-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

امرأة من كوكب آخر



خديجة بلوش - المغرب  /خاص سبا


ثمّةَ خطواتٌ تملأُ سكونَهُ اليومَ. أرفعُ رأسي عن الوسادةِ الباردةِ وأُغمضُ عيناً لأفتحَ الأخرى على اتساعها، كي أنظرَ إلى الساعةِ المضيئة في هاتفي الصغير. إنّها السادسة. أغمضتُ كلتا عينيَّ وحاولت أن أتذكر .. في أيِّ يومٍ نحنُ؟؟ -لا تحاولي. لقد توقّفَ الزمنُ عند نقطةٍ بائسةٍ. -أيُّ يومٍ هذا؟؟ -أخبرتُكِ أنْ لا تسألي .. -هل هو أحدُ تلكَ الأيامِ التي اضطّر فيها للخروجِ باكراً لألحقَ بالحافلة؟؟ لمْ يعدْ من وجودٍ لتلك الأيّام أيّتها الغريبةُ.

سأعودُ للنوم إذاً، أهمس لنفسي. سأقتصُّ من كلِّ اللحظاتِ التي انتزعتُ فيها جسدي النحيل من دفءِ الفراشِ، لأدفعَهُ خارجاً في البرد القارسِ، لكي أقفزَ فوق المسافاتِ لتوصلني لجحيمِ "الهناك."  تنتابُني غشاوةٌ وهذيانٌ وأسقطُ في بئرٍ عميقةٍ .. يهتزُّ جسدي على إثر يدٍ ما .. _استيقظي أيّتها الشقية. لنْ تلحقي بالحافلة.. أستيقظُ مفزوعةً، ويكادُ قلبي يسقطُ من بين ضلوعي..هل كنت أحلُم؟؟ _كفاكِ نوماً. إنّها السابعة. ألملمُ شَتاتَ روحي، واحملُ نفسيَ بانكسارٍ نحو صنبورِ المياهِ الباردة. تقولُ أمي أنَّ أفضلَ طريقةٍ لطردِ النومِ والكسل هو الاغتسال. أقفُ لدقائقَ متردّدة بينَ فتحِ الصنبورِ أو العودة ِ للفراش . ثقلٌ مفاجئ يطرقُ صدريَ فأتنبّهُ لما ينتظرُني إنْ تقاعستُ. مرّت أربعةُ أيامٍ منذ آخر زيارة لهناك. لم يعدْ جسدي يحتمل. تبدو اللحظاتُ طويلةٌ على غيرِ العادةِ أيضاً. ترفضُ القهوةُ أنْ تفورَ، وقنينةُ الماءِ الصغيرة فارغةٌ، ولا رغبةَ لديَّ في ملئها. وحقيبتي تعمُّها الفوضى. هل سأجدُ مكاناً صغيراً لروايةٍ أدسُّها على عجلٍ كي تكونَ رفيقتي؟؟ -ماذا ستلبسينَ؟؟ -كأنّ الأمرَ مختلفٌ..سألبسُ ما ألبسه دائماً. -هل تقصدينَ ثوبَكِ الغامقَ الفضفاض؟؟ -هل أملكُ غيرَهُ؟؟ -اسرقي من خزانتِها ثوباً مختلفاً. -لن يسرّها الأمرُ. -جرّبي. لن تلاحظَ حتى. ألوّحُ بيدي أمام المرآة: أغربي عن وجهي، ما عدّتُ احتملكِ.. ثوبيَ الغامقُ أغطّي به تفاصيلي النحيلةَ، وأضمّدُ جرحاً داخلي بدأَ بالنزيف. الطريقُ طويلةٌ والساعاتُ تتسرّبُ من مساماتِ جلديَ المرقّط. أفتحُ البابَ الكبيرَ. أترفّقُ بهِ كي لا ينتحبَ. تجتاحُني فجأةً رغبةٌ في الركضِ. الزقاقُ مظلمٌ، والخوفُ يتسرّبُ من زواياهِ المُعتمةِ لقلبيَ المترقّبِ. يشبهُ الامرُ فيلماً مُرعباً في كلّ مرّةٍ أضطّرُ للخروجِ في مثلِ هذا الوقت. "أركضي" يصرخُ صوتٌ في داخي. أرفعُ خطواتي بجهدٍ عن الارضِ واحاولُ أن أقفزَ فوقَ حُفرٍ لا مرئيةٍ، ويدٌ خفيّةٌ تلاحقني لتلمسَ كتفي. ألهثُ وانا أسحبُ نفسي لأسقطَ اخيراً إلى بقعةٍ مضيئةٍ، وينتهي فصلٌ صغيرٌ من رحلةِ الذهاب إلى هناك.. الوقوفُ على الرصيف يشكّلُ تحدياً آخرَ؛ الشارعُ شبهُ فارغٍ إلا من بضعةِ أشخاصٍ يمضونَ سحابةَ ليلهم وجزءاً صغيراً من الصباحِ الباكر هناك. يختفونَ بمجرّدِأن تبدأَ خيوطُ الصباحِ في الظهورِ. قد تصلُ الحافلةُ اللّعينةُ في أيِّ وقتٍ، وقد تمضي دقائقُ لانهائيّة ولا تصلْ. في كلّ الحالاتِ سأصلُ إلى هناك... في الطريقِ أستمعُ خفيةً لصوتٍ يصدحُ بجمالِ الصباحِ وهيبةِ البنّ الذي يبدأُ به الحالمونَ نهارَهم. بجمالٍ ينبثقُ من أرواحٍ تحملُ على عاتقها نشرَ الفرحِ بين جموعِ البائسينَ، وابتساماتٌ يستلمُها الصغارُ من حقائبَ أمهاتهم عند أبوابِ المدارسِ. قُبلٌ صغيرة محمّلة بشحناتِ حبٍّ لا تنتهي. ليسَ كلُّ الصغارِ محظوظونَ أيّها الصباحُ؛ ثمّةَ مَن يتسلّقونَ تفاصيلَه وحيدينَ، لا يرافقُهم سوى حزنٌ أتقنَ تَلبُّسَ قلوبِهم الصغيرةِ، وخوفٌ ممّا ستأتي به اللحظاتُ التعيسةُ.. قد أصلُ قبلَ الوقتِ. أو بعدَ الوقتِ. يظلُّ المكانُ على حاله بكلِّ الاحوال؛ فراغٌ كالح رغمَ تزاحُمِ الأسرّةِ، ورغمَ الأصواتِ الناشجزة المرتفعة، رغم الفوضى التي يختلجُ بها الفضاءُ المعتّقُ بروائحَ بغيضة. -ماذا عن الحديقةِ خارجَ المكان؟؟ -إنّها مقبرة -هي حديقة. رأيتُ شتلات الورودِ والعشب الانيق. -الوردُ الصغير ذاك بدونِ رائحةٍ تُذكر، والعشب مجرّدُ لوحةٍ باهتة. -هي حديقة. أصرُّ على الأمر. أرمي الصوتَ خلفي وأنا ادلف إلى المكان. يستقبلني البياضُ على الارضيّةِ الباردة، وتتلقّفني الجدرانُ الصفراءُ الكئيبة، وتحملُ الروائح اكثر مخاوفي بشاعةً لتصفعني.. -صباحُ الخير أيّتها الغريبةُ أتمتمُ بوهنٍ مبالغ فيه –صباح الخير يا ذاتِ النظراتِ الرهيبة هي لا ترى، لكن سمعُها الحاد يتصيّد خطواتِ الوافدينَ، وتعرفُ الأسماءَ من روائحهم. -كيف تعرفين مَن أكون؟؟ -خطواتُك لا تشبه البقيةَ؛ تُسرعينَ للوصول إلى السريرِ، وعطركِ.. رائحةُ البنّ الذي تحملينه معك مثل ترياق .. -والأخربات؟؟ -العجوزُ التي تحتلُّ السريرَ أمامي أعرفُها من نقرِ عكازِهَا على الأرض، ومن قدميها اللتين تسحبهما لتتركَ أثراً على البلاط. المرأةُ التي على يساري أعرفها من ضحكتها الخليعةِ، والهادئة التي بجانبكِ أعرفها من عطرها الصارخ. أمّا المرأةُ التي تصلُ متأخرةً فمن سُعالها المزمن.. أربِّتُ على يدِها، وأقولُ لها باستسلام: "لتكن الساعاتُ المقبلةُ رحيمةً بك، وبي، وبالأخريات". تبتسمُ وهي تجاهدُ لتفتحَ عينيها، كانما لتعتقلَ أكبرَ كميةِ ضوء تصلُ من النوافذ المعتمة. تنزلقُ الخيالاتُ حتماً من خلالها لظلماتٍ تكتنفُ بصرَها الملتحفِ بالبياضِ منذ سنين.. أفتحُ حقيبتي لأخرجَ كنوزي الصغير؛ إبريقَ قهوة وفنجان مختلف كلَّ مرةٍ. هاتفي وسماعاتِ الأذن وكتاباً أو دفتراً. مالذي سأفعله خلالَ الساعاتِ الخمسِ المقبلة؟؟ قد أقرأُ في الكتاب لكي أشتّتَ انتباهي عن المكان. لا احبُّ نظراتهنَّ. لا أحبّ تجاذبَ أطرافَ الحديثِ معهنَّ؛ تكثرُ أسئلتهنَّ كلّما فتحتُ لهنَّ المجال. لا أحبُّ تلقي الأسئلةِ ولا أجيدُ طرحَها.. وزني اليوم تجاوزَ المعقول. ستكونُ حصّةُ العلاجِ ثقيلةً ومؤلمة، وقد لا أتمكّنُ من إكمالِها، و قد أصمدُ. مَن يدري. قد أكتبُ إنْ فشلَ الكتاب في تشتيت الإنتباه. قد أدوّنُ بضعَ ملاحظاتٍ عقيمةٍ، وقد تكونُ عميقةٍ، شذراتٍ تُخرجني من جو المكان البائس. أسكبُ بعضَ القهوة في الفنجانِ البنيِّ، وأكتفي بترقّبِ الوخزِ المُخيف. سأفكّرُ في غريبٍ يرسمُ لوحةً لنساءٍ جميلات، ملامحُهنَّ لا تشبهُ ملامحَنا، وأثوابهُنّ انيقة زاهية، وسيضعُ في الخلفيّةِ نهراً أزرقَ أو غابةً خضراء، وستكون السماءُ فوق رؤوسهنَّ بلونٍ فيروزيّ جميل. أرفعُ رأسي للسقفِ ويرعبُني البياضُ الذي لا يتزحزح؛ البياضُ الذي يشي بالموتِ الذي يترقّبُ الأجساد المستلقيةَ على الأسرّة المهترئةِ، والدمُ الذي يتسكّعُ خارج الحدود. قد أتخيّلُ زائراً وهميّاً، ثم تعلو ابتسامةٌ بلهاءُ ملامحي. مَن قد يتنازلُ عن وقته الثمينِ ليدخلَ هذا الفضاءَ المُعتمَ، مَن سيحتمل همهمات المُغيّباتِ عن الوجود.سأسمعُ همساتهنَّ المرتابة؛ "من يكون زائرُها الغريب؟؟". لن أنظرَ إليهنّ، وسأتركَ الفضولَ ينهشُ ما لم تنهشه المواجعُ من أرواحهنَّ المتعبة. زائري قد يكون غريباً، لا مرئياً، لا أحدَ غيري سيراهُ، وسأتعمّدُ أن لا اهمسَ، سيكون حواري معه صامتاً مثل كل الحواراتِ التي خُضتها سابقاً، وسأخوضها فيما بعد -يالكِ من غبيّة أتحسّسُ الجهةَ التي يخترقُها الجمودُ وأنتظر. ستنتهي الآن من جلدي وسأخرجُ مُثقلةً بالهزائم مثل كل مرة؛ وزنٌ ناقص ودم أقل وألم كثير.. وفراغ أكبر... لن أنظرَ خلفي حين أخرجُ من المكان؛ يؤلمني انعكاسُ التعبِ الذي أشعرُه في ملامحِ الاخرياتِ. شحوبٌ يُخبرني بمدى بشاعةِ وجهي، وتغيّرٌ ملحوظٌ في الملامح. - مَن أنتِ؟؟ المرايا التي أمرُّ بها تسألُني مجدداً. لستُ أنا من دخلَ إلى هنا صباحاً، ولستُأنا مَن يُغادره الآن، إنّها التي كانت تلاحقُني منذُ الأبد. تستميتُ في ملاحقتي، وتتلبّسُ جسدي بعدَ كلِّ جلسةِ علاج. -أنا مريضة . فاشلة. -لن أرضى بهذا الإسم.. -اختاري إذن غيرَه.. -ما رأيكِ بامرأةٍ استثنائية؟ - تركتُ خلفي الكثير مثلي، وغيرُنا سيأتي في المساء.. ألوّحُ بيدي للإنعكاسِ البغيضِ، وأمضي أجرُّ خطواتي نحو الرصيف . قد أنتظرُ في المحطة لساعاتٍ أخرى لئيمة في انتظار حافلة تقلّني في رحلة العودة المُملّة. تتناسلُ الدقائقُ لتشكّلَ دهراً، والجوعُ أكثر ما يُرعبُني: "متى نصل للبيت؟؟" -هل صرنا الآنَ اثنتين؟؟ أبتسم في استسلام؛ فأنا وأنا الأخرى نتّحدُ في كلّ رحلةِ عودةٍ، وتنتهي التساؤلاتُ ليحلَّ محلَّها تعبٌ رهيبٌ، وبوادرُ صداعٍ سيستمرُّ للغد أو أبعد...
                               
تعديل المشاركة Reactions:
امرأة من كوكب آخر

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة