حسين محمد علي – كوباني / خاص سبا
«الصيف
باب الرزق مفتاح المدينة».
وأنت
ترشق بمفرداتك بحيرة الذاكرة العذبة والموجوعة، تندلع الدوائر شبقة شغوفة، تتشكل
الصور ثم تتشظى في انخطاف بهي واستيهامات دون حدود.
في
تلك الأيام الطاعنة في الحنين والسنين، وفي بكور صباحات الصيف ومطارق الشمس
النحاسية، تستيقظ كوباني متكاسلة، تزيح ندى ليلها الصيفي، وعلى عبق خبز الصاج (Nanî Sêlê) المندلع من البيوت، حيث الرغيف الأول لأول عابر سبيل، تتقاطر
جحافل الريف القريب من فجاج عمقه وفي غزوها اليومي...! بوصلتها إلى سوق الخضرة (Mezat).
خيول،
حمير، بغال... وعربة «نبو كوندا»، المرمي على مديات البؤس، ولا يجد مَن يسرد له
أحزانه إلا حصانه المسكين. الساحة الأكثر صخباً، والأكثر متعة، والأكثر انفتاحاً
لغرائزنا وفتوحاتنا ونزواتنا. الساحة التي تحاصرها كنيسة السريان الأرثوذكس بلوحتها
الكئيبة وكتابتها السريانية، والمسرى الأخضر إلى (Gulê) بحيرة الألق الزمردية، ومقهى «كارمن» بأبهائه
الرائعة، وشجرة التوت خيمة من فيء أخضر والعابق برائحة التنباك العجمي والعرق
ورائحة التراب المندى...
وبلصقه
طاحونة «أوسي قره كوز» المائية التي عيل صبرها، وبيت «شيشو» الفرّان الأرمني، وامرأته
«شوشانيك»، التي فقدت وحيدها قرباناً للكولة، والتي كانت تردد عبارتها الغريبة (آمااان...
واحد قليل وتنين كتير)، عن فجيعتها بابنها.
في
سوق الخضرة تستقبلك روائح الخضرة في توليفة عجيبة. جبس وبطيخ من «ميناس»، كأنها
جرار من العسل. باذنجان «كانيا عربان» الماركة المسجّلة باسمها، معياره الطول
الفاخر لا الوزن. بندورة «قره حلنج» التي تضاهي الجحيم بلونها الأحمر، والقادرة
على تحميض محيط بأكمله، وبتضاريسها الغريبة. عنب «ترميك» في سلال القصب، كأنه
دحاحيل من الكريستال الذهبي... سحاحير خشبية في فوضى عارمة قبل غزوة البولميرات، «أكوب
سركيسيان» ينادي على الخيار والقثاء اليانعة الخضلة (قلمى خيار)، أيّ خيار ممشوق
كالقلم. الحاج «مصطفى قرتكي» يجلس مهيباً على كرسي الحصير وهو يتطلع بحزن إلى
كوسياته، القرع المنتفخ كالكرات الكبيرة، وأخرى (Guderî
Estî)،
وقد شمخت رقابها متطاولة تحت شمس لا ترح.
العم
الحاج «خليل حاج طاهر» مختص بالفليفلة الحمراء القادمة من نار جهنم، قال مرّة
للطبيب الذي منعه من تناول الفليفلة الحادّة: «واااا لكن اش بدي أساوي بـ ٦٠٠ كيلو
مونة الفليفلة؟!»,
العم
«محي سادن القبّان» اليدوي يشكو من آلام كتفه؛ من فرط حمله لعمود القبّان طويلاً
حيث لم تكن القبابين الحديثة قد ظهرت، كان أحياناً يرد بقوة على الشاري الذي يشكّك
في الوزن «أنا لا أبيع ديني بكل مال هذا البازار).
العم
«بولس السرياني» كان يقف بالمرصاد أمام الكنيسة وهو يحاول إبعاد المتطفلين والدواب
عن حرم الكنيسة ويردد: «هذا بيت الله...».
الأب
«كيفورك» قارع الناقوس، كان يحرص ألا تدخل النساء إلى الكنيسة سافرات صبيحة الآحاد،
لقد وبخ جارتنا آراكسي مرة؛ لأنها جاءت دون إيشارب (وشاح).
في
المكان المحتشد بكل الخلائق، كان ثمة غلمان يحملون صواني صدئة محملة بالصمون
المدهون بالزيت والسمسم والقطر، لا أطيب ولا ألذ...! فقط بعشرة قروش من فرن كيفو
وشيشو...
وفي
أطراف السوق كاراج الدواب، حمير وبغال حرنة وخيول، حيث كانت تدور حرب الفحولة المستيقظة
وانهيالات العصي الغليظة لفك الاشتباك... وسط دهشتنا الماكرة للخراطيم النابضة بكل
العذوبات، حين تفغر أفواهنا من هول الحجم... نحن الرهط المشاغب كنا نمارس طقوسنا،
نغافل أحياناً كومة بطيخ وبخفة تصبح إحداها خارج الكومة، ويسقط من يدنا حين تكون
عجراء بيضاء، لنعاود الكرّة من جديد. كان عبثاً طفولياً؛ لأن كومة من الجبس لا تتجاوز
ليرتين وسلة العنب بليرة ونصف.