رياض حَمَّادي / خاص سبا
في
فيلمه "وطني الحلو وطني المر My Sweet Pepper Land", يضع المخرج
الكردي " هينر سليم " يده على المشكلة الكردية- والعربية، واليمنية تحديدًا. فالآغا
الكردي هو شيخ القبيلة في اليمن. أما المشكلة فتنحصر في غياب الدولة أو تغييبها،
وفي الصراع التقليدي بين سلطة القانون وسلطة المشايخ الرجعية،
صراع بين العلم والجهل. والآغا في الحالة الكردية، أو الشيخ في الحالة اليمنية والعربية،
يضع العراقيل أمام أية محاولة لحضور الدولة وفرض سلطتها.
رمزية المكان وصراع العلم والجهل
آغا
عزيز هو الآمر الناهي في كل شؤون القرية التي يمكن اعتبارها الوطن الرمزي للكرد. وما
تحتاجه هذه القرية هو التعليم ودولة القانون. لكن انتشار التعليم وتحقيق الأمن
يشكلان خطرًا على مصالح الآغا التي يقدمها على حساب الوطن. ولهذا السبب يحارب
الآغا التعليم ممثلًا بالمعلمة جوفند (جولشفته فرحاني) ويحارب الدولة أو القانون
ممثلًا بالضابط باران (كوكماز أرسلان).
في هذه القرية الصغيرة يقاتل الكردي أخاه الكردي، فالمشكلة في الأساس، كما تلمح أحداث الفيلم هي مشكلة داخلية كردية كردية، قبل أن تكون مشكلة خارجية.
في هذه القرية الصغيرة يقاتل الكردي أخاه الكردي، فالمشكلة في الأساس، كما تلمح أحداث الفيلم هي مشكلة داخلية كردية كردية، قبل أن تكون مشكلة خارجية.
إن
تركيا لا تحتاج إلى ذريعة للاصطدام بالأكراد، أو كما جاء على لسان جوفند: "عندما
تكون كرديًا وأنثى في تركيا فهذا في حد ذاته تمرُّد." ويأتي الحل على لسانها
وهي تخاطب باران في إمكانية الاختلاف في القضايا السياسية وضرورة الاتفاق في
القضايا الأخلاقية. تقول له جوفند: "كلنا أكراد." فيقتنع باران بوجهة
نظرها ويعمل على توفير الأدوية للمقاتلات الكرديات اللواتي يحاربهن آغا عزيز
ورجاله ويصفهن بالمتمردات. هذا الموقف يُعبِّر عن رؤية المخرج للقضية. إذ يقول في
إحدى لقاءاته: " أرى كردستان بعين جمالية أخلاقية. إن القضية بالنسبة إليّ هي
قضية إنسانية أخلاقية دون أن تشغلني السياسة وألاعيبها."
تناضل
جوفند من أجل التعليم ومن أجل تحقيق هدفها تواجه أبوها وإخوتها وتنتقل من المدينة
إلى القرية لتعليم الأطفال. في الوقت نفسه تمنحها هذه الوظيفة الفرصة للابتعاد عن
إلحاح أسرتها بالزواج من تقي الدين. باران كذلك يبحث عن مكان يفر إليه من إلحاح أُمه
بالزواج. يلتقيان وهما في طريقهما إلى القرية لاستلام مهامهما. وأولى بوادر
التعاون بينهما تظهر من خلال تقديم باران يد المساعدة لجوفند لتركب خلفه على ظهر
الحصان. تلك القرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا مشيًا أو على ظهور الخيول؛ بسبب
قطع تركيا للجسور, وهذه أول علامات العزلة التي فُرضت على القرية من الخارج
سيتبعها علامات أخرى لفرض العزلة من الداخل ومن أهل القرية أنفسهم.
في
القرية يدعو عزيز آغا الضابط باران لتناول العشاء وهي مناسبة ليحذره مما ينتظره،
فيُذكِّره بما حل بالضابط السابق وكيف قُتل بطريقة بشعة. بهذه الدعوة يضع الآغا
الضابطَ أمام خياريّ الترغيب والترهيب، لكن هذه اللغة لا تُثني باران عن محاولاته
فرض سلطة القانون وهي محاولة تصطدم بالسلطات الأعلى التي يبدو أن عزيز آغا استطاع أن
يرشوها بالمال الذي يجنيه من تهريب البضائع والأدوية منتهية الصلاحية. وعندما لا تنفع
لغة التهديد يلجأ عزيز آغا ورجاله إلى نشر الشائعات التي تنال من سمعة باران
وجوفند. فتصل الشائعات إلى أهلها الذين يحاولون إعادتها إلى البيت وإقناعها
بالزواج من تقي الدين.
واقع صعب ونهايات محتملة
حتى
هذه المرحلة من السيناريو يُوضع المشاهد أمام ثلاث نهايات ممكنة: واقعية/حزينة.. سعيدة.. ومفتوحة.. فأيها سيختار هينر سليم؟
تبدأ
الأحداث بالتحول نحو نهاية غير متوقعة عندما يدير باران ظهره للكاميرا، بعد أن
تخبره جوفند بأنها استسلمت وسترحل عن القرية. بهذه اللقطة يدير المخرج ظهره لواقعنا
وكأنه يقول للمتفرج بلغة الكاميرا: "لا شأن لي بواقعكم، سأختار نهاية تليق
بقصتي." يتم التمهيد لهذا التحول بالموسيقى التصويرية، وذلك باستبدال موسيقى
الهاندباند بموسيقى الهارمونيكا. قبل هذا المشهد كانت موسيقى الهاندباند هي
السائدة في أغلب مشاهد الفيلم وهي موسيقى تعكس اللغة المسالمة وخطاب الإقناع, ثم
يستخدم موسيقى الهارمونيكا في هذا المشهد، وهي موسيقى تُذكرنا بأفلام الغرب
الأمريكي ونهاياتها الدموية.
لا
يمكن للدولة أن تفرض القانون بالإقناع وإنما بالقوة، وهذا ما يحدث في النهاية. فتنتقم
المقاتلات الكرديات لمقتل رفيقتهن على يد رجال الآغا وذلك بقتل رجاله وإصابته هو
شخصيًا. ويتلقى تاجدين إذنًا من آغا عزيز بقتل الضابط فيذهب إلى قسم الشرطة لينفذ
المهمة لكنه يُقتل على يد باران الذي يذهب إلى منزل آغا عزيز ويقتله، وهو في
الحالتين لا يقتلهما إلا بعد أن يرفعا السلاح عليه فيكون قتلهما دفاعًا عن النفس. وتفرض
جوفند شخصيتها القوية بالتمرد على قرار إخوتها بإعادتها إلى البيت. وفي آخر مشهد نرى
باران وهو يبحث عنها ويناديها بصوت يتردد صداه في البراري, وينتهي الفيلم
بابتسامتها التي تعد بواقع مختلف بعد أن أزيلت أهم عقبة تعترض طريقهما.
تذكرني
قصة الفيلم بحادثة تروى عن الشيخ اليمني عبدالله بن حسين الأحمر. ذات يوم وهو في
طريقه بسيارته الفارهة إلى العاصمة شاهد مجموعة من التلاميذ وهم في طريقهم مشيًا
إلى المركز الامتحاني, ولأن التلاميذ لم يُحيُّوه بالطريقة الخاضعة التي اعتادها من
رعيته قرر نقل المركز الامتحاني من منطقته؛ حتى لا يتمكن التلاميذ من استكمال
تعليمهم. رأى الشيخ في المدرسة والتعليم عدوًا سيحرمه من سلطته وهيمنته ولذلك اتخذ
من مقولة: "جَهِّل شعبك يتبعك." شعارًا عمليًا طبقه على قبيلته، مثلما
فعل ذلك نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي فرَّغ التعليم من محتواه فصارت
الجامعات تُخرِّج جهلة بشهادات عالية.
وطن مفتوح وسينما بلا أيديولوجيا
المخرج هونر سليم
تنسجم
هذه النهاية مع مفهوم هينر سليم للسينما. يقول في أحد لقاءاته: "أنا لا أعلم
ما هو الشر وما هو الخير في أفلامي. ولا أعرف ما هي السينما التي تُغيّر وجه
العالم. كل ما أعرفه هو أنني أُعبِّر عن نفسي أولًا وأخاطب البشر أينما كانوا من
دون أن أكون وصيًا أو واعظًا أو موجهًا... إنني أتحدث عن التراجيديا الكردية
وفصولها الدامية بالإحساس نفسه الذي أتحدث فيه عن طقس أفريقي منسي أو أكلة
تايلاندية... بهذا المعنى يمكن القول إنني أبحث عن هموم الإنسان وأحلامه وتطلعاته
بعيدًا عن أي أيديولوجيا. أيديولوجيتي هي الإنسان وبالتالي فإن سينماي هي سينما الإنسان. إنني
حين أطرح القضية الكردية بهذا الشكل أو ذاك فذلك نابع من مبدأ إنساني في أن يتحرر
البشر جميعًا على هذه الأرض. ولأن الأكراد قد اضطهدوا طويلًا فهم في أفلامي نموذج
للشعب الذي يبحث عن حريته." السينما وفقًا لهذا المفهوم لا تعتبر قديمة أو
حديثة, شرقية أو غربية, مستقلة أو تجارية, ما دامت قادرة على مخاطبة الإنسان في أي
مكان وزمان.
يمكنكم مشاهدة الفيلم من خلال الرابط :