-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

اسطنبول المدينة والذات




آراس حمي / خاص سبا


تطلق تنهيدة صامتة في قلب المسافر وهو يُدخِل جسده تحت شمس اسطنبول، حقائبه لم تعد ذات قيمة، ماضيه لم يعد قادراً على الركض وراءه، إذ أن عواصف تنتظره لتحرك بحر حياته، لتحرر بعض أحلامه وتعتقل بعضها، سيتحمل حماقات الأيام والساعة، سيستيقظ كل صباح حالماً بخلود منشغلاً بالرياح التي هبت وستهب.
دخلت اسطنبول ومعي أجوبة وقناعات ثم إذا بالأسئلة تضرب وجهي، أسئلة كثيفة الغموض:
مَن سأكون؟
أسأبحر مغامراً في دروب الماء، أم سأجرّ الليالي إلى سأمٍ قاتل؟
كيف سأولد؟
كيف سأنبض؟
كيف سأخرج شموساً وأقماراً من صوتي؟
كيف سأتدرّب على مراوغة التعب؟
كيف سأقصد السماء؟
كيف سأعبر من الرغبة إلى فردوس المعنى؟

تقحمنا اسطنبول في دوامة الأسئلة، في فوضى الرغبات والأحلام والأوهام في متاهة الكينونة والظل، ربما في وجود أكثر تعقيداً!

ليس سهلاً عندما تولد أن ترى نفسك في مراياك، أن تخلق ضوءاً من جسدك، ليس سهلاً دونما موسيقى ومدينة.

مع أول سيجارة في مدينة ما ستكون غريباً عنها وهي غريبة عنك، وفي السيجارة الثانية ستدخل اللعبة بكامل تيهك، أما هنا فالسيجارة الثالثة ستصبح مدمناً على نظر في وجه اسطنبول ولو كانت آخر لحظة في حياتك.

ما البدايات إلا أشخاص تركوا عليك ندبات أو مدّوا لك أياديهم لتصعد إلى الحياة أو حروباً خرجت منها نصف إنسانٍ يبحث عن نصفه الآخر بالمغامرة أو مدناً من ضوءٍ ومرايا.

*
هنا، في كل الشوارع،  السماء تتكلم لغةً يفهمها الجميع، الشمس التي تخرج كل صباح لها صوتها، القمر الذي يغني يصنع الأقدار واللحظات، كل شيء هنا يتكلم معك كصديقٍ وفردٍ من العائلة، كلهم يقولون لك تكلم مع نفسك

*
حين تصل إلى اسطنبول أركض بأعلى صوتك، غني بخطوتك الكبيرة، لوح للذين يصعدون الحافلات وللذين يمشون تحت أصوات النجوم وللبحر الهائج على عتمة الليل، تقبل أنك قد تجد نفسك تولد كثيراً لدرجة إنك أحياناً لن تفهم من هي هذه المدينة.

*
كالحبيبة هي، وأنت تفتح الفودكا ستنسى الموت معها، ستشرب معها نخب كل يوم جديد، كل لحظة، كل رجفة جديدة للبحر، وتنام كالجثة .

*
مدينة تحب الريح، تسخر من العتمة، ترقص مع ذوق كل زائر،  تنام في المرايا وخلف الوجوه.

*
يوجد شارعٌ لتنسى فيه نفسك و شارعٌ لتتذكرها، يوجد مقهى لتنظر فيه إلى كف يدك وتبحث عن قدرك ومقهى لتمسح عن وجهك تعب طريقك، توجد امرأة ستبتسم لك لتحب وجهك و جدارٌ سيشتمك لتكره جسدك، هنا يوجد أنت في مكانٍ ما لن تكون كما أنت حين تكون في مكانٍ آخر.

*
المدن التي تعطي الحياة تكون من قلقٍ ونشوة، من قوةٍ وموسيقى، من فنٍ وهيبة، تكون كما الحياة.

*
عند المحطة ترسم ابتسامة، عند البحر تنبثق رغبة،عند الليل تنبعث من البيوت موسيقى، عند الفجر تهب عليك غيمة أو قصيدة، في اسطنبول أنت مشغولٌ بالتفاصيل والمفاجأت، متأهبٌ للحداثة والحضور.

*
هي تفكر، تشعر، تترجم، تختلط بكل فكرة في ذهننا، تهيج دمنا ونبضنا، لها جسدٌ يندمج داخل أجسادنا وأعضائها تحتضن أعضائنا ووجهها يلامس وجهنا، هي موجودة في ذاتها وذات كلٍ منها، ملتصقة بالألوان والأشكال، متأملة في الطبيعة والفلك و فينا.

*
ثمة دهشة مختبئة تحت يد أحدهم أو في شارعٍ يحكي حكايات عتيقة أو في فنجان قهوة في إحدى المقاهي أو في عيون أحد المتسكعين في الخيال أو بقرب قلبٍ يهرب من وجعه أو على شامة فتاة أو فوق البحر أو على ساق وردة في حديقة، ثمة دهشة تسكن الأشياء كما نسكن نحن الأحلام.

*
يمكن أن يرتكب حبٌ أو حلم، يمكن لأحدنا أن يرقص عند البحر دون أن يشرب وأن يطير على أفق الحياة دون حبيبة، المدينة خمارةٌ عجيبة.

*
حين تموت الحياة في باطننا نمشي، نلتقي بالمدينة وننسى إننا موتى .

*
تكمن عجب هذه المدينة في إنها حكاية لا تنتهي، حتى تكاد تبدأ بسرد الحياة من البداية في كل لقاء.

*
لن تقتل و المدينة تحرس وجهك، لن تفنى، لا مقبرة تتسع لك مع المدينة،  لوعتك التي تركتها في لقاء حاد ورعشتك الأبدية ستكونان دائماً هناك، قرب من كنته حين حطت عليك يد السماء، بتوحد حنيني كل مدينة هي حديقة ذكريات.

*
لهذه المدينة صدى درامي متغلغل في أعماق التجارب، حتى في دهاليز الوحدة توجد دراما ذاتية بين الفكرة والشعور، بين الكينونة والواقع، بين سردية الحياة ونوبة الموت.

*
خضوع الزمن للغياب يستفز المدينة، تضع اسطنبول الإنسان قرب لحظته الحية، تمر الكثير من النبضات، يدق الزمن طويلا، تمشي العيون كثيراً، تنظر القلوب بعيداً، في اسطنبول تنسى اسطنبول وكأنها هي الذاكرة.

*
ما هو الزمن؟، سباق النبضات مع المشاهد، صراع الأقدام مع التجارب، تكون الإرث فوق أكتاف الشعوب، البحث الأبدي عن الخلود، يقظة التكرار في الذاكرة، ولادة المدن في الخاصرة.

*
فنٌ من فنون التعذيب ابتعاد مدمن هذه المدينة عن الزمن، الزمن هنا هو وجه اسطنبول؛ عند البحر، فوق الجسور، تحت العيون، بين الخطوات والطريق، على النوافذ، قرب الزمن تتنفس اسطنبول هواء اسطنبول.

*
كثيرون هنا يشربون الشاي صباحاً لا لإنهم يحبون الشاي ولا حتى الصباح، إنما لينظروا إلى جسد الزمن وهم يكسرون استمراريته، كثيرون هنا يسهرون لا لأنهم على قيد الأرق ولا لوجود مواعيد مع نشوة الحب، إنما لينظفوا عن قلوبهم ثرثرة الزمن وهم يتأملون ارتجالات المدينة.

*
يفهم المدن من لا يكون له مدينة، في اسطنبول لا توجد اسطنبول في متناول الأيدي، تجدها ترفعك ثم إذا بها تنزع عن جسدك جلدك دون غاية، مجرد تقلبات مزاجية هرمونية أو لغز مكتوم في ذاتها.

*
التعساء بعد يومين وقبلة سيتحولون إلى سعداء، السعداء بعد يومين وفراق سيتحولون إلى تعساء، لا توجد تعاسة ولا سعادة، يوجد حب اسطنبولي يتربص بالقلوب و الأيادي.

*
الحب هنا هو الحب، الشارع الليلي الذي يتسول النور من القمر، الغراب الذي وجد إنه لم يجد قلبه، الوردة التي احترقت وهي تبحث عن بحر، الجسر الذي لا يوصل أحداً إلى حياته، وحدها اللحظات الاسطنبولية تمتلك المعنى الكامن في الحب.

*
وأنت تهرب من الضياع ستجد يد الحب، وأنت تقبل السماء في زمن الحب ستفاجئ بصفعة غياب.

*
لا يوجد حب هنا، يوجد حب هنا، ابتسامة في الهواء، دمعة في القلب، يوجد هنا اسطنبول تقتلك بالحب أو بالفراق، تحييك بالحب أو بالفراق.

*
لم ستحب: لا تسأل، كيف ستحب: لا تسأل، وأنت تحب لا تركز في الحكاية، المدينة لها دورٌ أدبي في نسج الصور والمشاعر.

*
أنت لا تعيش في اسطنبول إذا لم ترتكب فيها حباً، أنت لست اسطنبولياً إذا لم تجلس في محطة الباص لا تدري أين تذهب، بالحب أو بالضياع اسطنبول مدينة قاسية.

*
وأنت تضرب كتفك بكتف عابر هناك شيءٌ ما سيتدفق منه، حبٌ أو غربةٌ أو وحدةٌ أو جشع، والعابر الذي مر بجانبك كان ينفجر بالألم أو بالأنانية أو بالفراغ، ذاك الذي يتكلم مع نفسه في الشارع لا يجد أحداً يفهمه ليفهم إن عليه الصمت، الجالس في الباص هو في مكانٍ آخر يتمشى مع حلمه، صاحب الخطوات الصغيرة على الجسر هو جالسٌ مع صمته، لا لن ترى أحداً كما هو ولن ترى خيال وجهك إذا لم يسألك أحدٌ: من أنت ؟

*
كيف تولد الانطباعات، كيف يطير الإنسان، كيف هو الحلم، السماء جهة المعاني والخلود، الهواء صوت الحياة في الوجود، قرب البحر، قرب اللحظات الحالمة تسمع هذيان الشذري للمدينة، فتبتسم، تصمت أكثر لتنسجم مع المكان، تصبح مكاناً، وجوداً وخلوداً، مكيدةً للزمن اللاهث في آلة المدينة.

*
أنت تاريخٌ يصارع الفناء، أنت فنٌ، أنت المدينة والمدينة هي أنت حين لا تنظر إلى نفسك في المرآة.

*
في الزحمة وفي الهدوء، الصخب يشوه الصحة، الصخب يسخر من الرغبات، الصخب سيدٌ طاغي، في الهدوء وفي الزحمة وفي الفراغ وفي الضجيج الإنسان مكتظٌ مثقلٌ، الإنسان هو صخب الأماكن.

*
اسطنبول عنيفة كالغيم، ماطرة كالسكين، ثقيلة كالوردة، خفيفة كالحياة، جشعة كالجهات، صامتة، صاخبة، منفى، بأيادٍ خشنة تشد الغد من جيب الزمن.

*
تستيقظ صباحاً تجد نفسك مالكاً لكل شيء، تستيقظ صباحاً تجد نفسك لا تمتلك حتى نفسك، وقد لا تستيقظ ابداً، المدينة تأخذ دورك في الحكاية.

*
يعلمك المكان البكاء وهو يأخذك في خياله المتألم، يعلمك كيف تنتحب تحت السماء أو تحت الأرض، كي لا تنس ابداً إنك كنت هنا يوماً.

*
الألم علم، المدينة شخصية، انعكاس، ضوءٌ يشرح لك ألمك و أنت تسمع بخنوعٍ سيرة معاناتك.

*
كم من متشرد هنا يسمع صوت اسطنبول أكثر من مالك، كم من متشردٍ هنا يعيش مع موسيقى المكان تحت مطرٍ شرس، تحت قدر شرس أكثر من المكان نفسه.

*
الفئران هنا مشاكسة، ظريفة، تسرد فكاهاتٍ لطيفة، تمنع الغربة من الاقتراب، البحر هنا لطيف، مثير، يخرجك من تفاهة الحياة، الفجر هنا مشاغب، مشاكس، يعلن عليك الحرب.

*
من الوجوه الموجودة في الباصات تُفضح المدن، ومن الوجوه الموجودة في المساء تتكلم المدن، ومن الوجوه الموجودة في المقابر تصمت المدن.

*
سأخرج يوماً من هنا، تاركاً جزءً مني وأخذاً جزءً من اسطنبول، سأخرج وأنا أنظر خلفي: لا توسخوا المدينة، لا تعبثوا بمزاجها، كنت هنا يوماً، حلمت وفكرت وأحببت وتألمت هنا، عشت المكان كما يجب أن يعيشه إنسان، وإن عدت سأرى المكان ثقيلاً بالمشاهد التي عشتها سابقاً، سأبكي كثيراً كما يجب أن يبكي الإنسان.

*
فراق المدن كأن تخرج من حياةٍ وتدخل في حياةٍ أخرى، كأن تخرج من جسدٍ وتدخل في جسدٍ آخر، فراق المدن لحظاتٌ تغير لون دمك وسمات وجهك وحجم أقدامك وصوت قلبك، لحظاتٌ تفصل بين إرادتك وجهاتك فتدري حينها كم أنت ضائع.

*
الآن خرجت، لم تعد الرائحة تجمع بيننا، لم يعد الفجر يتكلم عن قصتنا، لم يعد الليل يصالحنا ويفرقنا، يفرقنا ويصالحنا، لم تعد الأرض جالسة معنا في المقهى، الآن خرجت، لست هنا، لا أنا الذي كتب عن اسطنبول ولا اسطنبول التي كانت تكتب عن نفسها، كل ما كتب لن يكتب مرةً أخرى.





تعديل المشاركة Reactions:
اسطنبول المدينة والذات

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة