-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

اندهشْ لتصبح فيلسوفاً!



كلمة هيئة التحرير


لو افترضنا أنك مدقّق لغوي في إحدى دور النشر، وأن مهمتك تدقيق الكتب، من بحوث ودراسات وقصص قصيرة وروايات ومجموعات شعرية...، وأن أيّ كتاب يتطلّب جهداً كبيراً واهتماماً دقيقاً، في التدقيق والتحرير والتنسيق، ثم سألت نفسك يوماً: «لماذا كل هذا التدقيق؟ هل فعلاً كل كتاب يحتاج إلى هذا التدقيق الكبير؟ ألا يمكننا طباعة الكتاب كما كتبه كاتبه؟».

إذا طرحت على نفسك مثل هذه التساؤلات، التي ربّما تراها غريبة أو معقّدة، ولم تأخذ النظام القائم على أنه شيء مسلّم به، فأنت استخدمت التفكير الفلسفي الذي بداخلك، ومن ثم تكون أنت الفارق عن المحرّرين والمدقّقين الآخرين، وبالتالي إحداث تغيير فلسفي ولو جزئياً في حياتك، وهو ما سيميّزك عن الآخرين، فتعيش الحياة بعيداً عن البؤس والتخلّف.

لو افترضنا مرّة أخرى، وهو إذا ما كنت رئيس تحرير لصحيفة أو مجلّة أو موقعاً إلكترونياً، وأنت تدير إحداها، وتتبع المهنية والشفافية والموضوعية بانتظام لا مثيل له، ثم توقّفت مع نفسك، وبدأت تتساءل: «لماذا نمارس الإعلام؟ وما هي أهداف الإعلام؟ وبماذا يفيدنا؟ وهل حدود الإعلام في مجلّة أو صحيفة أو موقع فقط؟ وهل طرق ممارسة الإعلام عبر مسك الكاميرا والتقاط الصور فقط؟ كيف ستكون الحرب والسياسة في غياب الإعلام؟».

مجدّداً، إذا طرحت مثل هذه التساؤلات، وشرعت في التأمّل والتفكير في ماهية اللغة التحريرية أو الإعلام، وأساس وأهداف كلّ منهما أكثر من وسائلهما وتفصيلاتهما، فأنت استخدمت تفكيرك الفلسفي. إذاً الميّزة الأساسية لكي تصبح فيلسوفاً هي أن تندهش، هذه الدهشة تعني التساؤل، ومن ثم البحث والتأمّل وطلب المعرفة واكتشاف الأسرار وما وراء الحقائق والأفكار، تماماً كما كان الناس في السابق اعتادوا أن ينظروا إلى هطول المطر من السماء، فيأتي عاشقان ويمارسان الحبّ على رذاذه أو زخّاته، ومن ثم يأتي دور الفلاح ويفيد أرضه منه، من خلال بناء أحواض؛ لتخزين المياه، واستخدامها لاحقاً في سقاية البساتين والمزارع، ولكن شخصاً واحداً أخذه التفكير: «لماذا يهطل المطر على الأرض قادماً من السماء؟ ولم لا تبقى حبيبات المطر في السماء؟ ولم بعد كل برق ورعد وغيوم سوداء يجب أن يهطل المطر؟ لم لا يهطل المطر ليلاً أو نهاراً؟». إن هذا التفكير الفلسفي كان إيذاناً بتاريخ جديد، وهو الذي أحدث الفارق في تاريخ البشرية.

دعني أضرب مثالاً، ورد في رواية عالم صوفي:
«إنه الصباح. الأم، الأب، وتوماس الصغير يتناولون طعام الإفطار في المطبخ. تنهض الأم، وعندها يستفيد الأب من كونها تدير لهما ظهرها ليرتفع في الهواء، ويطير أمام عيني توماس الجالس مكانه.

ما الذي سيقوله توماس برأيك؟ ربما أشار بإصبعه إلى أبيه قائلاً: أبي يطير.

لا شك في أن ذلك سيفاجئه قليلاً، لكنه لن يثير عنده استغراباً فائق الحدّ...

الآن نأتي إلى الأم. لقد سمعت ما قاله توماس، فاستدارت بحزم. فكيف ستكون برأيك ردّة فعلها على منظر الأب محلّقاً في الهواء؟

لماذا كانت ردّتا فعل الأم وتوماس مختلفتين بنظرك؟».
إن السبب في هذا الاختلاف، أن الأم اعتادت من خلال سنين حياتها وما نقله إليها الآخرون أننا لا نستطيع أن نرتفع في الهواء، أما توماس فلم يعتد بعد على ذلك.

ما ترسّخ في أذهاننا، عن طريق العادة، أو عن طريق نقل المعارف من الآخرين، والتي نسميها «حقائق»، قد تكون كثير منها صحيحة كما هي، وقد يكون منها أيضاً ما هو غير صحيح، لكننا اقتنعنا بها بحكم العادة والممارسة، فما نراه اليوم مستحيلاً قد يكون ممكناً، وما نراه اليوم ممكناً قد يكون غداً مستحيلاً.

إذاً التفكير الفلسفي، يعني أن لا تأخذ دائماً ما نسميها بالحقائق على أنها مسلّمات، يعني أن تثور على العادة والممارسة، يعني أن لا تكون آلة بشرية بيد الروتين والعادات اليومية، وأن لا تكون عبداً لما ورثته من أفكار ومعلومات، من الآباء والأجداد والمجتمع، فالفيلسوف كما يقول «غاردر»: «هو إنسان لم يستطع يوماً أن يتعوّد على العالم».

كم كان كثير من الناس أسرى لأفكار وقناعات ومبادئ خاطئة، وعاشوا تحت تأثيرها لسنين، ثم جاء الذين بعدهم، فاكتشفوا خطأها، وقوّموا اعوجاجها، وعرفوا ما لم يعرفه أسلافهم، ولو أن أسلافهم أيقظوا الحسّ والتفكير الفلسفي فيهم، لربما تغيرت كثير من صفحات التاريخ.

تعديل المشاركة Reactions:
اندهشْ لتصبح فيلسوفاً!

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة