-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

حارس المقبرة


محمد محمود رمو / خاص سبا


قبل بضعة أشهر عُيّنت حارساً للمقبرة, كنتُ أتلذّذ بعملي ليلاً, رغم توجّسي في بادئ الأمر من طبيعته ومن لياليه الموحشة, لقد خشيت أن أنام بين الأرواح، وهي تئنّ, لذا رغبتُ ألّا أحرس المقبرة ليلاً, وأخبرت موظّف البلدية في أن أحرسه نهاراً, لكنّه رفض!
-         لماذا يضعون حرّاساً للمقبرة؟ (يسأل بدهشة عميقة).
هذا ما كنت لا أريد أن أفهمه, هل يخشون هروب أحد الأموات من قبره, أم هناك شيء خفيّ أجهله؟

طوال فترة عملي، كان هذان السؤالان يراوداني، ولم أجد جواباً لهما, خشية من الطرد, وحياء من سروال ولدي الممزّق! إنّه الفقر الذي يجعل منكَ أن تعلق الذلّ, وتشرب ماء زمزم بعده.

في الليلة الأولى, كان الزائر الجديد مُسنّ كهل, حاكَ تفاصيل الحياة بكلّ جوانبها وزواياها, غناء وقهقهة, كرَاعٍ ذبح كلّ خِرفانه، ومن ثمّ أراد الانتحار.
كنتُ أرى رخام قبره، وأنا أراقب أسوار المقبرة من خلف ستائر الغرفة المنتصبة في وسط بحيرة من الظلام, غرفة حيّة مضاءة بإنارة شمسية كئيبة ومخيفة, حيّة لي وللعناكب, ولقطّة جريحة تختبئ أسفل السرير الحديدي.

كنتُ أرتعب كلّما هبّ نسيم، حرّك معه أكياس النايلون المعلّقة بأشواك السعدان المولودة على خاصرة كلّ قبرٍ قديم، لم أكن أميّز شيء على رخامه, سوى تاريخ وفاته, إنّه بالضبط يصادف تاريخ ميلادي, فقط سبقته بساعاتٍ فحسب, مطرّزٌ بحنكة رسّام وبخطّ أندلسيّ باهت, كان يشعّ حتى اضمحلّ, وكذلك أنا مللتُ من الانتظار والحراسة, حينها غفيتُ بهدوء أمام النافذة كما أنا, كأنّني مجسّم حتّى الصباح.

عدّتُ إلى البيت وكانت زوجتي في فرحة, لأنّني نمتُ خارج البيت, أو لأنّها قد نفذت من تحضير عشاء لي, تناولت قليلاً من البرغل وتقوقعت في فراشي تحضيراً لليلة جديدة.

لم يكن في الليلة الثانية شيء جديد يذكر, سوى مرونتي في التعامل مع الخوف, لقد أصبحتُ أشدّ صلابة من البارحة, وصيوان أذناي اعتادا على خشخشة النايلون ومواء القطّة الجريحة.

تتالت الليالي بعدها, وأنا لم أعدْ أنا, صرتُ رجلاً آخراً, أكثر عبثاً, وأشدّ قوة, حتى زوجتي أصبحت ترتعب منّي, وولدي يأتمر بأوامر من النداء الأول، لقد أصبحتُ رجلاً يُحسب لي ألف حساب, وصارت المقبرة جزءاً منّي ومن كينونتي, ومن وجودي في هذا الكون.

بعد أسبوع, سمعت تأتأة خفيفة تصدح بجوار قبر ذاك المسنّ, اقتربتُ منه ولسان حالي يقول:
-         عليّ أن أتفحّص الأمر, خشية من هروبه، كما قال لي موظّف البلديّة, رغم سخريتي من تفكيري وكلامه.
-         يا إلهي..! قبرٌ يتكلّم!
وضعتُ رأسي على رخامه, وأنا أرتجف رعباً, فقال:
-         لا تخف يا بُني, فأنا مثلك, لكنّني أكثر سعادة منك!
توسّعت حدقة عيني, وكأنّ عيني قد خرجتا من صفحة وجهي، تلعثم لساني, وأصفرّ وجهي, ثمّ قلت:
-         كيف تستطيع أن تنطق وأنت ميّت؟؟
ضحك ضحكة طويلة, ثم أجاب:
-         على العكس؛ أصبحتُ الآن حرّاً طليقاً, بإمكاني التحدّث لساعات دون مبالاة, أو خوف, أو رقابة.
دمدمتُ مع نفسي, وصرت أشكّ بصحة عقلي, لكنه قاطعني وقال:
-         عليكَ أن تتقن الفنون حتّى تموت, أتعتقد أن الحصول على شهادة وفاة بهذه السهولة؟
أردتُ أن أفضح كذبه, وقلت:
-         لماذا لا تخرج من قبرك, طالما تستطيع أن تتحدّث؟؟
فقال:
-         إنّ جنود الحقيقة يمنعونني.. يوماً ما ستدرك الحقيقة, وستموت.

لم أفهم شيئاً منه, فتركته على عجل, وقصدتُ غرفتي الكئيبة, وصرتُ أفكّر.
في الليلة التالية, اقتربتُ منه, وصار يحدّثني بتفاصيل حياته, عن البطالة والفساد وعن الحبال الصوتية التي كانت تهتزّ من أفواه بائعي القطع البالية, عن العسكر, وعن زوجته الشقيّة, وعن أولاده التجّار الذين سرقوا الدنيا وما فيها.

بعد عدّة جلسات, أخرجت «النارجيلة» وصرت أنفخ في وجه رخامه كلّما كان يحكي نكتة أو قصصاً ضاحكة، لقد تصاحبنا حتّى أصبحتُ أتمنى الموت.

بعد شهر؛ زائرٌ جديد يحفر له, بمسافة صغيرة مُدّ شلوه على التراب, طفلٌ صغير أدرك الحقيقة ومات, بجوار ذاك الكاهل كان منزله الأخير, وطنه الأبدي.
تركتُ المسنّ وتوجّهت إليه, لكنّه لم يُفدْني بشيء, لأنّه لم يكن قد تدرّب على الكلام بعد.

وصرت بعد ذلك استقبل الجنائز بحفاوة, فتاة, امرأة, شهيد, رضيع, رجل مطعونٍ بسكين لتحرّشه ببنت الجيران, شاب أدمن على المخدّرات فكُفأ بالموت... جنائز لا تُعد ولا تُحصى.

البارحة وفي ساعة متأخّرة جاءتني سيارة «بيك آب» مصفّحة, إنارتها القوية أعمتني, وتخطّت داخل أسوار المقبرة، رغم أنّ ذلك يمانع قرارات البلديّة.

نزل منها شخصان ملثّمان، وتوجّها إليّ, كانا غريبا الشكل, أحدهما ملثّمٌ وأصلع, كأنّه نسي أن يغطّي رأسه من العجلة, كطفلٍ يختبئ خلف الطاولة وأرجله ظاهرة من بين مساندها, والآخر ملثّمٌ وثمين, يظهر جزءٌ من بطنه من تحت قميصه, قالا لي:
-         اِحفر لنا قبراً كبيراً.
قلت:
-         لستُ بحفّارٍ للقبور, أنا فقط أحرس المقبرة.
صفعة قوية على وجهي، جاءتني من أحدهما, تحدّث بألفاظ نابية, وركلني أرضاً.
أجبرتُ أن أحفر في ظلمة حالكة، وهما يجلسان ويلفّان سيجارة واحدة, يتشاركان بها نيابةً.

بعد أن انتهيت, أخرجا من السيارة جثّة طويلة وثمينة, ووضعاها في القبر دون ترتيب لأعضائها, واطمرا القبر بالتراب، وحذّراني ألّا أقول لأحد ما حدث في هذه الليلة.
قبل أن يرحلا, قال أحدهما:
-         اُترك البقية, واحرس لنا هذا القبر.
تحسّستُ وجهي المحمرّ, وسروالي الممزّق من شدّة الركل, وبذاك التراب الرطب الذي اعتلى قبر ذاك الزائر الجديد.
رحتُ إلى الغرفة, وتمدّدتُ على السرير, فصرختِ القطّة النائمة تحتها من وجعها, لم أبالي, وذهبت في نومٍ عميق..

في صباح اليوم التالي, خرجت من الغرفة لأتوجّه إلى البيت, فرأيت شيئاً ما يثير الدهشة...
-         يا إلهي, الجنازة التي دُفنت البارحة قد خرجت من القبر ولم تعد موجودة! وبها تذكّرت تنبيه الشخصين اللذين زاراني البارحة.

توجّهت إلى البلدية لأخبر الموظّف المسؤول عن هروب أحد الأموات من المقبرة.
لقد كان فظّاً, وحضّر قرار طردي من العمل على الفور، لأنّني لم أكن على قدر المسؤولية من حماية زوّار المقبرة.
حاولت أن أشرح له عن طريقة دفن تلك الجثّة، لكنّه لم يقتنع.
لقد كان محقّاً حينما قال لي:
-         كن يقظاً فالأموات يفرّون!
لقد كنت غبيّاً، فلم أصدّق تلك الكذبة اللعينة.
-         مَن الذي هرب؟
هذا ما شغل بالي حقيقة وأنا أناظر نفسي, لكنّني أدركت الآن أنّ تلك الجثة الهاربة قد خرجت في نشرة أخبار, وكُتب تحت اسمه «معارضٌ سوريّ».
تعديل المشاركة Reactions:
حارس المقبرة

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة