-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

جهات العودة



جان بابير / النمسا

 

 في طريق الهجرة التي لا عودة منها، خيمت علينا سحابة سوداء، وكان قلب أمي أيضاً قد غطته تلك السحابة، كانت تود أن تقول (بعينيها المليئتين بالجثث): «إن قلبي سقط من صدري بين قدمي كما مدينتي».

 

الندوب في سنين عمرها السبعينيّ لم تحصَ، ومَن يستطيع أن يحصي الوجع؟ وهي ترفع يديها إلى اللا جهة نحو مطلق غيبيّ في الكون يسكن مخيلتها، وتمتمت مع رجفة من يديها انتقلت لجذعها وساقيها النحليتين تحت كومة الثياب التي ترتديها، كومة المفاتيح المرتبطة بطرف الـ Bervanik، الذي يبدو مثل قطعة قماش قُصّت من تلك السحابة السوداء: «سأصنع من هذه الخطوة دليل اتجاه العودة»؛ لكنها لم تكن تدري أنها قطعت الحبل السري مع مدينتها وأن المفاتيح صدأت، ولن تفتح أبواب العودة المغلقة، أكلت ست سنوات من الطريق بعينيها، لتسقط كعروة من قميص وقتها وضاعت في أرض غريبة، وتقول: «ثمة حياة ستولد من الغيب، وخطوات تفتح لي للمسافة»، ذكرياتنا التي خبأتها تحت حجارة البيت وابتساماتنا العالقة على الجدران ولمساتنا على مقابض الأبواب التي ما تزال تئن بين الحب والموت.

 

في ذلك اليوم كان الأمل يهرب منا، والألم يركض نحونا، بكل قساوة الوداع كنّا باهتين بلا لون نسيّر ظلالنا في ثيابنا نحو المجهول، لم يلوّح أحد لأحد، أعناق الجميع كانت تمتد نحو أسلاك الحدود وتجتاز حقل الألغام، إلى المدينة التي يعلوها دخان أسود، وكل شخص منا نحن المجتمعين كان يحمل لغماً في أحشائه، ميلاد الرحيل هو فناء لأشياء  تركناها خلفنا، يرعاها الوقت دون سقاية لإناء ذاكرتنا الجرداء، أمي أخذت من البيت شريط عمرها، شريط طوله سبعون عاماً وكيس دواء، وشجرة التوت التي تكبرها ربما بثمانين عاماً حملتها في عينيها مع العصافير، وكلما كنت أقترب منها وأسندها على السير تفوح منها رائحة الخبز وأغاني الحصاد وألوان الـ Tevin، ركبتاها توجعانها، ترتل الآيات بلكنة كردية قد لا تفهمها هي، لكنها كانت تخاطب المطلق بهدوء، كانت الأخبار تأتي من خلف الأسلاك عبر الهواتف النقّالة وتسقط صفعة صفعة على جسدي وروحي وعيني، دون أن أتجرأ وأنقل لها ما يحدث  لأناس وأسماء تحوّلوا إلى جثث وصعدت أرواحهم في عربات الرب النورانية نحو السماء، وسقطت أمي كحلم جميل من بين كوابيس الغربة، ولسعها الموت قهراً بإبرة سامّة في قلبها، ذلك الألم يتجوّل فينا  بذنوب الهجرة وخطيئة الفراق، في المقبرة  كانت تنمو وحدتها ويتورم قلبي بها، وآخر أمنية لها كانت أن تُدفَن في الأرض التي ولدت عليها، لكنها زُرعت مثل نبتة غريبة في أرض غريبة، ودّعتُ مفاتيحها المتأرجحة على حائط العودة وقدّتُ خطواتي نحو مقبرة الغربة، وقفت أمام القبر، فاستطالت شجرة توت من القبر على هيئة أمي وابتسمت لي وهي تشير بيديها إلى جهة بيتنا.

 

تعديل المشاركة Reactions:
جهات العودة

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة