبة
والعشق.
يتنوّع الإيقاع في المجموعة،
ما بين السريع الانفعالي إلى الإيقاع البطيء التأمّلي، الذي يخلق حالة من الشجن المؤثّر،
ولكن الحركة الداخلية للقصائد مفكّكة، تحتاج إلى الضبط في التسلسل والتماسك النغمي،
وكذلك الإيقاع الخارجي غير منضبط في بعض القصائد.
كتبت المجموعة بأسلوب شعر
حرّ، مع استخدام التفعيلة في بعض الأبيات، ولكن بعض القصائد تفقد وحدتها العضوية
في الشكل والمضمون، ويبقى البناء الشعري متناسب مع موضوع القصائد، التي تعكس حالة
من الشغف والبحث عن الحبّ.
رسالة المجموعة هي
البحث في زمن انعدم فيه الحبّ عن خيط أمل في مواجهة بشاعة العالم، الشاعر يتصدّى للحزن
والألم بصمت وتأمّل، ويحاول الوصول إلى ضفّة الحلم بقوّة عشقه للحياة، فثمة إحساس بالتحدّي
والصمود في وجه الشدائد.
إن مجموعة «ظلال
الحروف المتعبة»، هي تجربة شعرية جميلة، مرهفة بحسّ الشاعر القومي، بما يُصاحبها
من وجع وألم، وما يتلوها من فرحة بالخلق والإبداع وحضوراً جميلاً، يقترب من الحياة،
حيث يواجه الشاعر صراعاته وأحلامه وآلامه من خلال إحساسه بالكلمة الباحثة عن
المعنى في ضوء الأمل.