إدريس سالم / خاص سبا
idris.heci.salim@gmail.com
-
اسمي «غورينغ». يسلّم
ويصافح شريكه في الزنزانة.
-
أرجو أن تلزم جانبك من
الحفرة.
رفضُ «تريماغاسي» هذه
المصافحة تدلّ على أنه كان خبيراً بقوانين المنصّة وفي سرّه غايات ودوافع عدوانية،
خاصة بعد أن يسرد جريمته، فيكتشف غورينغ أنه يحمل معه سكّينة تسنّن نفسها أثناء
القطع، فيسأله غورينغ:
-
هل هناك الكثير من الناس
بالأسفل؟ انتظر لا تخبرني.
-
عمّا قريب سيكون هناك عدد
أقل. (يجيبه تريماغاسي).
-
هل تسمعون يا مَن بالأسفل؟
(يصرخ غورينغ وهو يسأل).
-
لا تنادِهم.
-
لم لا؟
-
لأنهم بالأسفل.
يرفع غورينغ رأسه للأعلى؛
لمناداة مَن هم بالأعلى، فيصرخ عليه تريماغاسي:
-
مَن بالأعلى لن يجيبوا.
-
لماذا؟
-
بطبيعة الحال لأنهم
بالأعلى.
إن الغاية من هذه الحوارات
التي وردت في سيناريو فيلم "The Platform" الإسباني، الذي
أتناوله تحليلاً عبر فكّ بعض شيفراته المعقّدة هو أن أقول: حتى تعيش في الزنزانة
وتخرج حيّاً يجب أن تضع نفسك أمام أحد الخيارين: (إما أن تأكل أو تُؤكل)، فالجوع
يجلب الجنون، وأن تقتل شريكك يعني أن تحصل على فرصة للنجاة والحياة.
وأثناء نقل السجينين غورينغ
وتريماغاسي إلى الطابق (171) حاول الأخير قتل شريكه غورينغ، وذلك بربطه بالحبال،
وتقطيع شرائح من لحم جسده بسكيّنه (ساموراي بلاس)، إلا أنه يُقتل بسكّينه على يد
سجينة تنزل من الأعلى، فيستفيق غورينغ بعد شهر في الطابق (33)، فيجد نفسه مع سجينة
تدعى «ايموغيري»، التي في كلّ مرّة تنزل فيها مأدبة الطعام كانت تصرخ على مَن هم
بالأسفل:
-
أرجوكما أيّها السيدان أن
تأكلا حصّتكما، وتعدّا حصّتين مماثلتين لمَن أسفلكما، وأخبرهما مثلما أخبركما،
أرجوكما، لقد مرّ (15) يوماً، أتوسّل إليكما أن تنفّذا تعليماتي، فالسجناء بلا شكّ
يموتون تحت أقدامكما.
لكن، كلّ توسلاتها
ورجاءاتها تذهب سدى، فيتدخّل غورينغ غاضباً مستاءً:
-
اسمعا أيّها الوغدان:
نفّذا ما تقوله السيدة، وإلا سأتغوّط على طعامكما يومياً، وسألطّخ به كلّ حبّة
أرز، أتسمعان؟ ستأكلان البراز كلّ يوم، مرّرا الطعام للأوغاد بأسفلكما... واضح؟
وبعد شهر آخر يستفيق غورينغ في الطابق (202)
ليجد ايموغيري قد شنقت نفسها «المَشاهد هنا سترسم دهشاتها على مخيّلة وذاكرة
المُشاهد»، لكنها كانت قادرة على رمي نفسها في الثقب – الفتحة كالآخرين، وما حصل
أنها لم تفعل، بل تركت جسدها له ليهضمه ثم يتخلّص منه في صورة براز تعويضي،
فيتذكّر (غورينغ) التضامن العفوي أو البراز والتغوّط، فتأتي ايموغيري في خياله
وتقول له:
«كُلْني يا غورينغ، اقطعْ
لحمي وكُلْه، هيّا أيّها المخلص، إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان، وتشربوا دمه، فليس
لكم حياة فيكم، مَن يأكل جسدي ويشرب دمه، فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم
الأخير. لأن جسدي مأكل حقّ، ودمي مشرب حقّ، ومَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ
وأنا فيه».
نعود إلى تحليل سيناريو
الفيلم وفكرته، ففي ظلّ عالم أسود يغيّر موازين قواه وأدواته، هذا العالم المحكوم
من قبل منظمات وشركات سرّية، لها ميزانيات تفوق أضعاف الأضعاف من ميزانيات الدول
الكبرى، فبعد أن حصرت العالم بقرية صغيرة إلى عالم افتراضي أشبه بسجن كبير أن
المذنب والقاضي والجلاد، وأيّ قلم أو أداة موسيقية يحاول أو مجرّد تفكير في تحريك
هذا النظام من مكانه، فسيحكم عندها على نفسه بالموت.
تبدأ مشاهد الفيلم الذي
نحن بصدد قراءة تأمّلية توضيحية عنه بدخول «تريماغاسي» للحدث، الشخصية المثيرة في
العمل، التي قام بأدائها الممثّل الإسباني «زوريون إجويلور» حين قال محرّكاً عينيه
وهو مستلقٍ على سريره في المستوى (48) موجّهاً كلامه إلى «غورينغ»: «أن هناك ثلاثة
أنواع من البشر في هذا العالم، مَن هم بالأعلى، ومَن هم بالأسفل، ومَن يسقطون».
ولعل في كلام تريماغاسي ما
يشير إلى رغبة الإنسان جشعاً وأنانيةً وقلقاً نحو السعي إلى المكانة العليا،
والخشية من السقوط في الهاوية.
يدور أحداث وتفاصيل الفيلم
الإسباني برمزيته وسخريته الطاغيتين «المنصّة» أو «الحُفرة»، الذي يصنّف في قائمة
أفلام الرعب والإثارة والخيال العلمي عن ثقب كبير على شكل مربّع في وسط غرفة من
سجن منظّم بأحدث تقنيات التعامل والتواصل والتجليد، حيث يتألف من مئات الغرف
المتراصّة رأسياً، يسكن في كلّ غرفة – بشكل عشوائي – سجينان، تنزل من خلاله –
بأساليب وقوانين محدّدة – مرّة واحدة يومياً منصّة محمّلة بمأدبة شهية، أعدّت من
قبل مطعم كبير يديره أمهر الطباخين، الذين نراهم في المشاهد الأولى من الفيلم.
لهذا السجن الكبير قانونان
أساسيان: الأول هو أن مكان إقامتك في أيّ من تلك الغرف يتغيّر عشوائياً كلّ شهر،
فقد تكون في الغرفة رقم (12) بالأعلى، ثم تستيقظ بعد شهر لتجد نفسك قابعاً في
الغرفة رقم (170) بالأسفل، وهكذا، فيما القانون الثاني هو أن الطعام ينزل من
الأعلى إلى الأسفل، عبر طاولة غنية بأجود وألذّ أنواع الأطعمة التي اختارها
الطبّاخون للمساجين، وتكفيهم إذا أكل كلّ سجين حصته فقط، لكن التعقيد هو أنه غير
مسموح للسجين أن يحتفظ بأيّ طعام منها، فقط يجب أن يأكل من الطاولة، وخلال دقيقتين
كلّ يوم، ومع نزول المنصّة طابقاً وراء طابق، تقلّ فرص الحصول على الطعام اللذيذ،
فيحصل مَن في الأسفل على بقايا الطعام.
الفيلم الذي مدّته (1:34:50)
عبارة عن كوميديا من الخيال العلمي المتطوّر فكرياً وذهنياً وغرائبياً، يدقق المُشاهد
من خلاله لفحص المبادئ العليا التي تحكمه، وهو من تأليف «ديفيد ديسولا» و «بيدرو
ريفيرو»، ومن إخراج الإسباني الباسكي «جالدير غاستيلو أوروتيا». تم عرض الفيلم
لأول مرة في مهرجان «تورونتو» السينمائي الدولي 2019م، حيث فاز بجائزة «خيار
الشعب» وجائزة «جنون منتصف الليل».
ربّما القارئ بعد أن يشاهد
الفيلم يسأل: ماذا يتبقّى للسجناء في الأدوار السفلى؟ وما الذي يجبر مَن في الأعلى
أن يلتهم كلّ شيء مع إدراكه أنه بعد شهر من الممكن أن يستفيق فيجد نفسه مهمّشاً
مستكيناً في الأدوار السفلى؟
هنا يبدأ السجناء بالتناحر
والقتال، أيّ أن يأكلوا بعضهم بعضاً بكل ما للكلمة من معنى «أعِدْ قصّة شنق
ايموغيري إلى ذاكرتك»، ورغم أن السجناء يدركون أن الأدوار تتغيّر كل شهر، وأنه كان
من الممكن أن يحافظوا على حياة الجميع طوال فترة السجن إذا التزموا بأكل حصّتهم
فقط، فإنهم يُفضِّلون التعامل وفق نظرية ليس للضعيف سلطة على القوي، وهنا الجشع
والأنانية يقومان بمهامهما على أكمل وجه.
إن الجشع والمشاعر
الحيوانية لمَن هم في المستويات العليا قادت غورينغ في نهاية المطاف إلى التعاون
مع زميله الجديد «بهارات» الذي يلتقي به في المستوى (6) وهو أفضل ما وصل إليه خلال
رحلته هذه، فيفكّر بالتغيير، فيعملا على وضع خطّة تقضي بأخذ المنصّة إلى المستويات
السفلية، والعمل كحرّاس عليها، وبالتالي يمكن ضمان وجود ما يكفي من الطعام للوصول
إلى جميع السجناء.
وللجشع الذي هو في الغالب
العامل المحفّز للسجناء يعرقل خطّة غورينغ، فالفيلم يستكشف تأثيرات هذا الجشع وكيف
أن مَن بالأعلى لا يشعرون في كثير من الأحيان بالندم على استهجان مَن بالأسفل،
فتسقط الأحداث بنفسها على مأساة الذهنية الراهنة وسلوكها وظروف تغيّراتها.
قصة الفيلم غرائبية
كافكاوية، يتدفّق منها الاستفسارات الغثيانية المستمرّة، فيها كوميديا سوداء قائمة
على العنف والقسوة، مليئة بالسيميائيات السياسية، من تحوّلات في اليسار واليمين،
ومَشاهد مدهشة تدهش دهشة المُشاهدين بساديتها المذهلة والمشّوقة، ينقل فرضية
الرحمة إلى عديم الرحمة من خلال هيكل عمودي.
يطرح الفيلم أسئلة لا
نهاية لها، إذ تبقى أجوبتها مرهونة بيد العلم والتكنولوجية والأوبئة التي
يصطنعونها في المراكز والبحوث العلمية المتطوّرة، إلى جانب الأنظمة المستبدّة
والمحصّنة خلف الحقوق الإنسانية والمنظمات الدولية والديمقراطيات والحرّيات، ومن
هذه الأسئلة:
لماذا يشعر الفقراء
والمنحوسون بالحاجة إلى الرعاية الدائمة، والعكس أيضاً بالنسبة للأثرياء
والمحظوظين؟ لماذا الأثرياء يخزنون كل الطعام قبل أن يتم تمريره للمحتاجين؟ وما
سبب عنف السجناء الكبير في المستويات السفلية لبعضهم البعض والكابوسية التي فيها؟
وهل يلومون بعضهم البعض، أم المجتمع الذي ولدوا فيه، أم الحكومة التي وضعتهم هناك؟
أين هي العدالة؟
لكن في نهاية الفيلم يُطرح
أهم سؤال جوهري ووجودي، الذي من خلاله بنى الفيلم عليه فكرته وحقيقته العلمية، وهو
أن الطفلة كانت في المستوى (250) حيّة ترزق وبصحّة جيدة، فما الهدف من وضعها في
السجن، رغم أن هناك مَن أكد لغورينغ بعدم وجود الأطفال في هذه الأماكن؟! وهل
الطفلة هي الرسالة أم حلوى «البانا غوتا»؟ وهل ستتغيّر رؤية الإدارة أو النظام
بإيصال الرسالة إلى آلهة الأولمب (أصحاب الثروة)؟
ربّما الجواب – كما فسّره
الصديق محمد بركل – الذي أيضاً تابع الفيلم، في أن القضية من وجود الطفلة هو تضحية
الكبار بأنفسهم وإنقاذ المستقبل، فمَن يصنع التغيير لن يحصل على النتائج، فالرسالة
هي الطفلة نفسها، التي صعدت بها المنصّة سريعاً في الدقائق الأخيرة إلى الأدوار
العليا، وصولاً إلى الطابق صفر، الذي تقيم فيه الآلهة.