-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

ماذا كنت أتوقع ؟




خديجة بلوش / المغرب


لم تعد توقعاتي مهمة، تناسيت منذ زمن طويل أن أحلل توترات الجو أو ألون إطار باهت لصورة تسقط من العدم.
يرتفع صوتها، تسأل عن وجهة اليوم.

هو صوتي، نفس الصوت الذي أردعه عن الخروج كل مرة من قرارة حنجرة أتعبها التحدث للفراغ. نتشابه كِلتانا في كل شيء، في الوحدة التي تغلف روحينا، في التعب الذي نستشهد به حين تعج أوقاتنا بالفراغ، في النسيان الذي نراه متعة وفي ذاكرة نستدل بها على لعنة تصيبنا كل حين، حين نتوقع دهشة تطفئ عطشنا للا تذكر.

لا ترتمي في غيابات الحبر، دعيني أطلب لك فنجاناً يشغلك عن النقر الرتيب على الحروف التي يعلوها الغبار.
لست بحاجة له، ربما أشعر بالراحة أكثر حين تلسعني سياط التعطش لهذا العطش.
قبل قليل كنت أفكر في خطة لتغيير الرتابة التي تعودّتها خلال كل هذا العمر. أستيقظ عادة على صوتها أنفض بسرعة كل النوم الذي يتشبث بي وأقف أمامها كانعكاس جميل لها في المرآة أو خلفها مثل ظل لطيف أسندها حين تصمت وأسرد على مسامعها قصة أشذب حواشيها القاسية.

هي لا تحب صوت التعاسة و لا صور الخراب. تشبه روحها طفلة تفضل اللعب بألوان لا تترك أثرها على البياض.
صوتي الذي يتغير مثل غيمة رمادية تود الهطول على سفح تلّة لكن الرياح تأخذها للهطول على حافة نهر كبير أو على رمال شاطئ مهجور.
هو يرتفع حين يعمّ الصمت أركان الفضاء وينخفض حين ترتفع وتيرة المكان بالصخب، يردده الصدى متقطعاً مثل فواصل لا مكان لها، يأتي مبهماً مثل جعجعة الرياح.
ماذا ستكون وجبة الغداء لهذا اليوم؟ يقطع صوتها خيط أفكاري.

ألتفت إلى حيث تجلس بهدوء، تغمرني السكينة وأبتسم. هو نفس المكان الذي أراه في حلم وحيد يظهر ويختفي لكنه يظل حلماً أراه جميلاً؛ شرفة عالية، كرسي هزاز، فنجان صغير مزخرف بزهور خفيفة وجبال بعيدة تظللها سحب صغيرة.

ما أجملك اليوم! لا يخرج صوتي وأتجاهل الأمر. ربما لو قلت أن اليوم يبدو كئيباً لوصل الصوت للجبل البعيد ونثره الصدى في الفضاء، ما أجمل هذا الفضاء!
أتمسك بالفكرة قبل أن تلوي هاربة، فخيالي منذ بعض الوقت مريض عليل، وعيوني ما تزال شاردة في المدى البعيد.
أنوي اللحظة أن أكتب عن متعة زائلة تشبه كل المتع الصغيرة البالية، أن أرتدي اللون الذي يجعلني أركض في متاهات روحي التعيسة وأنشج مثل مزراب مكتظ بسيول المطر.

أنا أدرك جيداً أن النساء الحكيمات لا يذرفن الدموع، يكتمن ما يشعرن به من ألم كي تورق الخيبات تحت مساماتهن فيما يشبه الوشم، رسومات خليعة يُخبّئنها تحت فضفضة الظلال. اللون الذي يستهويني لم أجد بعد مقاساً له يحتوي حجم أحزاني الكثيرة، لم أجد سوى قطعة صغيرة بالكاد أخفي تحتها جرحاً ندياً جديداً.

ثم أسأل نفسي فيما يشبه الرفض: ما عساني أفعل بالجراح القديمة العتيقة؟
هي تتحلل في قطرة ماء ثم تلون الظلام الذي يستمر في الزحف حول نظرتي للحياة ثم يمتد إلى ما لا نهاية، ثم ماذا بعد؟ يقفز الصوت ليدمر آخر حاجز بيني وبين الواقع الفاقع.

أشعر بالجوع. هي تدرك أنني لا أحب أن أكون انعكاساً لها، تعلم أني منذ الأزل أحاول أن أزيل عن قلبي كل الشوائب، أن أفرح لابتسامة وأذرف دمعة لحزن عابر، ألّا أكره الرياح التي تدفعني بعيداً عن مواسم التوهج وألّا أشعر بالغيرة من ربيع الآخرين.

تفتح متعمّدة أدراج ذاكرتي في حضوري وفي غيابي كأنها تقول بصوتها القاسي أحياناً: أنت وذاكرتك السخيفة ملكي.
لا أحب أن أكون مثلها. هل أنا ظلها أم هي ظلي؟ لم أنفصل بعد عن نفسي،ثم ماذا؟

نبدو غريبتين كلما تقدمنا في العمر وكل تشابه سيكون من قبيل الصدفة لا أكثر. تُصدر أنيناً متقطعاً وتهمس لي كأنها تهمس لنفسها، قد لا تشبهين الجرح القديم على جبين صباحي المتكرر لكن قلبك يتشبث بي كما يتشبث غريق بقشة.

قلبي... أضع اليد التي أبَتْ أن تطعن المساء المتعجرف على النبض الصغير وأتنكر للطبطبات القوية التي تنقل إليها كل ما يدور بداخلي من عواصف الأفكار، كيف أشغلها عن تلك القصص التي تولد في برك الدك العاصفة؟ أرتب لها كل تلك الورود الصغيرة التي أرتجلنا الوانها الغريبة في لحظة توافق قصير. أخبرها عن قصة الوريقات القصيرة التي لا تنمو كي لا تحجب الشمس عن ورودها. تهمس بلؤم: مثلك أنت. تجتاحني نوبة ضحك صاخبة.

هي محقة تماماً، ومهما اختلقت الحواجز والتناقضات كي أبعدني عنها فهي تزداد تشبثاً بي مثلما أزداد تعلقاً بها.
سأرتب الشرفة الوهمية في لاحق الأيام لتناسب صراعاتنا الفكرية وكي لا تتسرب أخبار الورود الغريبة للحقول البعيدة. كل شيء في عالمي أنا وأنت قابل للكسر وقابل أكثر للالتئام مثل روحينا.

نحن ننبت مثل دالية عنب وحيدة في الفراغ، نمتد حيثما شاء لنا خيالنا القوي ونذبل حين نتوقف عن اصطياد المفردات التي ترسم أفكارنا  المكتظة بدواخلنا، لن نخسر شيئاً نحن ظلان يستمدان الضوء من ثغرات الجدار الذي يفصل بين عالمنا وعالمهم.
تعديل المشاركة Reactions:
ماذا كنت  أتوقع ؟

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة