-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

أكتب ما أشعر به فقط



جان بابيير / خاص سبا


ملامحي التي ورثتها من الألم جعلتني أمضي جل أوقاتي مع الحزن وأمضغ  لحظاتي المُرّة بعيداً عن ما أريد أن أكتبه وحول أي شيء يتمحور. حتى الآن لا أدري ما هو الإطار الذي سأضع فيه فكرتي، تخيّل لو أكتب عن فتاة بأصابع نحيلة  تضع الروح من رؤوس أناملها في اللوحة لتنبض ببريق، وحياة وتصرخ من على القماش المشدود بوقاحة البياض على المسند، لأبتعد عن هذه الفكرة، باتت ترهقني، لقد ضاعت مني ملامح الفتاة، مثلاً لأكتب عن شاعر لا يصدّق خياله ولا يثق بمشاعره، كتب:
«جاء الربيع وركض المطر في الشوارع حافياً، ثم نسيت أمي أن تلقّم فم المدفأة بوجبة حطب لتخرس جوع البرد، وبقيت عظام الغرفة تصطك». ولماذا لم يفكر بإشعال الروث بدل الحطب؟

هربت منه الفكرة متوارية خلف باب ذاكرته المشبعة بلتر من العرق السادة دون كسره بالماء، فيطبق يده على عنق القارورة ويرمي بالأوراق من على المائدة. تهرب منه الكلمات المملّحة بعيداً، يتكئ على ظل صوره التي لم تطرق بابه، قد يكون الأصح الصور التي لم يقم باستدعائها، لكنها كصِبْية مراهقين دخلوا حلبة رقص ذهنه دون إذن فيكتب:
«سأقطر أصابعي واحدة تلو الأخرى لأروي عطش زهرة نبتت على سرتك»، ما هذا؟ يبعد هذه الصور ويمسك بياقتها الرمزية المبتذلة ويعلقها على حبل الغسيل، يعود ويستنشق رائحة الصباغ من أصابع تلك الفتاة النحيلة بصـمـت وقلب متورم بحلم نابت كالفطر في ربيع صدره، أنفاسي تتهالك على بعضها كقتلى في معركة خاسرة، يبدو أن العدوى جاءت إليّ من ذلك الشاعر الذي أتحدّث عنه فبت أكتب مثله، سوف أرفسه عند نهاية هذه الجملة، لأكتب على سبيل المثال عن رجل ستيني يفتح نافذة في خياله الأشيب ويختلس النظر إلى منبت صَبيّة مراهقة في إحدى المحطات في مترو الأنفاق، لنعمل على خلق قصة نكدّس الخيوط من أجل الحبكة لتكن لها مقدمة ونص وخاتمة، لكن هذا يحتاج إلى أن تقرفص أفكاري أو تضطجع وأتناول الموضوع بيد غير مرتجفة، بضعة أسطر أمهّد فيها للخيبة كما ورثت ملامحي، توقف القطار نتيجة عطب تقني، هذا يصلح لأن يكون طبقاً من مقبلات خفيفة لتأتي الأحداث دسمة أكثر من ثور تمّ تعليفه جيداً لحلبة المصارعة في إحدى مدن اسبانيا، هل يجب أن يكون فيها حب؟ نعم! لأخلق الحب وليكن مميزاً ذلك ومختلفاً ذلك الستيني حينما وقع في منبت ثدي تلك الفتاة المراهقة في المحطة، أستدعى معجزة ليبقى أكثر في محطة الحب بعض البهارات لتلك الوجبة الدسمة، لكن قبل أن أسطر تلك التفاصيل، هل أحتاج إلى الوصف جدلاً؟

كان الرجل الستيني يرتدي قميصاً فضفاضاً أزرق سماوي فوق بنطال من الكتان الخفيف، له عينان حادتان ولمّاعتان فيهما الذكاء والخبرة، ترتسم فوق جبينه ثلاث خطوط عريضة، عندما يحدق في شيء ما تتجعد جبهته أكثر وتزداد التجاعيد حول عينية، طويل القامة ذو أنف أفطس وجسم رياضي، يحمل هاتفاً كلاسيكياً صغيراً بيده، كان رجلاً بساقين نحيفتين له كرش صغير وبيده هاتف «أندرويد» من ماركة العم «آبل»، بين الفينة والأخرى يحدق فيها.

أما الفتاة كانت تجلس على الكرسي وتبتسم للرجل، عيناها بلون السماء وشفتها السفلى عريضة بشكل ملحوظ، ممتلئة بالشهوة، لديها ثديان صغيران بحلمتين مدببتين تظهران بشكل نافر من خلف تيشرت أبيض مكتوب عليه بالإنكليزية: نام في كل الأيام والليالي (SLEEP ALL DAY AND NIGHT)، وشورت قصير لفوق الركبة، بشرتها بيضاء بزغب أصفر ناعم خفيف على فخذيها وساقيها، لنضع قنبلة موقته في حقيبة بالقرب منها، لا لم تكن هكذا بل كانت تحمل الحقيبة بيدها، ويأتي  الإنذار من خلال مايكرفون المحطة بوجود قنبلة في حديقة بنيّة في المحطة، فور سماع هذه الإنذار هرع كل مَن في المحطة بوجل وارتباك إلى الدرجات التي يسلكها الركّاب للخروج، تلتفت الفتاة إلى الحقيبة بدهشة وتتذكر غباءها.

كيف قبلت أن تحمل حقيبة لشخص لا تعرفه؟ ناولها شاب تبدو ملامحه شرق أوسطية  قائلا لها: «امكثي مع الحقيبة، إنها ثقيلة، ريثما أشتري تذكرة للقطار وأعود»،  بإمكاني إنهاء القصة أو إضافة هرولة البوليس، ومحاصرة المكان مع ترك مسافة أمان، يدنو الرجل الستيني، بخطوات متزنة نحو الفتاة غير آبه بصرخات البوليس  ونهيه عن التقدم، يجثو على ركبتيه أمام الحقيبة أن  قائلاً في نفسه: «إن كانت ستنفجر هذه الحقيبة بي فليكن، لإنقاذ هذه الجميلة».

بصراحة لم تعجبني الخاتمة ولن أنهيها، كل واحد منكم سيضع نهاية لها في خياله، لم تكن القصة بهذا الشكل، إنّما كانت بمقهى في «ساروجة» بدمشق القديمة، وكنت أنا وحبيبة قديمة نختفي عن عيون الفضوليين ونلوذ في ذلك المكان، كنت اشتريت لها عطر «ريد بارتي» في لقائنا الثاني، ووعدتني أن نسمع من عند آزاد الذي كان يدير ذلك المقهى الصغير، ذلك الصديق درس في كلية الزراعة، لكنه كان يخطأ دائماً بين شجرة الخوخ والمشمش، يجيد الانكليزية بشكل جيد.

المهم في ذلك اليوم أورثتني ملامحي ووعدتني أن تشتري لي سندويتشة فلافل وتملأ حقيبتي الظهرية بما تملك من فرح وحب، لكن بعد أن نسمع أغنية (Aman Dilo) لمحمد شيخو، مع قهوتها السادة شأن الفنانات التشكيليات، بينما أنا تجرعت كأس كمون مع الليمون والملح لأهدئ عصافير معدتي قبل أن تتحول إلى نسور جارحة، وأمعن النظر في تفاصيل عصفورتي البيضاء وأصابعها النحيلة، إذ كانت تلك الأصابع في بداية السرد لها، لكن لم أكمل.

قائمة أفكاري طالت، وأنا أدخّن انكساري كسرة، كسرة من على شرفة الخيال لأستودعكم دون خاتمة أو فكرة صاعدة إلى نهاية حتفها.

تعديل المشاركة Reactions:
أكتب ما أشعر به فقط

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة