إعداد وتحرير: فريق سبا
يحدث
نقص في الموسيقا الكردية المعاصرة إن غاب اسم الموسيقار المبدع «رشيد الصوفي»، حيث
اللحن المتميّز شرقياً ونقل الجملة الموسيقية بأمان وبخفة؛ ليسهل مرورها إلى ذهن
المستمع دون خلل أو ملل، إلى جانب سلامة النطق وصفاء الأداء وقدرته الخلّاقة على
التحكّم بأدوات اللحن، ناهيك عن مهاراته الجنونية في العزف.
والصوفي
يعدّ من أهم الموسيقيين الكرد في القرن الواحد والعشرين، فهو إلى جانب كونه موسوعة
ومرجع في مجال علم المقام وتصويره ببراعة لا متناهية ومعرفته الدقيقة لعقدة فك
وربط التجانس المقامي بحواس مرنة، كما أنّه يعدّ من أوائل الذين استوعبوا بناء
الجملة اللحنية وعناصرها من خلال استيعابه وفهمه للموسيقا الشرقية والاطلاع الواسع
على الموسيقا العالميّة.
ساهم إسهاما كبيراً في الموسيقا الكورديّة من خلال تسجيله لعملين كرديين، وقد برزت فيهما تجربته الشخصيّة وذاته المبدعة كفنّان متمرّس وبروح أكاديميّة متجاوزاً مناخ المستمع البسيط كما مرّر مزج الموسيقا الغربيّة بالشرقيّة، وفتح مجالاً في تركيبة اللحن الشرقي بإدخال علم الهارموني والأسلوب الأوبرالي لأغنيتنا الكردية بطريقة محببة وسلسة، وهذا ما يجعل اللحن محافظاً على بقائه واستمراره لأمد بعيد.
اللافت في أعماله، أنّه يدرك معالم الموسيقا من خلال توظيفه المرهف للوتر بإيقاع منتظم الضربات، ففي تحفته الغنائية «تو سوسني – Tû Sosinî»، حيث رتابة المحاورة ومعايشة الكلمة بالوتر وكذلك التركيبة المقاميّة المحبوكة بتنوعها... مصوراً فيها عمق تجربته وإرث الحالة الفنية لديه بمرونة الوصل ما بين اللحن والقصيدة.
إنّ
طريقة ربط الجملة لديه متماثلة فيما بينها، فهو يباغت المتلقي في تصويره للمقام
ممهّداً للوهلات، محبكاً خيوطها بخفة ومرونة مع بحثه الدؤوب في فلك الموروث ليصحبك
إلى برّ الأمان، متحدّياً عقبات المرور، فتجده يؤدّي النقلة اللحنية بخميرة ثقافته
الموسيقية.
«ستار صدقي»، وهو عازف موسيقي لآلة العود، قال عن ألبوم رشيد صوفي الغنائي «أز ميفاني دلي تمه – Ez mîvanê dilê te me» المسجّل عام 1986م:
«يظهر
رشيد في ألبومه هذا بزوغ المشاكسة لديه، قاصداً في هذه الرحلة إزاحة إشكاليات جمة
من أمام الأغنية والموسيقا الكرديّة معاً. لقد كرّس صوفي بصمته بخصوصية فنيّة
وبنجاحها كسر الطوق الببغاوي عن الأغنية الكرديّة منها، حيث تجنّب التكرار الساذج
للجمل اللحنية والدأب على اللازمات الموسيقية وتمرير بعض الإيقاعات لموسيقانا الكرديّة
وجعلها تتأقلم مع محيطها الشرقي والعالمي».
وأكد صدقي: «للصوفي الفضل في اكتشاف العازف الماهر «أحمد جب» وتوجيهه له بأن يسير في درب العمل الأكاديمي بعد أن شاركه في عمله الأول المذكور آنفاً، وقد ظهرت ملامح التطور جلياً على عزفه في مسيرته اللاحقة لهذه المشاركة».
العلامة البارزة للصوفي في ألبومه الأول أنّه اقترب كثيراً من نقطة هامة ألا وهي ترميم السلم الخماسي وإعادته إلى الذاكرة الكرديّة بتقارب عصري، حيث جمّل به أغنيته الرائعة «من بان ته كر – Min ban te kir»، مخترقاً بها حيثية الأسلوب الغنائي في التعامل مع هذا المقام لدى الكرد بحنكة فنية لا متناهية، واعتمد اللكنة الأفريقية والزنجيّة الأكثر قرباً لما هو دارج لدى الكرد الكوجر، علماً أنّ السلم الخماسي متداول لدى الكرد القدامى وحالياً متداول في المثلث الحدودي بمنطقة ديريك ويطلقون عليه «بايزوك»، إلا أنّ الصوفي تفادى الأسلوب «الكوجري» ومزجه بالعالميّة لغاية في نفسه.
ظهر
الألبوم الغنائي الثاني للصوفي بعنوان «مي نه نوشيه – Mey
nenoşê»
عام 1993م، حاملاً معه بوادر النضج لرؤاه الفنية المتمثلة برواسب الماضي الجميل و
الملقاة في حوانيت الذاكرة الحمقاء والإصرار على المضي قدماً في مسيرته الفنية رغم
الفقر والحرمان، متخطّياً الأوركسترا الموسيقية بعوده البرّاق، فارضاً صوفيته
الفنيّة، مقتحماً حدائق الأدب الكردي، فاختار أجمل ما كتبه الشاعر الكردي المنغمس
بروح الصوفية والعشق «ملاي جزيري»، وقد دمج الصوفي قصيدتين له وهما: «Mey nenoşê» و «Siba te bi xêr». لقد استعرض الصوفي فلسفته الموسيقية واختصر
إيماءات مخيلة الجزيري من حضور فلسفي وجدلية جمال الكلمة بزمن ريشة الفنّان.
إن
ما يصبو إليه الصوفي في أغنيته «Mey nenoşê» إلهاؤك بمساحاته الصوتية؛ لإيصالك إلى عالم أعمق،
كما يمرّر إدخال سلم «كروماتيك» في هذه اللوحة دون أن تستوقفك التقنية الفنية، أي
استطاع تحويل جمود التقنية إلى إحساس جميل.
وقد
استطاع أن يوظّف مزاجيته الفنيّة في أغنيته التي سبق ذكرها، إذ يرتجل الجملة بلكنة
مغايرة لكنّها مدروسة، وهي حالة نادرة لدى الفنّانين وصعبة التمكّن، لا يجيدها إلا
العمالقة والموهوبين.
كما
أنّه وظّف في أغانيه الصوت المستعار من قرار وجواب، ففي أغنيته «فلسفه آخي –Felsefa axy » يأخذك الصوفي إلى عالم يملؤوه الأمل، مشيراً إلى صراع الخير والشر؛
ليصل بك إلى حالة من خيبة الأمل.
وقد
أضاف الصوفي وتر القرار السابع للعود، وهذا الأمر بحدّ ذاته خصوصية لديه كعازف ذي
شخصية مستقلة، ومحاور بليغ مع الآلة يوظّف ارتجالاته، مستفيداً من ذاكرته، ليصل
إلى حالة أقرب إلى النسج السيمفوني، وهذا ما نلاحظه في عزفه المنفرد.
كما
أنّه أجاد في مجال الإنشاد الديني، وتلاوة القرآن بحب وعشق و فصاحة لسان، ولحّن
الكثير من الأغاني بالعربيّة حتى أنّه أدهش المستمع العربي من خلال تلحينه لأروع
قصائد الشاعر الصوفي المشهور «ابن الفارض»،
وحالته الإبداعية هذه لم تأتِ من فراغ، فهو سليل أسرة صوفية تعشق الموسيقا وتعيشها دوماً، وهذا الفنان وإن لم يأخذ المكانة التي يستحقها، فقد ترك بصمته واضحة فيمن أتى من بعده أو تتلمذ على يديه.
وحالته الإبداعية هذه لم تأتِ من فراغ، فهو سليل أسرة صوفية تعشق الموسيقا وتعيشها دوماً، وهذا الفنان وإن لم يأخذ المكانة التي يستحقها، فقد ترك بصمته واضحة فيمن أتى من بعده أو تتلمذ على يديه.