-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رواية «القلعة» لفرانتس كافكا – الفصل الأول



كان الوقت أواخر المساء عندما وصل ك، وكانت القرية غارقة في الثلج. لم يكن أي شيء بادياً من تلة القلعة، إذ كانت مغلفة بالضباب والعتمة، ولا حتى بصيص نور يدل على وجود القلعة الكبيرة. توقف ك طويلاً على الجسر الخشبي المؤدي من الطريق العام إلى القرية، رافعاً نظره نحو ما يبدو فراغاً.

 

ثم تابع طريقه بحثاً عن مكان للمبيت. في الحانة لم يخلدوا للنوم بعد، ولم يكن لدى صاحبها غرفٌ ليؤجرها، لكن الضيف المتأخر فاجأه وأربكه، لدرجة أن عرض عليه النوم في صالة الحانة على مرتبة محشوة بالقش، فوافق ك. كان بعض الفلاحين لا يزالون يحتسون البيرة، لكنه لم يكن راغباً في تبادل الحديث مع أحد، فأنزل بنفسه المرتبة القشية من السقيفة ووضعها قرب المدفأة واستلقى. كانت الصالة دافئة والفلاحون صامتون، تفحَّصهم قليلاً بعينيه المتعبتين ثم أخذه النوم.

 

لكنه أوقِظ بعد غفوة قصيرة. رأى شاباً يلبس مثل أبناء المدينة، بوجهٍ كممثل وعينين ضيقتين وحاجبين كثين، يقف إلى جانبه مع صاحب الحانة. والفلاحون لا زالوا هناك، لكن بعضهم استدار بكرسيه ليرى ويسمع بشكل أفضل. اعتذر الشاب بأدب جمٍّ من ك لإيقاظه إياه، وقدّم نفسه بصفته إبن ناظر القلعة، ثم قال:" إن ملكية هذه القرية تتبع للقلعة، ومن يقيم أو يبيت هنا إنما هو بحكم مَن يقيم أم يبيت في القلعة. ولايجوز لأحد أن يفعل هذا دون تصريح من الغراف* وأنت لا تملك مثل هذا التصريح أو لم تبرزه على الأقل."

 

اعتدل ك قليلاً ورتّب شعره، نظر إلى الرجلين من موضعه تحت وقال:" إلى أي قرية تهتُ أنا؟ وهل توجد قلعة هنا ؟"

 

" طبعاً توجد "، قال الشاب ببطء فيما هز البعض هنا وهناك برأسه مستغرباً كلام ك، " إنها قلعة الغراف ﭭِسْتْـﭭِسْت."

 

" ولابد من الحصول على تصريح للمبيت؟ " سأل ك كمن يريد إقناع نفسه بأن الخبرين السابقين وصلاه في منامه.

 

" يجب الحصول على التصريح "، جاءه الجواب، وعندما سأل الشاب صاحب الحانة وزبائنه ماداً ذراعه نحوهم :"  أم لا ضرورة للتصريح ربما ؟" كان في حركته سخرية كبيرة.

 

" إذاً يتوجب عليّ الحصول على التصريح" قال ك متثائباً وأبعد الغطاء عنه كمن يريد أن ينهض.

 

" ومِمَّن ؟" سأله الشاب.

 

" من السيد الغراف"، قال ك، " لم يبق أمامي سوى ذلك."

 

" الآن عند منتصف الليل تريد الحصول على التصريح من الغراف؟" هتف الشاب ورجع خطوة للوراء.

 

" أليس هذا ممكناً ؟" سأل ك متماسكاً، " لماذا أيقظتني إذاً؟"

 

ثارت ثائرة الشاب وصاح:" هذه تصرفات مشردين في الشوارع! أطالبك باحترام موظفي الغراف! لقد أيقظتك لأخبرك بضرورة أن تغادر فوراً منطقة الغراف."

 

" كفى هزلاً "، قال ك بهدوء لافت، استلقى مجدداً وسحب الغطاء فوقه. " إنك تتجاوز حدود الأدب أيها الشاب، وغداً مباشرة سآتي على ذكر سلوكك. صاحب الحانة والسادة هناك شهود، إنْ احتجتُ عموماً إلى شهود. ودعني أقول لك إضافة إلى ذلك، إني مسّاح الأراضي الذي طلبه الغراف. مساعداي مع المُعِدّات سيلحقان بي غداً بالعربة. أنا لم أرِد أن اُفوِّت عليّ مشوار المشي في الثلج، لكني للأسف تهت عدة مرات أثناء الطريق، ولهذا وصلت متأخراً على هذا النحو. وكون الوقت قد تأخر جداً على تسجيل وصولي في القلعة هو أمرٌ أدركته لوحدي، قبل موعظتك. ولهذا أيضاً رضيت بهذا المبيت، الذي امتلكتَ أنت – لنقل بلطف – ما يكفي من عدم اللياقة لتزعجني فيه. وبهذا انتهت إيضاحاتي. طابت ليلتكم أيها السادة." واستدار ك نحو الموقد.

 

" مسَّاح أراضٍ ؟" سمع أحدهم من وراء ظهره يسأل بتردد، ثم ساد هدوء عام. لكن الشاب سرعان ما تماسك وقال لصاحب الحانة بصوت خفيض بما يكفي ليُعتبر مراعاة لنوم ك، ومسموعاً بما يكفي ليُفهِمه:" سأستفسر هاتفياً." ماذا، أيوجد هاتف أيضاً في حانة القرية هذه؟ إنها مجهزة بشكل ممتاز. فوجئ ك بذلك كتفصيل، أما بصورة عامة فقد كان يتوقعه. تبين أن جهاز الهاتف كان مركباً فوق رأسه، غير أنه بسبب نعاسه لم يره. وإذا أراد الشاب الآن أن يخابر، فلا محيد له عن إزعاج نوم ك، لكن الأمر بقي متعلقاً فقط بما إذا كان على ك السماح له بذلك، وقرر أن يأذن له. وعندها لا جدوى طبعاً من تمثيل دور النائم، فعاد لوضعية الاستلقاء على ظهره ثانية. رأى الفلاحين يقتربون بكراسيهم من بعضهم بعضاً بخجل ويتشاورون، فقدوم مسّاح أراض ليس أمراً هيّناً. إنفتح باب المطبخ وملأ الفراغ جسم صاحبة الحانة الضخم، فاقترب منها صاحب الحانة على رؤوس أصابعه ليخبرها بما يجري. وعندها بدأت المكالمة الهاتفية. وكيل القلعة كان نائماً، لكن نائبه، أحد نوابه، السيد فريتس موجود. عرَّفَ الشاب عن نفسه باسم شـﭭارتسر وحكى كيف عثر على ك، وهو رجل في الثلاثينات، رث الهيئة جداً، ينام بارتياح على مرتبةٍ قشيَّة مستخدماً شنطة ظهره الصغيرة كوسادة، وهناك بمطال يده عصا مسيرٍ ذات عُقَد. فبدا له الرجل مريباً طبعاً، وبما أن صاحب الحانة على ما يبدو قد أهمل واجبه، صار من واجبه هو، شـﭭارتسر، أن يحقق في الأمر. وقد كانت استجابة ك لإيقاظه من نومه واستجوابه ومطالبته رسمياً بمغادرة منطقة الغراف، استجابة تدل على استياء عارم، وربما كان محقاً في نهاية المطاف، لأنه يزعم كونه مسّاحاً قادماً بناء على طلب السيد الغراف. ومن الطبيعي كواجب شكلي على الأقل التحقق من هذا الزعم، ولهذا يرجو شـﭭارتسر من السيد فريتس الاستعلام من الإدارة المركزية عما إذا كان قدوم مسّاح من هذا القبيل مُتوقعاً حقاً، وإعلامه بذلك فوراً هاتفياً.

 

ثم ساد الهدوء، فريتس يستعلم هناك، وهنا ينتظرون الجواب. بقي ك على حاله، حتى إنه لم يلتفت إليهم، بدا غير فضولي على الإطلاق، ينظر أمامه فحسب. إن حديث شـﭭارتسر الممزوج من الخبث والحذر قدّم له تصوراً عن التعليم الدِبلوماسي إلى حد ما، الذي يحصل عليه بسهولة في القلعة حتى صغار الناس مثل شـﭭارتسر. ويبدو أن المواظبة لا تنقصهم هناك؛ فالإدارة المركزية لديها دوام ليلي، وقدمت الجواب بسرعة كبيرة حسبما بدا، إذ سرعان ما اتصل فريتس. كان التقرير على كل حال قصيراً جداً، فسرعان ما أطبق شـﭭارتسر السماعة بغضب وصاح: " ألم أقُلها! لا أثر لمسّاح أرضٍ، إنه متشرد وضيع كاذب، ولربما يكون ألعن من ذلك." للحظة فكّر ك بأن الجميع: شـﭭارتسر، الفلاحين، صاحب الحانة وزوجته سينقضون عليه، ولتفادي الهجمة الأولى على الأقل، اختبأ كله تحت الغطاء. عندها رن الهاتف مرة ثانية، وبدا له أنه يرن بقوة على نحو خاص، فأخرج رأسه ثانية وببطء. على الرغم من لامعقولية أن تكون المكالمة مرتبطة به ثانية، جمد الجميع وعاد شـﭭارتسر إلى الهاتف، فاستمع إلى شرح طويل ثم قال بصوت منخفض:" حصل خطأ إذاً؟ هذا محرج جداً بالنسبة لي. رئيس المكتب اتصل بنفسه؟ غريب، غريب. كيف لي أن أوضح ذلك للسيد المسّاح؟"

 

أرهف ك السمع. إذاً لقد عينته القلعة مسّاحاً. كان هذا، من ناحية، غير مناسب بالنسبة إليه، لأنه يبيّن أنهم في القلعة يعرفون عنه كل ما هو ضروري، فوازنوا علاقة القوى ودخلوا المعركة مبتسمين. وكان ملائماً من ناحية أخرى، لأنه برهن، من وجهة نظره، على أنهم قد استخفّوا به، وهذا سيمنحه حرية أكبر مما أمل أن يحصل عليه منذ البداية. وعبر هذا الاعتراف المتفوق بالتأكيد فكرياً بمهاراته في مسح الأراضي، إنْ اعتقدوا في القلعة بقدرتهم على إخافته باستمرار، فإنهم يخدعون أنفسهم، لقد ارتعش قليلاً، لكن هذا كان كل شيء.

 

أشار ك لشـﭭارتسر، المقترب منه بخجل، أن يبقى بعيداً؛ رفض الانتقال إلى غرفة صاحب الحانة رغم الإلحاح الشديد، لكنه قبِل أخذ شراب منوِّم منه، وطستاً وصابونة ومنشفة من زوجته، ولم يضطر أبداً إلى طلب إخلاء الصالة، إذ اندفع الجميع للخروج بوجوه ملتفتة عنه، كيلا يتعرفهم غداً صباحاً. اُطفِئ المصباح وحصل ك أخيراً على هدوئه. نام بعمق حتى الصباح، لكن بعض الفئران المسرعة من جانبه أزعجته مرة أو مرتين.

 

بعد تناول الفطور، الذي سيكون مع كامل الخدمة على حساب القلعة كما قال صاحب الحانة، أراد ك الذهاب إلى القرية فوراً. ولكن بما أنه لم يتبادل مع صاحب الحانة سوى بضع كلمات، لتذكرِه سلوكه بالأمس، وهذا يحوِّم حوله طوال الوقت برجاءٍ صامت، أشفق ك عليه وسمح له بالجلوس للحظات إليه.

 

" أنا لم أتعرف إلى الغراف بعد "،قال ك،" يقال إنه يدفع جيداً للعمل المنجز جيداً، هل هذا صحيح؟ عندما يسافر المرء مثلي بعيداً عن الزوجة والأولاد، فإنه يطمع في أن يعود إليهم بشيء في جيبه."

 

" لا داعي لقلق السيد من هذه الناحية، فلم نسمع هنا شكاوى بشأن أجور متدنية." – " حسناً "، قال ك، " أنا لست من أولئك الخجولين وأستطيع أن أجهر برأيي أمام الغراف، لكن الأفضل طبعاً هو أن ينهي المرء أموره بسلام مع هؤلاء السادة."

 

جلس صاحب الحانة على عتبة النافذة قبالة ك، ولم يجرؤ على التبسط في الجلوس معه، وهو ينظر إليه طوال الوقت بعينين كبيرتين بنيتين خائفتين. كان في البداية يكاد يلتصق به، وبدا الآن كمن يفضل الهروب. هل خشي أن يُسأل ويُستدرج للكلام عن الغراف؟ هل خشي من عدم موثوقية ‘ السيد ‘، الذي يراه في ك؟ كان على ك أن يلهيه، فنظر إلى ساعته وقال:" قريبأ سيصل مساعداي، هل بإمكانك أن تدبر إقامتهما عندك؟"

 

" طبعاً يا سيدي، ولكن ألن يقيما معك في القلعة ؟"

 

أبهذه السهولة وهذا السرور يتخلى عن الضيوف، وخاصة عن ك، بأن أحاله حتماً إلى القلعة؟

 

" هذا ليس مؤكداً بعد "، قال ك، " علي أن أعرف أولاً العملَ الذي سأكلف به. إذا كنت مثلاً سأعمل هنا تحت، عندها يكون الأكثر معقولية هو الإقامة هنا تحت. كما أخشى ألا تناسبني الحياة فوق في القلعة. أريد أن أكون حراً دائماً."

 

" إنك لا تعرف القلعة "، قال صاحب الحانة بصوت منخفض.

 

 

" طبعاً "، قال ك، " لايجوز للإنسان أن يستعجل في الحكم على الأمور. حالياً لا أعرف عن القلعة أكثر من أنهم هناك يجيدون اختيار مساحي الأراضي. ربما كانت هناك ميزات أخرى." ونهض ليحرر منه صاحبَ الحانة، الذي كان يعض على شفتيه بقلق. كسبُ ثقة هذا الرجل ليس أمراً سهلاً.

 

أثناء مغادرة ك الحانة لفتت نظره على الجدار لوحة ﭙورتريه قاتمة في إطار قاتم، سبق أن لحظها من مرقده دون أن يميز التفاصيل بسبب بعد المسافة، وظن أن الصورة الأصلية قد انتُزِعت من الإطار، ولم يتبق للرؤية سوى الغطاء الخلفي الأسود. لكنها كانت صورة حسبما تبيّن له الآن، صورة نصفية لرجل في نحو الخمسين من عمره. كان خافضاً رأسه على صدره لدرجة أن لم يعد هناك ما يُرى من العينين تقريباً، وبدا أن المهم من هذا الخفض هو الجبين العالي الرهيب والأنف القوي الأقنى. ونتيجة لوضعية الرأس المضغوط على الذقن برزت اللحية الكاملة تحت إلى الأمام. كانت يده اليسرى متغلغلة في شعر اللحية الكثيف منفرجة الأصابع، دون أن تتمكن من رفع الرأس. " مَن هذا؟ " سأل ك، " أهو الغراف؟" كان ك واقفاً أمام الصورة ولم يلتفت نهائياً نحو صاحب الحانة. " لا، إنه وكيل القلعة "، قال صاحب الحانة. " لديهم وكيل جميل هناك في القلعة، فعلاً. لكن ما يؤسف له هو أن يكون ابنه غير مؤدب"، قال ك، فأجابه صاحب الحانة وهو يجذبه نحوه قليلاً، هامساً في أذنه:" لا، شـﭭارتسر بالغَ أمس، والده أحد نوّاب الوكيل فقط، وفي الواقع أحد أقلهم شأناً." في هذه اللحظة بدا صاحب الحانة لـ ك مثل ولد، فقال ضاحكاً:" الصعلوك!"، لكن صاحب الحانة لم يشاركه الضحك، بل قال:" ووالده أيضاً ذو سلطان." فعلق ك:" لا يارجل! أنت تعتبر الجميع ذوي سلطان، فهل أنا منهم أيضاً؟" – " أنت "، قال صاحب الحانة خجلاً ولكن جاداً،" لا أعتبرك من ذوي السلطان." – " أنت تمايز جيداً إذاً "، قال ك، " فأنا لست من ذوي السلطان، وهذا كلام ثقة، لست منهم فعلاً. ونتيجة لذلك لست ربما أقل احتراماً لذوي السلطان منك أنت، غير أنني لست صادقاً مثلك ولا أريد دائماً أن أعترف بذلك." وربّت بلطف على خد صاحب الحانة ليواسيه وليستميله إليه قليلاً، فظهرت على وجه  الأخير ملامح ابتسامة. كان حقاً مثل ولد بوجهه الناعم الأجرد. كيف وصل إلى هذه المرأة الضخمة التي تكبره سناً، والتي تبدو الآن عبر الكوة مباعدة مرفقيها عن جسمها، منشغلة في المطبخ ؟ لكن ك لم يكن راغباً الآن في الضغط عليه أكثر، لئلا تتلاشى الابتسامة المتحققة أخيراً. وبناء على ذلك أشار له فقط ليفتح الباب وخرج إلى الصباح الشتوي الجميل.

 

 

في الجو الصافي رأى الآن معالم القلعة واضحة فوق، وزاد في توضيحها الثلجُ المنتشر في كل مكان، محدداً الأشكال كافة بطبقة رقيقة. وبدا أن الثلج فوق على التل أقل بكثير مما هو عليه هنا في القرية، حيث لاقى ك صعوبة في التقدم ليست بأقل مما لاقاه بالأمس على الطريق العام. هنا وصل ارتفاع الثلج حتى نوافذ الأكواخ وجثم بثقله على السطوح الواطئة، أما فوق على التل فقد انتصب كل شيء عالياً نوعاً ما و حراً، أو هكذا بدا من هنا على الأقل.

 

 

بصورة عامة تطابقت القلعة، حسبما تبدت من البعيد، مع توقعات ك. لم تكن حصن فرسان قديم ولا بناء فخماً جديداً، وإنما مُنشأة معمارية متمددة، مشكّلة من عدد قليل من الأبنية ذوات الطابقين ومن كثير من الأبنية الواطئة الملتصقة واحدها بالآخر؛ ولو لم يعرف المرء مسبقاً أنها قلعة، لاعتبرها بلدة. ولم يشاهد ك إلا برجاً واحداً، لكنه لم يستطع تبيّن ما إن كان تابعاً لبناء سكني أو إلى كنيسة. وكانت تحوِّم حوله أسراب من الغربان.

 

 

تابع ك طريقه وعيناه موجهتان نحو القلعة، غير مبالٍ بأي أمرٍ آخر. ولكن مع الاقتراب منها صدمته القلعة، إذ إنها لم تكن أكثر من بلدة بائسة، متشكلة من بيوت قروية، ما من شيء يميزها سوى أن كل ما فيها ربما كان مبنياً من الحجر؛ لكن الطلاء الخارجي تساقط منذ مدة طويلة، وبدا أن الحجارة قد بدأت تتفتّت. تذكر ك بشكل عابر بلدته، مسقط رأسه، التي لم تكن متخلفة كثيراً عن هذه القلعة المزعومة. لو كان غرض ك هو الزيارة للفرجة فحسب، لوفّر على نفسه عناء التجوال الطويل، ولتصرف بعقلانية أكبر، بأن يزور موطنه القديم ثانية، فقد مضى وقت طويل منذ زيارته الأخيرة. وكان يقارن في أفكاره بين برج كنيسة موطنه وبين البرج هناك على التل. ذاك البرج كان بالتأكيد ودون تردد منتصباً نحو الأعلى، حيث يتدبب تحت سقف عريض مغطى بالقرميد الأحمر، كان بناء دنيوياً – وماذا بإمكاننا أن نبني سوى ذلك؟ - ولكن بهدف أسمى من مجموعة البيوت الواطئة وبتعبير أكثر صفاءً من يوم العمل العكر. والبرج هنا فوق – البرج المرئي الوحيد – كان برج بناء سكني، حسبما تبيّن الآن، ربما برج القصر الرئيسي، مستديراً على وتيرة واحدة، مغطى جزئياً بأوراق اللبلاب الحانية، مزوداً بنوافذ صغيرة يعكس زجاجها الآن أشعة الشمس بصورة ساحرة، وينتهي أعلاه بشرفة ذات سور مسنن، وكانت هذه الأسنان مضطربة وغير منتظمة ومتكسرة الزوايا، كأنما قد رُسمت بيد طفل خائف أو متهاوِن، مشرشرة على خلفية السماء الزرقاء. بدا الأمر كما لو أن أحد المصابين بالاكتئاب من ساكني البرج قد أراد حجز نفسه وهو محق في ذلك في أبعد غرفة من المبنى، فاخترق السقف ونهض ليُري العالمَ نفسه.

 

 

عاود ك الوقوف ساكناً، وكأنه يستمد في الوقوف المزيد من القدرة على الحكم. ثمة ما أزعجه. وراء كنيسة القرية التي توقف عندها – وهي في الواقع كنيسة صغيرة، شونة موسّعة لتشمل سكان القرية – كانت المدرسة. إنها بناء طويل منخفض يجمع بشكل غريب طابعَ المؤقت والبالغ القِدم معاً، وراء حديقة مسوّرة كانت الآن حقل ثلج. وللتو خرج منها الأطفال مع معلمهم، وقد أحاطوا به كمجموعة كثيفة، وعيونهم معلقة به وهم يثرثرون بلا توقف من جميع الجهات، لكن ك لم يفهم شيئاً من لغطهم السريع. كان المعلم شاباً قصيراً ، ضيق المنكبين، ولكن منتصب القامة جداً، دون أن يكون مدعاة للضحك، التقطت عيناه ك فوراً رغم بعد المسافة، ولكن عدا مجموعته و ك لم يوجد أحد في طول المنطقة وعرضها. وباعتبار ك غريباً فقد بادر بإلقاء التحية على هذا الرجل القصير الآمر. " نهارك سعيد، حضرة المعلم"، قال ك، فسكت الأطفال دفعة واحدة، وهذا السكون تحضيراً لكلماته لابد وأنه قد أعجب المعلم." هل تتطلع إلى القلعة؟ " سأل المعلم بدماثة أكبر مما توقع ك، ولكن بلهجة مَن لا يحبذ ما يفعله ك. "نعم "، قال ك، " أنا غريب هنا، وصلت فقط مساء أمس." – " القلعة لا تعجبك؟" سأله المعلم بسرعة." ماذا؟ "سأل ك، منذهلاً نوعاً ما، وأعاد السؤال بصيغةٍ ألطف: " تسألني إنْ كانت القلعة تعجبني؟ لماذا تفترض أنها لا تعجبني؟" – " إنها لا تعجب أي غريب"، قال المعلم. ولكي لايقول هنا شيئاً غير مناسب غيّر ك مجرى الحديث وسأله:" هل تعرف الغراف ؟" – " لا "، قال المعلم وأراد أن ينصرف، لكن ك لم يستسلم وسأل ثانية:" كيف هذا؟ أنت لاتعرف الغراف؟" – " وكيف لي أن أعرفه؟" قال المعلم بصوت خافت وأضاف بالفرنسية بصوت عالٍ:" عليك مراعاة وجود أطفال أبرياء." فاستخلص ك من ذلك حق أن يسأله:" أيمكنني ياحضرة المعلم أن أزورك؟ سابقى هنا مدة طويلة، وأحس منذ الآن بنوع من العزلة؛ فأنا لا أنتمي إلى الفلاحين، وحتماً ليس إلى القلعة." – " ليس الفارق كبيراً بين الفلاحين والقلعة "، قال المعلم." هذا محتمل، لكنه لا يغيّر شيئاً بالنسبة إلى وضعي، فهل يمكنني زيارتك؟" قال ك.  "أقيم في زقاق البجع لدى القصّاب." كان هذا بالأحرى تعريفاً بعنوانه وليس دعوة، ومع ذلك قال ك:" حسناً سأزورك." أومأ المعلم برأسه موافقاً وتابع طريقه مع مجموعة الأطفال الذين عاودوا الصياح فوراً، وسرعان ما غابوا في حارة ضيقة شديدة الانحدار.

 

 

أما ك فكان مشتت الذهن، ومنزعجاً من الحوار. لأول مرة منذ وصوله يشعر بتعب حقيقي. لم يبدُ له بادئ الأمر أن الطريق الطويل إلى هنا قد أجهده، لقد تجول طوال أيام، بهدوء، خطوة فخطوة! – لكن الآن تظهر عواقب الجهد المضني، وفي الوقت غير المناسب طبعاً. كان منجذباً على نحو لا يقاوَم للتعرف على أناس جدد، غير أن كل تعارف جديد كان يُزيد التعب. إذا ضغط على نفسه في وضعه الحالي اليوم، لمتابعة مشواره، على الأقل حتى مدخل القلعة، فسيكون هذا أكثر من كافٍ.

 

 

وهكذا تابع طريقه إلى الأمام، بيد أن الطريق كان طويلاً. فالشارع، شارع القرية الرئيسي لايؤدي إلى تل القلعة، بل يقترب منه فقط، ثم، وكأن الأمر متعمد، ينعطف، وحتى عندما لا يبتعد الشارع عن القلعة فإنه لا يقترب منها أيضاً. وكان ك طوال الوقت يتوقع أن الشارع لابد من أن يُذعن أخيراً، وفقط لأنه كان يتوقع، تابع مسيره؛ ونتيجة تعبه على مايبدو فقد تردد في ترك الشارع، كما اندهش من طول القرية الذي لا ينتهي، طوال الوقت كانت تتتالى البيوت الصغيرة بنوافذها المتجلدة والثلج والخواء البشري – وأخيراً انتزع نفسه من هذا الشارع الذي لايحيد، ليتلقفه زقاق ضيق وثلج أعمق، إذ كان سحبُ القدمين الغائصتين في الثلج عملاً شاقاً، فتصبب عرقاً. وفجأة توقف ساكناً ولم يعد يستطيع المتابعة.

 

 

غير أنه لم يكن الآن معزولاً، فعن يمينه ويساره تقوم أكواخ الفلاحين. صنع كرة من الثلج ورماها على إحدى النوافذ. إنفتح الباب فوراً – وكان أول باب يُفتح طوال شارع القرية – ووقف في فتحته فلاح عجوز يرتدي سترة من الفراء، رأسه مائل جانبياً، ودود وضعيف. " أتسمح لي بالدخول لعندكم قليلاً؟ أنا متعب جداً"، قال ك. لم يسمع مطلقاً ماقاله العجوز، لكنه تقبل شاكراً أن دُفِع نحوه لوح خشبي أنقذه فوراً من الثلج، وبعدة خطوات صار داخل الحجرة.

 

 

حجرة واسعة غسقية الإضاءة. للوهلة الأولى لايرى القادم من الخارج أي شيء. ترنح ك مصطدماً بطست غسيل، فسندته يد امرأة. سمع من إحدى الزوايا صياح أطفال كثر. ومن زاوية أخرى اندفع دخان حوَّل الإضاءة الخافتة إلى عتمة. وقف ك كما بين الغيوم. "إنه سكران"، سمع أحدهم يقول. " مَن أنت؟ " جاءه صوت آمر التفت من ثم إلى العجوز قائلاً:" لماذا أدخلته إلينا؟ هل نُدخل إلينا كل مَن يتسكع في الأزقة؟" فقال ك:" أنا مسّاح الأراضي التابع للغراف "، محاولاً بذلك التعريف عن نفسه تجاه الذين لايزالون غير مرئيين. " أخْ، إنه المسّاح إذاً "، قال صوت نسائي، تبعه سكون تام. " هل تعرفوني؟ " سأل ك. " بالتأكيد "، قال الصوت نفسه باقتضاب. وكون المساح معروفاً، لم يستحسنه ك.

 

 

أخيراً تلاشى الدخان نوعاً ما، وتمكن ك ببطء من التعرف على ما حوله. بدا أنه كان يوم غسيل واغتسال عام. قرب الباب كانت تُغسل الشراشف والثياب، لكن الدخان كان آتياً من الزاوية الأخرى، حيث كان رجلان يستحمان في مياه يتصاعد منها البخار في حوض خشبي، لم يسبق أن رأى ك مثيلاً له، إذ كان بحجم سريرين. لكن ما يفاجئ المرءَ أكثر، دون أن يدرك بدقة أين يكمن عنصر المفاجأة، كان في الزاوية اليمنى. من نافذة كبيرة، وهي الوحيدة في جدار الحجرة الخلفي، دخل من الفِناء لا شك، نور ثلجٍ أصفرٌ باهت، أسبغ على ثوب المرأة مظهراً حريرياً، وكانت المرأة جالسة في مقعد مريح، وتكاد تستلقي فيه من التعب وهي تحمل رضيعاً على صدرها. ثمة أطفال يلعبون حولها، أطفال فلاحين حسبما يدل مظهرهم، غير أنها لم تبدُ منتمية إليهم. لاشك في أن المرض والتعب يجعلان الفلاحات أيضاً تظهرن ناعمات.

 

 

" تفضل إجلس !" قال أحد الرجلين، وكان ذا لحية كاملة وشارباً كثاً فوقها، تاركاً فمه بينهما مفتوحاً لاهثاً طوال الوقت – كان منظره هذا مضحكاً -، مشيراً بيده من فوق حافة الحوض إلى صندوق خشبي كبير، و رَشّ بحركته هذه وجه ك كله بماء ساخن. فوق الصندوق الخشبي كان العجوز الذي أدخل ك جالساً وغافياً يحلم. وكان ك ممتناً للسماح له بالجلوس أخيراً، ولم يعد أحد يوليه أي اهتمام. كانت المرأة الجالسة عند طست الغسيل شابة شقراء ممتلئة وتغنّي بصوت خافت وهي تغسل، فيما الرجلان في الحوض يدقان القاع بأقدامهما وهما يدوران حول نفسيهما، وكلما حاول الأولاد الاقتراب منهما، أبعداهم عنهما برشقات ماء قوية، لم ينج ك من آثارها، والمرأة في المقعد المريح راقدة كالميتة، دون أن تنظر حتى إلى الرضيع على صدرها، وإنما نحو الأعلى، لا على التعيين.

 

 

لقد أطال ك النظر إليها، إلى هذه الصورة اللامتغيرة الجميلة الحزينة، لكنه غفا من ثم على ما يبدو، إذ عندما ناداه صوت عالٍ، ففزِعَ، كان رأسه على كتف العجوز بجانبه. كان الرجلان قد أنهيا حمامهما ووقفا لابسين أمام ك، فيما الأولاد يعبثون في الحوض تحت رقابة المرأة الشقراء. وظهر أن ذا اللحية الكاملة، الصَيّاح، هو الأقل شأناً بين الرجلين، فالثاني ليس أطول، ولحيته أخف بكثير، لكنه قليل الكلام، متأنٍ في التفكير، عريض البنية وعريض الوجه أيضاً، ويُبقي رأسه مطأطئاً قليلاً. وقال:" لا يمكنك البقاء هنا، أيها السيد المساح. واعذر قلة أدبي." – " لم أكن أبغي البقاء، بل أن أستريح قليلاً فقط، وقد استرحت، وسأغادر الآن "، قال ك. فعلق الرجل:" قد تستغرب قلة ضيافتنا، لكن الضيافة ليست من عاداتنا، نحن لسنا بحاجة إلى ضيوف." كانت الغفوة قد أنعشت ك قليلاً وجعلته أكثر إرهافاً للسمع عمّا سبق، فسرَته صراحة الكلمات، وتحرك بحرية أكبر سانداً عصاه تارة هنا وتارة هناك، واقترب من المرأة في المقعد المريح، وقد لاحظ أنه جسمياً الأطول في الغرفة.

 

 

" مؤكد "، قال ك، " فما حاجتكم إلى الضيوف. ولكن هنا وهناك يحتاج الإنسان إلى مَن هو مثلي، إلى مسّاح أراضٍ." – " لست أدري"، قال الرجل ببطء، " إذا كانوا قد استدعوك، فربما لأنهم يحتاجون إليك، هذا بالتأكيد استثناء، أما نحن، الناس الصغار، فإننا نتمسك بالقاعدة، ولايمكنك أن تؤاخذنا على ذلك." – " لا، لا "، قال ك، " ليس لي إلا أن أشكرك وجميع مَن هنا." وما لم يتوقعه أحد، هو أن قفز ك ببساطة مستديراً ليقف أمام المرأة. نظرت إليه بعينين متعبتين زرقاوين، وثمة غطاء رأس حريري شفّاف يصل إلى منتصف جبهتها، والرضيع نائم على صدرها. " مَن أنتِ؟ " سألها ك. فأجابت بازدراء:" فتاة من القلعة." ولم يكن واضحاً مَن المقصود بسخريتها، ك أم جوابها هي.

 

 

لم يستغرق ذلك أكثر من لحظة، فسرعان ما أحيط ك بالرجلين على جانبيه، واقتيد بصمت وبكل قوة نحو الباب، وكأنما لم يتبق من وسيلة أخرى للتفاهم. ثمة ما أفرح العجوز في ما جرى، فصفق بيديه. كذلك ضحكت الغسالة الشقراء الواقفة عند الأولاد الذين ارتفع صخبهم أكثر فجأة.

 

أما ك فقد بات بسرعة في الزقاق والرجلان يراقبانه من عتبة البيت. عاود الثلج الهطل؛ رغم ذلك بدا الجو نوعاً ما نيّراً أكثر. صاح به ذو اللحية الطويلة نافد الصبر: " إلى أين تريد الذهاب؟ من هنا إلى القلعة، ومن هناك إلى القرية." لم يجبه ك، لكنه قال للآخر الذي بدا أسهل معشراً رغم تفوقه جسدياً:" مَن أنتما؟ لمن أتوجه بشكري لفرصة الاستراحة؟" – " أنا معلم الدباغة لازيمَن "، جاءه الجواب، " ولكن لا حاجة بك لتشكر أحداً." – " حسناً، قد نلتقي ثانية"، قال ك، فأجابه الرجل:" لا أظن." في تلك اللحظة صاح ذو اللحية الطويلة رافعاً يده:" نهارك سعيد، آرتور، نهارك سعيد يرمْياس!" إستدار ك، ليتبين أن بعض الناس في هذه القرية يمشون فعلاً في الزقاق. من جهة القلعة قدِم شابان متوسطا القامة، رشيقان جداً، في ثياب ضيقة، ووجهاهما متشابهان جداً. كان لون بشرة الوجه أسمر داكناً، ومع ذلك برزت فيه اللحية المدببة بسوادها المتميز. ورغم أوضاع الطرقات كانا يسيران بسرعة مدهشة وهما يحركان سيقانهما بإيقاع منتظم. "ما وراءكما ؟"، صاح بهما ذو اللحية الطويلة. ونظراً لسرعتهما لم يكن التفاهم معهما ممكناً إلا صياحاً، يمشيان ولا يتوقفان. "أشغال"، أجابا ضاحكين صياحاً. "أين؟" – "في الحانة." – "أنا ذاهب إلى هناك أيضاً !" صاح ك فجأة بصوت أعلى من الجميع، كانت لديه رغبة كبيرة في أن يأخذه الإثنان معهما، صحيح أن التعرف إليهما لم يبدُ له مفيداً جداً، غير أنهما على ما يبدو سيكونان رفيقي طريق طيبين ومسليين. سمعا كلمات ك، لكنهما أومأا برأسيهما فقط وتجاوزاه.

 

 

مازال ك واقفاً في الثلج، فاقد الرغبة في أن يرفع قدمه منه لينزلها بعد مسافة صغيرة في العمق ثانية؛ أما معلم الدباغة وزميله الراضيان عن التخلص أخيراً من ك إلى الخارج، فأخذا يتراجعان ببطء إلى داخل البيت وهما يلتفتان طوال الوقت إلى الخلف عبر الباب المردود قليلاً، فيما بقي ك وحيداً مع الثلج المحيط به. "يالها من فرصة ليأس خفيف"، خطر في باله، " ولكن فقط لو كنتُ واقفاً هنا بمحض الصدفة، وليس عامداً."

 

في تلك اللحظة فُتحت في الكوخ من الجهة اليسرى نافذة صغيرة جداً، وكان لونها مغلقةً أزرق قاتماً، ربما في انعكاس الثلج، وكانت على درجة من الصغر، بحيث لم يبدُ فيها وقد فُتحت الآن، كل وجه الناظر إلى الخارج، بل العينان فقط، عينان بنيتان مُسِنتان. " إنه واقف هناك"، سمع ك صوت امرأة مرتجف. ثم جاءه صوت رجل يقول:"إنه مسّاح الأراضي." ثم ظهر الرجل في النافذة وسأل بشيء من الود، ولكن بلهجة مَن يهمه أن تكون الأمور أمام بيته على ما يرام:"مَن تنتظر؟" – "أنتظر زحافة تأخذني معها"، قال ك. "من هنا لا تمر زحافات"، قال الرجل،"هنا لا توجد حركة مرور." – "لكنه الشارع المؤدي إلى القلعة"، اعترض ك. " رغم ذلك، رغم ذلك"، قال الرجل بشيء من الصرامة، " هنا لا توجد حركة مرور." ثم صمت كلاهما. لكن بدا أن الرجل كان يفكر بأمر ما، فقد أبقى النافذة الصغيرة التي كان يندفع منها الدخان مفتوحة. " طريق رديء"، قال ك ليدعمه.

 

ولم يجب بسوى:" نعم، طبعاً."

 

 

لكنه بعد هنيهة قال:" إذا أردتَ، أوصلك أنا بزحافتي." – " إفعلها، أرجوك"، قال ك مسروراً،" كم تريد لقاء ذلك؟" – " لاشيء "، قال الرجل. استغرب ك الأمر جداً. فقال الرجل موضحاً:" أنت المسّاح وتتبع للقلعة، أليس كذلك؟ إلى أين تريد الذهاب؟" – " إلى القلعة"، أجاب ك بسرعة. " إذاً لن أوصلك"، أجاب الرجل مباشرة. "لكنني أتبع للقلعة فعلاً"، قال ك، مكرراً كلمات الرجل نفسها. "محتمل"، قال الرجل بصدود. "أوصلني إذاً إلى الحانة"، قال ك. "حسناً، سأخرج فوراً مع الزحافة"، عقّب الرجل. لم يوحِ الأمر كله بودٍ استثنائي، إنما بالأحرى بمأربٍ ذاتي جداً، مغلف بالخشية، ويكاد يكون صارماً، لإبعاد ك من أمام بيته. إنفتحت بوابة الفناء وخرج منها جواد صغير وضعيف، يجر زحافة صغيرة للأوزان الخفيفة، مسطحة تماماً دون أي مقعد، ووراءها الرجل، محني الظهر، هزيلاً، يعرج، بوجه نحيل محمر من الزكام، وبدا صغيراً جداً بسبب شال صوفي لفه بشدة حول رأسه. كان جلياً أن الرجل مريض، ولم يغادر بيته إلا ليُبعد ك عنه. نوّه ك إلى شيء من هذا القبيل، لكن الرجل أشار بيده نافياً ذلك، وقال إنه الحوذي غِرْشْتِكَر، وقد أخرج هذه الزحافة غير المريحة،لأنها كانت بمتناول اليد، في حين أن سحب وإخراج زحافة أخرى سيستغرق الكثير من الوقت. "إجلس"، قال وأشار بالسوط إلى مؤخرالزحافة. " سأجلس إلى جانبك"، قال ك. "أنا سأمشي"، أجابه غِرشتِكر. "ما السبب؟" سأله ك، فكررغِرشتِكر:" أنا سأمشي" ودهمته نوبة سعال خضّته بشدة، بحيث ثبّت قدميه في الثلج وتمسك بيديه بطرف الزحافة. لم يزد ك بشيء، بل جلس على مؤخرة الزحافة. تدريجياً خف السعال، فانطلقا.

 

 

القلعة التي بدأت هناك على التل تغرق في العتمة بشكل مستغرب، والتي حاول ك اليوم بلوغها، أخذت تبتعد ثانية. وكأنما كان لابد من إعطائه إشارة ما بمناسبة هذا الوداع المؤقت، فسمع من هناك قرع ناقوس، ناقوسٍ بهيج جعل القلب ينتفض للحظة على الأقل، وكأنه مُهدَّدٌ - إذ كان القرع مؤلماً أيضاً - بتحقق ما يتوق إليه على نحو غير مأمون. ولكن سرعان ما صمت هذا الناقوس العظيم وحلّ محله ناقوس صغير ضعيف ورتيب، ربما جاء صوته من القلعة أيضاً، وربما من القرية. وهذا القرع الرتيب كان أكثر تلاؤماً طبعاً مع السفرة البطيئة ومع الحوذي التعس ولكن الصارم.

 

 

" أنت "، هتف ك فجأة – كانا قد اقتربا من الكنيسة، ولم تعد المسافة إلى الحانة بعيدة، فصار يجوز له أن يجازف قليلاً -، "إني لأستغرب جداً أن تجرؤ على مسؤوليتك الخاصة على نقلي في الجوار، أمسموح لك بذلك؟" لم يُبدِ غِرشتِكر أي اهتمام وتابع مشيه بهدوء إلى جانب الجواد الصغير. " هيه أنت! " صاح ك، وجمع بعض الثلج من الزحافة، كوَّرَه بيديه ورمى به غرشتكِر فأصاب أذنه. توقف الرجل الآن واستدار؛ وعندما رآه ك أمامه على هذه المسافة القريبة – كانت الزحافة قد خطت قليلاً إلى الأمام -، بهذه الهيئة المقوسة الظهر، المعذبة بشكل ما، بالوجه الأحمر الناحل المكدود، ذي الخدين المتباينين بطريقة ما، أحدهما مسطح والثاني مجوف، والفم المفتوح اليقظ، الذي لايحتوي على أكثر من بضعة أسنان متناثرة، كان عليه أن يكرر بشفقة ماسبق أن قاله بخبث : أي أيمكن أن يتعرض غرشتكر للعقاب لمساعدته ك في التنقل. " ما الذي ترمي إليه؟ " سأل غرشتكر غير فاهم ودون أن ينتظر تفسيراً آخر، بل صاح بجواده وتابع المسير.

تعديل المشاركة Reactions:
رواية «القلعة» لفرانتس كافكا – الفصل الأول

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة