ماجد ع محمد
أن يكون لدى بعضنا رغبة حقيقية في رفد الغير بما تيسّر من الغيث لإرواء ولو شتلة واحدة في زمن الفاقة التي يعاني منها الكثير من أبناء البلد،هو لا شك أمر جدير بالتقدير الضمني حتى ولو لم يُثني الواحد منا على خطوة الفاعل بشكل علني، وبخصوص هذه الخصلة بتصوري ينبغي ذكر فعل المبادِر في المجالس العامة ليس من باب الترويج له كشخص أو جهة، إنما من باب المساهمة في نشر ثقافة الإيثار والعطاء، ذلك حتى ولو لم يكن ناشر أنباء أهل الجودِ لديه القدرة على الاقتداء بالخيرين الذين ينقل أخبارهم.
ومع أهمية وضرورة ثقافة الرفد في الحياة الاجتماعية، وخاصة في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الأهالي في أغلب المناطق السورية، إلاّ أننا حيال هذه المسألة وتبعاتها ما نزال نستحضر كل فترة قول الشاعر أبو نواس: «لا تُعطِيَنَّ الصّبيَّ واحدةً، يَطلُبُ أُخْرَى بأعنَفِ الطَّلَبِ»، وذلك بسبب المطبات التي يتعرض لها بعض أهل الرفد سواء مِن قِبل الرُّسل أو من قِبل الممنوحين أنفسهم، علماً أن هذا البيت يذكرنا مباشرةً بحالتين هما: حالة المصاب بالجشع في العلاقة مع الأنثى، الذي إن تكرمت عليه المرأة أو الفتاة يوماً بقبلة أو بضمةٍ ما، فسرعان ما يغدو المذكور أشبه بذبابةٍ حائمة ليل نهار حول قطعة الحلوى، فلا يفارقها ما بقيت الحلوى، وقد لا يكف عن ملاحقة الأنثى التي ربما بسببه أو بسبب أمثاله تكره نفسها، وربما تمقت من ورائه كل الذكور من خلال ذلك النموذج اللجوج اللزج كالصماغ أو الشبيه بالمواد المنفرة من فرط دبقها، والحالة الثانية هي حالة ذلك الولد المتسوّل الذي تعطيه شيء حباً بالطفولة أو رأفةً بواقع أهله المزري، إلاّ أنه قد يدمن بعدها على العطايا فلا يكف عن طلباته بعد ذلك، والأمر نفسه ينسحب بتمامه على الكثير من البالغين أيضاً، لذا نشدّد على أن الاحتفاء بالمُعطي لا يعني البتة بأن يتحول المرءُ من فرط الاتكال والجشعِ إلى كائن مستعطي.
عموماً فالمراد من القول هو أن بعض الأخوة قد يحرمون أنفسهم من القليل أو الكثير من الملذات الحياتية ونتيجة لتلك الحرمانية يشعرون بأنه غدا بمقدورهم مؤازرة قريبٍ لهم أو صديقٍ ما بما زاد عنهم، أو مما وفروه أو استقطعوه من بعض حاجياتهم اليومية، إلا أن هذا الأخير وبدلاً من التقدير الجم للواهب قد يأخذه التفكير بعيداً جداً، فيتصور بأن الرجل لديه فائض من المال، وفي دخيلة نفسه قد يرى بأنه لا بأس في التعكز عليه إلى أجلٍ غير مسمى، وفي هذا السياق بودي إيراد حادثة حقيقية لتقريبها من الأذهان أكثر، وهي أن أحد معارفي في إحدى المرات – قبيل لجوئه إلى أوروبا بحوالي 13 سنة – أهدى أحد جيرانه في مدينة حلب قارورتين كبيرتين من زيت الزيتون على دفعتين، ولكن المصيبة أن الرجل الجار لم يعِ بأن ما تم وهبه إياه هو بمثابة هدية، والمهدي غير مجبر أصلاً على إعادة ما قام به من تلقاء ذاته، وبالتالي توصل الممنوحِ للإدراك أو القناعة بأن المهدي ليس مطالب بأن يكرر ذلك الفعل معه كل مرة، ولكن بدلاً من الإدراك المطلوب دب فيه الطمع ولم يقدّر الظرف، ولا فكّر بأن يتعلم المبادرة منه ليفعلها هو الآخر مع غيره من بني البشر، إنما غدا كالمستجدي اللجوج الذي قد تندم في بعض الأحيان على النظر إليه بعين الرأفة، لأنه يستغل تلك الطيبة ويساهم في تجفيف منهل الإحسان بدلاً من تدفقه، حيث راح الجارُ يطالبه بالزيت كل ما أحس بأن الرجل سيزور المنطقة، لظنه ربما بأن لديه معصرة زيتون أو أنه يمتلك آلاف الأشجار! وثمة مثال آخر يستدعي الأسف مثله وهو أن أحد الأنفار سمع بأن أحد معارفه كل بضعة أشهر يجود بشذراتٍ من كرمه لثلاثة معدمين من أبناء بلدته ومن بين المعدمين أخت الذي تناهى إلى مسامعه خبر التبرع، لذا وبدون أي حياء راح يطالب المُعطي بالمزيد من أفعال الخير، وأن لا ينسى أخته كلما نوى القيام بذلك الفعل! ناسياً بأن مساعدة أخته ينبغي أن تكون جزء رئيسي من مسؤوليته هو وليس من مسؤولية صاحب الرفد، باعتبار أن وضعه الاقتصادي أفضل عدة مرات من وضع فاعل الخير نفسه! وبتصورنا أن هكذا بشر يجعلون البعض يخاف حتى من التفكير بمساعدة غيره، أولاً لعدم تقدير ظرف الآخرين على ما يصنعون، وثانياً لأنهم قد يمارسون كل تطفلهم على المانِح.
على كل حال بما أن حالتنا مع الأمراض الاجتماعية لا تختلف كثيراً عن حالة الآخرين الذين أصيبوا بنفس الأسقام السوسيولوجية قبلنا بعقودٍ أو قرون، لذا عندما نصادف في تراثهم ما نعايشه اليوم، يدفعنا ذلك إلى الشعور بضآلة الذات بسبب تأخرنا الزمني عنهم، خصوصاً وأن داؤنا الراهن يماثل تماماً ما وجدناه مرمياً في قاع كشكول أناسٍ غادروا هذا العالم قبل قرون، ومنه على سبيل الذكر الرأي السديد لسيدة ثرية كانت تعيش في زمن الملك لويس الرابع عشر، إذ أن تلك السيدة قد أحبت في وقتها أن تساعد الفقراء بمالها، كما يفعل اليوم بعض المغتربين مع بعض أقرانهم المحتاجين؛ إلاّ أن الطمع الزائد لأولئك الفقراء دفع بتلك المرأة لأن تقول هذه الحكمة المأثورة: «طبيعة الإنسان وجشعه تجعلانه يحلم بالرخاء، بينما تعوزه الضروريات»، لذا نتمنى ممن يجد مَن يغدق عليه بفيض كرمه بأن يحصر حاجته إليه في مدار الأساسيات وليس الشكليات والكماليات، لأنه من المعيب لمن يتلقف مالاً من أحدهم لكي يقضي به أهم وأبدى حاجياته الأولية،بينما وبدلاً من تأمين تلك الأساسيات يشتري بالمبلغ الممنوح له شيء فائض عن حاجاته الملحة، كأن يذهب بالمنحة مثلاً لابتياع أحدث تلفون آيفون، أو يصرف ما دُفع إليه في الملاهي أو المطاعم أو أماكن اللهو.