زهير الخويلدي
«لا
أقيم وزناً للتقاليد الطائفية الا من الناحية التاريخية والنفسية وليس لها عندي أي
مغزى آخر»[1]
استهلال:
يعتبر سنة 1905 سنة ثورية في تاريخ العالم
فالأحداث فيه تتسارع دون هوادة وحركة المجتمعات والأفكار تتقدم بعجلة الى الأمام
وفي هذه السنة الحاسمة قام أنشتاين بخطوات من شأنها أن تقلب وجهة نظرنا الكونية
رأساً على عقب، ففيها قد وضع نظريته النسبية الخاصة
ونظرية الكم ونظرية الحركة البراونية والتي جعلت الأرض تميد تحت أقدام العلماء
الكلاسيكيين وأدت كذلك الى زعزعة الأسس الصلبة للعلم الحديث.لقد لبث العالم
مدهوشاً مستغرباً أمام العدد الضخم من الأفكار الجديدة التي طلع بها هذا الفيزيائي
الألماني(1879-1955) والذي لم يفكر الا في الثغرات والفجوات التي يستشعرها في
نظرياته. لقد كانت أفكاره تتدفق كالسيل الذي لاينضب معينه وكان هو نسيج بأسره فكان
جم الأدب عظيم التواضع رجلاً ذكياً مستقلاً وحر التفكير متمرداً على نظام التعليم
يعشق الانسجام في العالم من خلال الموسيقى والفيزياء النظرية محبا للتأمل والعزلة
يحل المشاكل بأبسط الطرق و يحرص على أن يسوق أفكاره بأكثر وضوح وأن يكون مفهوماً
من قبل الجميع. لكن ولئن كان من السهل نسبًيا التطرق الى الجهود العلمية لأينشتاين
خصوصًا بعد أن وجدت نظرياته الرياضية والفيزيائية طريقها الى العرض والتوضيح فإن
الاهتمام بأنشتاين الفيلسوف هو أمر في غاية الصعوبة والتعقد خصوصا وأن فلسفته – إن
كانت له فلسفة – ليست بتلك البساطة بل يكنفها الغموض ومليئة بالتناقض والتردد.
لما كان أينشتاين يهتم بالقوانين العامة
للفيزياء فسرعان ما وجد نفسه أمام مشاكل تتناولها في العادة كتب الفلاسفة،فخلافاً
لغيره من أصحاب الاختصاص كان لا يتورع عن مراجعة الكتب التي لا تدخل في دائرة
اختصاصه وكان يقبل على كتب الفلاسفة بنهم كبير يحدوه في ذلك عاملان متعارضان:
1 - ابتغاء التسلية والتندر لأنهم في نظره
سطحيون يتوخون الغموض في كل شيء ويتكلمون في كل شيء على الرغم من التفاوت الموجود
بينهم،هؤلاء الفلاسفة هم شوبنهاور ونيتشه. في هذا الصدد يقول مستهزئاً:"لقد
كان الاعتقاد السائد أيام كانت الفلسفة تخطو خطواتها الأولى أننا نستطيع أن نحصل
على ما يمكن معرفته بمجرد التفكير.ولقد كان هذا خداعاً مكشوفاً يسهل فهمه على كل
من يحاول أن يتخفف ذهنيا ولو برهة وجيزة من قيود كل ما تعلمه سواء من الفلسفة التي
جاءت بعد ذلك أو من العلم الطبيعي."[2]
2 - الاستفادة من كتبهم والاقتباس من آرائهم وتعلم
بعض الاشياء التي تساعده على تفهم طبيعة مبادىء العامة للعلم ولاسيما علاقتها
المنطقية بالنواميس التي تعبر عن الملاحظات المباشرة،هؤلاء الفلاسفة هم هيوم وماخ
وبوانكاريهورسل وكانط والى حد ما اسبينوزا.
بيد أن اللقاء بينه وبين اسبينوزا لم يكن ليحدث
على مسرح التاريخ لولا اعتراف أنشتاين بنفسه بهذا التأثر في رسائله وكتبه وخاصة
كتابه: هكذا أرى العالم ورسالته الى صديقه موريس سولوفين.والآن لنتساءل:هل تأثر
آينشتاين فعلا باسبينوزا؟ بعبارة أخرى: هل هناك حضور واضح المعالم لإسبينوزا في
النص العلمي و الفلسفي لآنشتاين؟هل القرابة بينهما هي مجرد الانتماء الى التراث
اليهودي؟ ان كان اللقاء بينهما قد تم فعلاً فماهي العناصر الفلسفية التي أخذها
آنشتاين عن اسبينوزا؟
كيف تؤثر ميتافيزيقا حديثة تؤمن بالبداهة
العقلية والضرورة الكونية في فيزياء معاصرة تؤمن بالفرضيات وحساب الاحتمال الرياضي
والنسبية المحددة والمعممة ؟هل الاعجاب بالرياضيات واستخدامها هو القاسم المشترك
بين الرجلين ؟
ألم يتفقا في نقدهما التاريخي والعلمي لظاهرة
التدين اليهودي وما رافقه من تحريف وتزييف للكتاب المقدس ؟ما معنى أن يتأثر عالم
ريبي مثل آنشتاين معجب أيما اعجاب بفلسفة هيوم التشككية وبنقدية كانط بكتاب
الأخلاق لفيلسوف يثق ثقة عمياء بالعقلانية الجذرية مثل اسبينوزا؟
كل هذه التساؤلات هي بمثابة مفارقات وتناقضات
دأب آينشتاين على الوقوع فيها وعمل بجد على تفكيكها وتوضيحها دون كلل أو ملل ونحن
في هذا البحث لا يسعنا الا متابعة حركة فكره ورصد طيات نصوصه وتنقيب ماوراء خطبه
ورسائله لعلنا نظفر بما يفي بمقصودنا ويفتح أمامنا ما قد انغلق.
غير أن الاعتقاد بحضور الميتافيزيقا الحديثة في
الفيزياء المعاصرة وتأثر آينشتاين باسبينوزا يفترض مجموعة من المسلمات الضمنية
والتي يمكن أن نذكر منها ما يلي:
- الإقرار بوجود عنا صر ميتافيزيقة في الفكر
الحديث.
- اعتبار فلسفة اسبينوزا فلسفة ميتافيزيقية.
- حاجة العلم عامة إلى مجموعة من المبادئ
الميتافيزيقية.
- اقتران الثورة الكبيرة التي قام بها آينشتاين
في الفيزياء بالعودة إلى الكشوفات الفلسفية الصامتة التي ورثها عن اسبينوزا.
- وقوع الميتافيزيقا عند اسبينوزا في العديد من
الصعوبات النظرية والمفارقات العملية لم يقدر كبار الفلاسفة الذين جاؤوا بعده على
حلها.
- النظر الى الفلسفة العفوية عند آينشتاين على
أنها توضيح منطقي للغة العلمية التي تكلم بها اسبينوزا في فلسفته الميتافيزقية.
- لا وجود لتعارض بين الفيزياء والميتافيزياء
وتجاوز آينشتاين دعوى نيوتن الشهيرة:" أيتها الفيزياء احذري من
الميتافيزياء..."
ألا تقتضي هذه الفرضيات الضمنية اثباتاً بالحجة
والبرهان من خلال الاحتكام الى العقل والعودة الى علم الحياة والتجربة ؟هل استعاد
آينشتاين القاعدة المنهجية الديكارتية التي ترى أن" أساس الفيزياء هو
الميتافيزيقا"؟
ما هو متعارف عليه أن آينشتاين يثني على
الفلسفة و يمدح الأفكار الفلسفية فقد:
- أخذه عن هيوم ورسل فكرة النسبية لإعجابه
بمذهبهما الريبي.
- كما نظر باندهاش الى اعتبار كانط مقولتي
الزمان والمكان من مقولات الذات وخروجه عن النص النظري لصاحب كتاب المباديء نيوتن.
- زيادة على انتباهه الى أهمية الرفض الديكارتي
لفكرة الخلاء أو الفراغ في الكون وتفسيره الحركة من خلال التصادم بين الأجسام.
أضف الى ذلك أنه القائل عند تعيينه سنة1950 تحت
عنوان"الفيزياء والفلسفة والتقدم العلمي":" اذا اعتبرنا الفلسفة
بحثاً عن المعرفة العامة والأكثر شمولية فإنه ينبغي اذن أن ننظر اليها بشكل بديهي
على أنه أم لكل تساؤل علمي..."[3]
" هذا التصور للعالم اذا نظرنا اليه من
زاوية فلسفية هو بالتحديد مرتبط بالواقعية العفوية أي بالتصور الذي يرى المواضيع
في الفضاء ممثلة مباشرة من خلال الادركات الحسية..."[4]
من هنا يتبن لنا أن الأسئلة الرئيسية في الفيزياء
هي من طبيعة فلسفية وأن الفيزيائي يكون بطبعه فيلسوفاً .
يصرح انشتاين في كتابه تطور الفيزياء تحت عنوان
الخلفية الفلسفية:" تفرض نتائج البحث العلمي في أحيان كثيرة تبدلا في النظرة
الفلسفية الى مسائل تمتد الى ما وراء ميدان العلم المقيد. ماهو هدف العلم؟ ماهو
المطلوب من نظرية نحاول أن تصف الطبيعة ؟ ان هذه الأسئلة ترتبط ارتباطاً وثيقا
بالفيزياء مع أنها تتخطى حدوده لأن العلم يشكل مادة نشوئها. وينبغي أن تبنى
التعميمات الفلسفية على النتائج العلمية. ولكنها بعد أن تصاغ و تقبل على نطاق واسع
تؤثر في أحيان كثيرة على التطور اللاحق للفكر العلمي وتبين النهج الذي يجب اتباعه
من عدة طرق ممكنة. ان الثورة الناجحة على وجهة نظر قائمة ومقبولة تؤدي الى تطورات
غير مرتقبة ومختلفة تماما عما سبقها وتتحول الى مصدر الى نظريات فلسفية
جديدة"[5] هذه الملاحاظات تقر بأن العلم يبدأ عندما تتأزم الفلسفة و تشرع في
التوقف وأن الفلسفة تبدأ عندما يشرع العلم في التنظم والتوقف.
اذا ذلك كذلك و كان اللقاء بين الفيزياء و
الفلسفة من تحصيل حاصل أو من مستلزمات التقدم العلمي ذاته فكيف تم اللقاء بين
فيزياء آنشتاين و فلسفة اسبينوزا و ضمن أي سياق نظري؟ إن الأساس المشترك بين الرجلين هو استخدام
المنهج الرياضي والايمان بالضرورة المطلقة في الكون.
I - ميتافيزيقا اسبينوزا:
من المعلوم أن اسبينوزا اتبع في كتبه: الأخلاق
ومبادىء فلسفة ديكارت والرسالة الموجزة منهج الرياضيين في الهندسة لما تضمنته من
تعريفات وأوليات ومسلمات وقضايا وحدود وبراهين وحواشي تماماً مثلما تتضمنه كتب
علماء الهندسة، وقد اقتدى اسبينوزا في ذلك باقليدس وإبن ميمون وسكوت وبروكلس، لقد
تضمن كتاب الأخلاق العنوان الفرعي التالي: "الأخلاق مبرهنا عليها على المنهج
الهندسي في خمسة أجزاء تبحث:
1- في الله
2- في طبيعة النفس و أصلها.
3- في أصل الانفعالات و طبيعتها.
4- في عبودية الانسان أو في قوى الانفعالات.
5- في قوة العقل أو في حرية الانسان".[6]
يقول سبينوزا في التذييل الخاص بالكتاب
الاول:" ولا شك أن هذا السبب وحده كان كافياً كي يبقى الجنس البشري في جهل
دائم للحقيقة لولا الرياضيات التي تعنى لا بالغايات و انما بماهيات الاشكال
وخاصياتها والتي أشعت أمامن الآدميين معيارا آخر للحقيقة..."[7]
اللافت للنظر أن التصور الميتافيزيقي عند
سبينوزا يقوم على:
- استبعاد الغائية في التفسير العلمي.
- وجود توازي عقلي- فيزيائي في كل الكون.
- وجود جوهر واحد هو الطبيعة- الله وهي طبيعة
طابعة أي مجموع الصفات اللامتناهية ومن بينها الفكر والامتداد والطبيعة المطبوعة
فتشمل كل الأحوال تبدأ من تلك التي تنبسط مباشرة من الصفات مثل الذهن اللامتناهي
والحركة والسكون الى أكثر الأشياء تحديدا.
- الضرورة مطلقة في الكون وكل شيء خاضع لقانون
دقيق ولا شيء يحدث صدفة أو اتفاقاً بل ان قوانين الطبيعة هي القوانين الالهية
وتستمد منها أيضاً القوانين الأخلاقية.
يقول في القضية 38:" ان ما يكون مشتركاً
بين جميع الاشياء ويوجد في الجزء والكل على حد السواء لا يمكن تصوره الا على نحو
تام ".[8] وفي موضع آخر يدعم هذه الفكرة في القضية 29 بقوله:" لا شيء في
الطبيعة حادث بل كل ما فيها محدد بضرورة الطبيعة الالاهية كي يوجد و ينتج معلولاً
ما بنحو ما[9]".
- نجد في القضية 28" لا يمكن لأي شيء جزئي
أعني لأي شيء متناه و محدد الوجود أن يوجد ولا أن يتحدد انتاجه لمعلول ما ان لم
يتحدد وجوده و انتاجه لهذا المعلول بعلة أخرى هي ذاتها متناهية و محددة الوجود...
وهكذا دواليك بلا نهاية".[10]
إن الانسان عند سبينوزا نمط محدود وهونتاج
للجوهر الواحد لأنه لا يوجد الا جوهر ما عدى الله الذي يمثل في الوقت ذاته سبب
وجوده و سبب ماهية الأشياء" الله واحد بمعنى... أنه لا وجود في الطبيعة الا
لجوهر واحد..."لأن" النفس والجسد شيء تارة نتصوره من جهة الفكر و طورا
من جهة الامتداد..."
الكوناتوس هو المبدأ الذي يحدد ماهية الكائنات
والأشياء ويعرف بأنه القوة والميل الذي يوجد في الأشياء و يجعلها تحافظ على
حالتها. فالعقل كالجسد يخضع للكناتوس ولا وجود لعقل متعال عن الانفعالات،فأفعال
النفس مرتبطة بأفعال الجسد كما أن انفعال الواحد مرتبط بانفعال الآخر وهذه الفكرة
هي ما يعبر عنه سبينوزا بالتوازي بين عناصر الكون أي بين الامتداد والفكر وهو
توازي على مستوى الفعل والانفعال.
II- فيزياء آينشتاين:
"أما رجل العلم فتتملكه روح السببية
الكونية.فالمستقبل بالنسبة للعالم في جميع دقائق حياته محدد وحتمي مثل الماضي
تماماً."[11]
ينظر اينشتاين الى الرياضيات على أنها
مبدعة/خالقة للنظريات الفيزيائية وأداة لا مشاحة منها لرؤية العالم واكتشاف بنيته
وسبر قوانينه، واذا كانت مقاصده في مشروعه الفلسفي هو" رسم الخطوط العريضة
لمحاولات الفكر البشري الرامية إلى ايجاد ترابط بين عالم الأفكار وعالم
الظواهر" ببذل" الجهود لإظهار القوى الفعالة التي تدفع بالعلم إلى
استنباط الأفكار التي تناسب واقع العالم الذي نعيش فيه"[12]فان ذلك لن يتم
إلا بالمنج الرياضي لأنه الأنجع عند متابعة البحث عن حلول للأسرار التي يحتويها
كتاب الطبيعة و أثناء صعود النظرة الميكانيكية أو هبوطها وصعود النظرة النسبية.
المراجع:
أينشتاين من السنوات الأخيرة في حياتي المكتبة
الفلسفية ص39 نيويورك 1950
أينشتاين وانفلد تطور الفيزياء ترجمة على
المنذر أكاديميا بيروت 1993
ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس شحاتة
الهيئة المصرية العامة للكتاب1986
اسبينوزا علم الأخلاق ترجمة جلال الدين سعيد
طبعة دار الجنوب للنشر تونس
ميشال باتي أينشتاين فيلسوفا طبعة بيف باريس
1993
* كاتب فلسفي
ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس شحاتة
الهيئة المصرية العامة للكتاب1986 ص50 [1]
[2] ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس
شحاتة الهيئة المصرية العامة للكتاب1986 ص227
آنشتاين 1979 د ذكره ميشال باتي في كتابه
آينشتاين فيلسوفا ص377طبعة بيف باريس 1993[3]
نفس المرجع ص 379[4]
انشتاين و أنفلد تطور الفيزياء ترجمة على
المنذر أكاديميا بيروت 1993ص46[5]
سبينوزا علم الأخلاق ترجمة جلال الدين سعيد دار
الجنوب للنشر تونس ص27[6]
نفس المرجع الكتاب الأول ص78 [7]
نفس المرجع الكتاب الثاني ص134[8]
نفس المرجع الكتاب الأول ص66[9]
نفس المرجع الكتاب الأول ص64[10]
[11] ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس
شحاتة الهيئة المصرية العامة للكتاب1986 ص245
اينشتاين و انفلد تطور الفيزياء ترجمة على
المنذر أكاديميا ص7 بيروت 1993[12]
انشتاين و أنفلد تطور الفيزياء س150-151[13]
[14] ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس
شحاتة الهيئة المصرية العامة للكتاب1986ص50
[15] ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس
شحاتة الهيئة المصرية العامة للكتاب1986 ص254
أينشتاين من السنوات الأخيرة في حياتي المكتبة
الفلسفية ص39 نيويورك 1950[16]
[17] ألبرت أينشتاين أفكار وآراء ترجمة رمسيس
شحاتة الهيئة المصرية العامة للكتاب1986 ص243