-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

زوبعةٌ خريفية

 



خليل عثمان / خاص سبا

جلسَ ينفضُ عن كاهلهِ غبارَ التعب من رحلته ِالتي لم تنتهي ، وروحهُ سابح ٌفي أبخرة الذاكرة ، متأملاً الفضاء الصامت من حوله ، ربما ذلك َالطنينَ الصادرَ من إحدى الحشرات ، جعله ُيشعر بأن للحياة وجودٌ في تلك البقعةِ من العالم .

أما رأسهُ فكانَ يضجُ بأصواتٍ سحيقةٍ، تحاولُ نزع َذكرياتٍ مختلطة، وكأن بهِ يغربلُ الفراغَ وهو يحضنُ الخواطرَ الحزينةَ إلى أن استسلمَ إلى قيلولةٍ تحت وطأةِ النعاسِ الذي بدأ يدب ُفي أطرافه . هبَّ وهو ينظرُ إلى الأفقِ، فإذا بزوبعةٍ رمليةٍ خريفية تشقُ طريقها  وهيَّ تثيرُ الغبارَ وتديرهُ في الأرض ثم ترفعهُ إلى السَّماء .

نهضَ بصعوبةٍ وأخذ يجرُ قدميه، وبدأ يسيرُ متثاقلاً كغيرِ عادته !! كانَ الدربُ أمامهُ موحشاً ومشابهاً لتلكَ التجاعيد التي تملأُ محياهُ  وصلَ إلى وجهتهِ، إنها محطتهُ التي اعتادَ عليها وهو منزلُ صديقهِ "فخرو"

  أخذَ يصيحُ بصوتهِ الأجش : أهل الدار ... يا أهل الدار ...

كان صديقهُ تحتَ ظلالِ شجرة التين الوارفة، بينما بيوتُ اللبنِ الصغيرة والغبارُ المتصاعدُ من حولها  تشيعُ في النفسِ شيئاً منَ الكآبةِ، أما شجرةُ التين تلك، فلم تنجح في أن تخففَ شيئاً من وطأته على النفس .

من " نورو"  أهلاً بك ... تعالى إلى هنا - ! ألقى عليهِ التحيةَ .. -

وتهادى فوق اللبادِ بجانبهِ مع أنوار الشمسِ الغاربة، ثمَّ انتقلا إلى الدار والظلامُ يزحفُ بطيئاً ليغمرَ المكان، هنا جذبت رائحةُ جسد نورو الملحيةَ ، وضوءَ المصباحِ النفطي المعلقِ ، بعضَ البعوضِ السمجِ إلى المكان .

نسي نورو في غمرةِ كلامهِ معدتهُ الخاوية وهي تصرخ ، إلى أن أصبحَ العشاءُ جاهزاً . تناولا الطعامَ، ثم أخذا يرتشفان ِ الشاي بصوتٍ مسموع، بينما تعقب كلُ رشفةٍ زفرةً مستريحةً صادرةً منهما، وليسود الصمت من جديد .

بادرَ نورو مستضيفهُ بسؤالهِ المفاجئ : فخرو ... ألا تريدُ معرفةَ مأساتي ؟؟

أرح فؤادكَ وهات ما لديكَ أيها العجوز، يبدوأنكَ تريدُ أن تأخذ زمانك وزمان غيرك..!!

حاول َنورو أن يجمعَ خيوط الماضي في ذهنهِ ، وقدّ أصبحَ سمرةُ وجههِ محروقاً وهي تلمعُ على ضوء الفانوس، وبدأ يسردُ حكايتهُ الطويلةَ بكثيرٍ من التفاصيل : قريتهِ ، ابنهُ الوحيد الذي أدخلهُ كلية الطب رغم عوزهِ، زوجته ُ التي رحلت بسبب مرضها العضال، ومن ثمَ عدم قبول ابنهِ لهُ بالعيش في كنفهِ  بعدَ أن أصبحَ طبيباً و أستقرَ في المدينة .

بعد صمتٍ قصير أردف قائلاً : عندما وصلتُ إلى هناك، كانت معالمُ المدينةِ قدّ تغيرت كثيراً واتسعتْ ، كأنها أخطبوطٌ يمدُ أرجلهُ في كل الاتجاهات ، شعرتُ بانقباض في قلبي ، بينما يلفُ المدينةَ شيئٌ قاتم ، انتابني شعورٌ بالتعبِ وأنا أجوبُ شوارعها ، لحظتها استندت إلى جدارٍ خشن، والمطرُ يهطلُ ويغسلُ الأبنيةَ الحجرية، ويرتطمُ بالأرضِ الصلبة، كانت الصورُ تهتزُ أمامَ عيني باضطراب وتموج .

وصلت ُمنزلهُ، وفي الليل وبعدَ الخلودِ للنوم وفجأة كنت ألطمُ وجهي ، وأحسُ بفجيعةٍ تخنقني، ولكن صوتي اختنق في حلقي . نهضتُ وركبتاي لا تقويانِ على حملي ، تخطيتُ بابَ الغرفةِ وكأنني مطعونٌ بخنجرٍ في ظهري ، لحظتها كانت الظلالُ تضمحلُ أمامَ عينيَّ ، والسماءُ خاليةٌ من أي نور . كنتُ أعيشُ كابوساً مرعباً ، عندما أاستيقظت غادرتُ منزلَ أبني ، وكأنني طيرٌ بلا أجنحة يسقطُ في هوةٍ سحيقة، شعرتُ باستسلام منكسر، وكأنه ذلٌ أبدي . وعلى مشارفِ المدينةِ الكبيرة ، ومعَ الجموع الغريبة في شوارعها ، نزفَ الألمُ من جراحي الثخينة ، وارتويتُ من محنتي ، وعدت بقلبٍ محطم إلى قريتي ، بينما كلماتُ أبني الضال لا تزالُ ترنُ في أذنَاي كأجراس الكنائس وهو يقول : — أبي لن تجدَ هنا سبيلاً للراحةِ فأنتَ تعشقُ الأرضَ ، وتعشقُ القريةَ وأهلها . وتلكَ كانت كلماتهُ الأخيرةَ لي . وبعدَ كل تلك المآسيً ، ها أنتَ تراني افرشُ الدروبَ وأجوبها.

أما فخرو فقد تاهت الكلماتُ منهُ ثم قال: ربما في يومٍ ما وكما يظهرُ الأفقُ للضريرِ، فسوفَ يلوح لك أبنكَ ، وهو يهرولُ نحوك باكياً ونادماً ..!! ثم سادَ الغرفةَ صمتٌ وهدوء ، وقد أخرجَ فخرو ساعتهُ الفضيةَ من جيبهِ ، تثاءبَ وقربها من عينيهِ محدقاً : الساعةُ تاسعة ... ولكن لا تقلق فالخريفُ ليله طويل ! ولكنَ الضيفَ كان مستسلماً إلى سباتٍ عميق . عندما استيقظَ فخرو في الصباح اليوم التالي ، لم يجد ضيفهُ نورو ، فهذهِ عادتهُ فهو يستيقظُ باكراً، ويغادر ، ليبحثَ عن محطةٍ جديدة في قريةٍ جديدة.


تعديل المشاركة Reactions:
زوبعةٌ خريفية

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة