خديجة بلوش / خاص سبا
ما
عدت أشبه تلك التي كانت تحتفي بالفصول، تلك التي كانت وريقات الخريف الصفراء
متعتها الباذخة، وقيظ الصيف من لحظاتها المتخمة بالحنين، وصهيل رياح الشتاء فرصتها
للتأمل، وبزوغ زهور الربيع جنتها الماتعة.
تغيرت
كثيراً وليتني لم أتغير.
تتقاذفني
الآن تيارات من التيه ولا أكاد أجد سقفاً يحمي أفكاري من البؤس ولا قشة تنقذني من
الغرق في تفاصيل الحياة.
ما
زلت رغم ذلك أطارد الشرفات في خيالات المساء الكئيبة وأرسم نوافذ على جدران وحدتي.
أنا
المتعلقة بالسماء والمتجذرة في عمق الأرض مثل جذور شجرة ترفض الانزياح.
أحاول
في كل مرة أصطدم فيها بنفسي أن أعيد ترميم ذاتي وأمنحني لوناً متجدداً يليق بكل
وقت وكل غصة وكل صفعة ألم.
أحاول
أن أكون أنا ولو لفترة قصيرة قبل أن أتسرب مني في عمق متاهة تضيعني في كل محاولة.
أنا
متناقضة إذ أحاول أن أبدو على عكس ما أنا عليه.
حتماً
لا... أنا الأكثر صدقاً حين يتعلق الأمر بما نحن عليه.
–
مَن أنتم؟
–
أنا وهُمْ، ظلالي التي أشكو منها وتشكو مني.
أكثر
ظل يشاكسني هو الأقرب لي، أول ظل أقترفه منذ أن تعلمت الوقوف في اتجاه الشمس، أول
ظل يتشكل مني، ظل فاره وجميل هكذا أراه وهكذا أحبه أن يبقى.
لكنني
أقتله في كل مرة أحاول أن أصقل فيها
أطرافه كي يبدو أكثر أناقة وتناسقاً.
أنا
أحطمه دون أن أشعر و لأنه ظلي فهو يتحاشى الصراع معي يتركني على هواي وحين أغفو
يحاول أن ينتقم.
– هل
تنتقم الظلال؟
– هي
مثل الأطياف، تحاول أن تكون خارج نطاق سيطرتنا النرجسية، خارج فصول غرورنا
التكويني.
–
والظلال الاخرى؟
–
الظلال الأخرى، لكل ظل قصته
لكنها
ليست بعناد الأولى.
هي
تتماهى معي، مع كل خطوة و التفاتة مع كل انكسار للضوء ومع كل توهّج ولو كان
عنيفاً، تسايرني في كل شيء، وحتى في موت أتطلع إليه أو حياة أريدها مليئة
بالغرائب.
– لم
تخبريني كيف ينتقم الظل العنيد؟
– هو
عادة يرسم ظلاً لظله و يقص أطرافه بلؤم وقد يتمدد ليشكل جداراً أو سماء ثم يسقط.
– هل
يتلاشى؟
–
يتحطم ألف مرة وقبل أن تنتهي غفوتي يعيد تشكيل ذاته ليدهشني بالضوء الذي يخترقه.
يؤلمني
الأمر في كل مرة وكل انعكاس للضوء في تلك الانكسارات هي جرح يقسم نبضي.
– هل
يقتلك النبض المتشظي؟
–
أنا لا أموت.
هي
جملة يقولها الظل، وأنا مثله لا تقتلني جراحات القلب ولا انكسارات الروح.
تقتلني
الفضاءات الملغمة بالعويل تقتلني نظراتهم حين أرسوا بميناء حلم عتيق على شواطيء
أوجاعهم.
– هم
يحلمون أيضاً؟
لكنني
ظل قاس مشيد في طريق أحلامهم.
أنا
أتكرر مثل لعنة بغيضة.
–
حاولي أن تحلقي بعيداً عن أفكارك وظلالك التعيسة.
–
هذا ما أحاوله يا أناي، أن أتحرر مني كي أتحرر منهم.
هي
معادلة صعبة مثل أن تحاول أن تضع قلبك خارج جسدك أو أن تفرغ شرايينك من دمك.
– هل
الأمر بهذه الصعوبة؟؟
– بل
أكثر.
لا
علامات نسترشد بها حين نحاول الوقوف والخروج من المتاهة.
أنا
الآن تحت سماء لا لون لها وأقف فوق أرض لا رائحة لها.
لا
ملامح لي، لا اسم، لا شيء أستدل به علي.
–
حتى علامات الترقيم تسقط منك حين تحاولين الكتابة..
–
أنا لا أجيد الكتابة.
كل
ما أفعله أنني أضع علامة على كل جرح قابل للنزف وأترك أناملي تتلون بالحبر وأتركها
ترسم.
أنا
الغريبة الغريبة.
أنا
المنفية.
أنا
الوطن.
أنا
الأرض.
أنا
الطين.
أنا
المطر.
أنا
البذار.
أنا
الموت.
أنا
الولادة.
أنا
الألم.
أنا
الفرح.
أنا
القرح.
أنا
الظل...
والقليل
أيضاً من كل شيء محتمل...
– ما
أكثر ما ترغبين بتقمصه في هذه اللحظة؟
–
ربما زهرة أو فراشة، بل قطرة ماء...
الماء
وحده من قد نرغب بتقمص صفاته الرائعة.
–
ابتعدنا كثيراً عن ظلالك.
–
الظلال أيضاً بعضها من مطر.
–
لكنني ما زلت تلك التي لم تعد تنتظر اختلاف الفصول وأكثر ما يشعرني بالحزن أني لن
أكون أكثر من غصن وحيد لا تشمله التفاصيل المدهشة.
أرسم
خارطة لإمرأة تشبه التي تسكن جرحي
أكسر
فناجين قهوة ملت من سواد البوح
وشظايا
حزن بخاصرة اليوم.
–
مَن ينسج لليل نجمته الشريدة؟
– لا
أكتب حلماً، بل أكتب وجعي.
لا
تصغِ أيها الصباح لترهات مراهقة تعبث بالصمت.
كم
كنت أحتاج لنافذة من ذاكرة المكان.
سأسقط
الضوء الذي يربطني بالظلال.
أتركه
يتلاشى مثل سحابة مكتظة بالنواح وامضي صوب اللا شيء لعلني أترك خلفي أيضاً كل
الهواجس التي تلاحقني.
سأتركها
تمضي حيث تشاء و ترسم لنفسها أحلاماً بحجم امتدادها على الأرض وربما تلامس السماء.
حتى
الظلال يا أناي تحتاج لفسحة تكبر فيها بعيداً عن تقلبات مزاج يشبه الصراعات التي
تنشب بين النور والظلام.
–
وأنت أيضاً، تحتاجين لمن يحررك منك.
كوني
كما تشتهين لمرة أخيرة.