recent
جديدنا

الظهور الأخير




موسى رحوم عباس (الرياض)

خاص سبا



نلتقي صباحًا في المصعدِ، نتبادلُ تحيةً من بضع كلماتٍ تشبه حبَّةَ الدَّواءِ الجاهزةَ، نَزْدَرِدُها بصعوبةٍ ثم نمضي. أنيقٌ دائما تفوحُ منه رائحةُ عطرٍ مميزٍ، ووجههُ مألوفٌ لديَّ، لكنَّني لا أعرفُ عنه الكثيرَ سوى أنَّه جارُنا الذي يسكنُ في الطَّابقِ السَّابعِ حتى تلك الليلة التي جعلتْهُ يعاملني كصديقٍ مُقرَّبٍ منه، وبيتٍ لأسرارِهِ. عدتُ ليلتها متأخرًا إلى البيتِ، بعد اجتماعٍ مُرْهِقٍ في الشَّركة التي أعملُ بها، فنحن نخطط لاستثمارٍ عقاريٍّ كبيرٍ، مما دعا مجلسَ الإدارةِ لاستدعاءِ المهندسين المعماريين والإنشائيين ومختلفِ الاختصاصات. توقفتُ مذهولًا وأنا أهمُّ بقفلِ سيارتي في موقف العمارة. نعم هذا هو جارُنا، بابُ سيارته مفتوحٌ وهو جثَّة ٌهامدةٌ على الأرضِ ليس بعيدًا عنها. هرعتُ إليه أتحسَّسُ نبضَهُ، ما زالَ جسمُهُ دافئًا، ويبدو أنَّه يغرقُ في بقعةٍ من القَيء. أبعدتُهُ عنها بصعوبةٍ، وحاولتُ حشرَهُ بسيارتي لأوصلَه إلى أقربِ مسشفى. وقبل أنْ أديرَ المفتاحَ أمسكَ بيدي، وفهمتُ منه عدم رغبته في ذلك، وطلب أن يرتاحَ قليلا عندي. فأنا وحيدٌ في البيتِ، وعائلتي في زيارةٍ لأهلي في مدينتنا البعيدة. لم أسألْهُ عن شيء، انهمكتُ في تحضير القهوة.

استرسلَ في حديثٍ طويلٍ على غير العادةِ، "أنا عُرْوة الجزَّار، ممثلٌ، لا أجدُ وقتًا لأيِّ شيء خارج الفنِّ. أتنقلُ من موقعِ تصويرٍ إلى آخرَ، ولديَّ ارتباطاتٌ مكثَّفةٌ للقيام بالبطولة لأعمالٍ دراميَّة في دبي والقاهرة." اعتذرتُ منه لجهلي وانشغالي الطَّويلِ في مواقع البناء ومشكلاتِ العمَّالِ والحديد والاسمنت. هزَّ رأسَه مع حركةٍ لم أفهمْ معناها من فمه، رُبَّما لم يقتنعْ بجهلي له، أو ظنَّه تجاهلًا. لم أكترثْ كثيرًا، فقد كانتْ رائحةُ الكحول لا تطاق. قمتُ بواجبِ الضِّيافة، وفوجئتُ به ينهضُ مستأذنًا، وأنَّه أصبحَ بخيرٍ ويمكنُهُ أن يغادرَ إلى شُقَّتهِ.

تغيَّر الأمرُ كثيراً بعد ذلك، ففي كلِّ مرَّةٍ كان يُصِرُّ على استضافتي عنده، يحدثني عن نجاحاتِهِ، وعلاقاته المتعدِّدة، وسهراتِه الحمراءِ، ويذكرُ أسماءَ كبيرةً من أهلِ المالِ والسُّلطةِ من معارفه وأصدقائه كما يصفُهم، والخِدْماتِ التي يقدِّمُها لهم في الوسط الفنيِّ. قال عبارتَه الأخيرةَ مع ابتسامةٍ ماكرةٍ، وقدرته على حل أكبر مشكلة لديهم، وعن تملُّقِ المخرجين له كي يقبلَ بالدَّورِ الذي يعرضونه عليه. لاحظتُ مؤخَّرًا أنَّه صارَ يتغيَّبُ عن العمارة كثيرًا، ويعودُ في كلِّ مرَّةٍ من دبي وبيروت والقاهرة، وأظنُّه في آخر مرَّةٍ، قال إنَّ لديه تصويرًا في صِرْبيا وإسطنبول، ورنينُ جوَّاله الذي لا يهدأ يقطعُ عليه استرساله في الحديث دائمًا. ولولا ذلك الحادثُ لكان نجمًا يحلمُ بهوليوود، كما تكرَّرَ على لسانه عدَّة مراتٍ. الحقيقة لم أركِّزْ معه كثيرا حول قصَّة هوليوود. رائحتُهُ بَدَتْ مزيجًا من التبغِ والكحولِ مما جعلني أبتعدُ وأحاولُ إنهاءَ الحديثِ. نَعَم،كان الحادثُ قاصمًا للظهر، كما أكَّدَ سكَّانُ العمارةِ الذين اتفقوا على زيارة جارنا الفنَّان في المستشفى إثر سقوطه أثناءَ تصويرِ أحدِ المشاهدِ الخطيرةِ التي أصرَّ على القيامِ بها بنفسِهِ رغمَ توفُّرِ الممثِّلِ البديلِ. أخبرنا الطَّبيبُ أنَّهُ سينجو، ولكنَّهُ سيفقدُ قدرتَهُ على الكلامِ الواضحِ. لاحظت بعد عدة أشهر أنَّ موقفَ سيارتِهِ فارغٌ. علمتُ أنَّهُ باعها ليسدِّدَ ديونَه المتراكمةَ. في لقاءاتنا المتقطِّعة كان يحاولُ أن يشرحَ لي ما يدور في ذهنهِ والمرارةُ تكسو تعابيرَ وجهه. لا أفهمُ تفاصيلَ حديثِهِ في غالبِ الأحيانِ، لكنَّني أحرِّكُ رأسي مشيرًا إلى أن فكرتَهُ قد وصلت. لاحظتُ أنه لا يحمل جوَّالا، ويجلسُ في غرفته الخالية من التلفزيون، ولم ألحظْ أحدًا يزورُهُ. هذا الصَّباح علا الصُّراخ في شارعنا، هرعتُ إلى الشُّرفة لأستطلعَ الخبر. كان النُّاس يركضون خلفَ رجلٍ عارٍ تمامًا، وبعضُ النِّسوة يحجبْنَ أنظارَهنَّ بأيديهنَّ، وهو يحاولُ التَّملصَ من الجميعِ، بينما سيَّارةٌ للشُّرطةِ تعترضُ طريقه، تتوقف فجأة، يحمله عناصرُها غير آبهينَ برفضِهِ ورفْسِهِ لهم، فتنطلق به السَّيارةُ، وعويلها يتعالى، مثل سَهْمٍ إلى جهةٍ لا أعلَمُها.

في الصَّباحِ التَّالي كانتْ وسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيِّ تضجُّ بصوَرِهِ العاريةِ ومن زوايا متعددةٍ. أما الجريدةُ اليومية فقد نشرتْ صورتَهُ في صدر الصَّفحةِ الأولى. صحيحٌ أنَّها ظللتْ مِنْطقتَهُ الحَسَّاسةَ إلا أنَّ جزءًا كبيرًا من مؤخرتِه ما زالَ بارزًا. وأنا أتخيلُه في زاويةِ من غرفةٍ ما يُقلِّب الجريدةَ وهو يقهقهُ سعيدًا بعودتِهِ للأضواءِ، ويعيدُ قراءةَ المانشيت العريض في أعلى الصَّفحة، "الظهورُ الأخيرُ للفنَّان عُروة الجزَّار في شوارعِ المدينةِ."
الظهور الأخير
Kaya Salem

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  • موسى رحوم عباس15 سبتمبر 2020 في 2:36 م

    تحياتي لأسرة التحرير كافة، أرجو أن يكون التوفيق حليفكم.

    حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent