recent
جديدنا

مهرجانات تتحدّى الواقع: اللوحة كوثيقة والعدسة كصرخة

الصفحة الرئيسية

 


إدريس سالم

 

في سياق التجربة الكوردية المعاصرة، حيث تتقاطع الجغرافيا مع الألم والجرح، ويتماهى المكان مع الذاكرة المنتهَكة، يتقدّم الفنّ كأداة وجودية تستعيد عبرها الذات الجمعية قدرتها على الحضور رغم الاقتلاع، وعلى القول رغم المنع، وعلى الاستمرار رغم التشظّي.

ففي ظلّ هشاشة المعنى السياسي، وانهيار السرديات الكبرى التي كانت تؤطّر مفهوم الوطن والهوية، يتكشّف الفنّ الكوردي، خصوصاً في المهجر، كجبهة رمزية تقاوم الصمت المُطبِق في الأروقة الدولية، وتعيد تشكيل الوعي بالذات والمكان، متحدّية الخطاب الأيديولوجي، عبر ممارسة بصرية، تُعيد إنتاج المأساة في هيئة أمل معلّق على حافة الجمال.

هكذا تتحوّل المهرجانات الثقافية – كمهرجان كوباني السينمائي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي – من لحظات احتفالية إلى فضاءات للتأمّل الفلسفي في طبيعة التمثيل، ودور الصورة، وحدود التعبير، وماهية الانتماء حين يجتثّ الجسد عن أرضه ويُقذف في فضاءات المعنى والمنفى.

إن هذه الفعاليات الإبداعية – المعزولة عربياً فقط – هي فعل مقاومة مستترة، تُستعاد من خلاله الرموز الكوردية المسلوبة، من خلال صمت اللون والكادر واللحن، مقاومة تستبدل الرصاصة بالفرشاة، والخندق بالصالة، ومشاهد الدم والدمار بلغة بصر إبداعية، لتؤكّد أن استعادة المدن تبدأ بالاعتراف.

فالجدل الذي تطرحه هذه التجربة يتجاوز سؤال الفنّ، ليبلغ سؤالاً أنطولوجياً أعمق: كيف يمكن للجمال أن يحمل عبء التاريخ؟ وكيف للصورة أن تكون أصدق من الشهادة؟

لا يطمح التمثيل البصري في هذا السياق إلى محاكاة الواقع، لكنه يرمّمه رمزياً، عبر إعادة هندسة العلاقة بين الإنسان والأرض، من خلال فنّ يرى النور من داخل الأنقاض، لتحولها إلى حدائق وسهول وجبال حرّة خضراء. ومن هنا ينبثق المعنى العميق لمفردة «الهوية»، حين تخرج من أسر الدم والتراب، وتدخل إلى فضاء التجريد البصري، لتصير الهوية عملية ذهنية، تُعاد كتابتها بالألوان، كما يُعاد إنتاجه بالمؤتمرات والمنصّات الثقافية؛ لأن الهوية الكوردية، التي تظهر في هذه التجارب، صارت مشروعاً جمالياً، يُعاد تأسيسه تحت ضغط الغياب.

لكن هذا المشروع، رغم طاقته الإبداعية، لا ينجو من إشكاليات التلقّي وآليات التسويق، حيث تتسلّل إلى جسده اختلالات تفرغه أحياناً من مضمونه الرمزي، وتحوّله إلى مجرّد مشهد دعائي قابل للاستهلاك، خصوصاً حين يُستدعى الخطاب الكوردي، ليمنح شرعية رمزية لوجوه لا تمتلك اتساقاً أخلاقياً أو جمالياً مع قضيته، أو حين يُختزل الوجع في صورة نمطية تحاكي مشاعر الذنب الغربي، دون أن تعيد إنتاج سردية بديلة تمتلك استقلالها الجمالي وصدقها التعبيري.

كي يتحرّر المهرجان من طابعه الموسمي والاحتفالي، يجب أن يتحوّل إلى مؤسّسة وعي، وإلى ورشة دائمة لصناعة الخطاب الثقافي، لا إلى منصّة لعرض الذات المغتربة، وهنا يتجلّى السؤال الجوهري: من يملك حقّ سرد حكاية المدينة المدمّرة: المنفى أم الداخل؟ إن هذه الازدواجية بين الداخل والخارج لا يمكن حلّها إلا عبر جسور حقيقية من المشاركة، تعيد توزيع الأصوات وتمنح كلّ ذات كوردية حقّها في الحضور والتأويل.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الحضور الأنثوي في المشهد التشكيلي الكوردي، حيث تتجلّى المرأة كأيقونة مثالية، كذات تبحث عن معنى وجودها بين طبقات اللوحة، وتكتب سرديتها الخاصة المستقلّة عن الذكورة القومية؛ فالأنوثة هنا هي الصدى والأصل، تتشكّل من التجربة لا من الخطاب، وتعيد رسم العلاقة بين الجسد واللغة والهوية في آن واحد.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الحضور الأنثوي في المشهد التشكيلي الكوردي، حيث تتجلّى المرأة كأيقونة مثالية، كذات تبحث عن معنى وجودها بين طبقات اللوحة، وتكتب سرديتها الخاصة المستقلّة عن الذكورة القومية؛ فالأنوثة هنا هي الصدى والأصل، تتشكّل من التجربة لا من الخطاب، وتعيد رسم العلاقة بين الجسد واللغة والهوية في آن واحد.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الدعوة للمشاركة في المناقشة الثقافية هذه قد وُجّهت بشكل واضح ومباشر إلى إدارتي مهرجان كوباني السينمائي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، مع منح وقت كاف لترتيب مشاركتهما، بعد التأكيد منهما على انشغالهما آنذاك في التحضير لمهرجان عفرين، وصعوبة التفرّغ وضغط المهام التنظيمية، وهو ما قُوبل بتفهّم واقعي ومنحهم وقتاً.

لكن العودة لاحقاً بعد المراسلة للمشاركة، بعد انتهاء الظروف الضاغطة، لم تلقَ استجابة فاعلة، ممّا يطرح تساؤلات مشروعة حول مدى استعداد المؤسّسات الثقافية للانخراط في حوار نقدي يتجاوز حدود العرض والتنظيم.

إن تأكيدنا على هذه الواقعة لا يأتي في سياق اللوم ولا التقليل من جهودهم الجبّارة، هو فقط تثبيت حقيقة إجرائية، والتنبيه إلى أن المساحات الثقافية مسؤولية تنظيمية وإنسانية تفاعلية، وأن بناء المشهد الثقافي لا يتمّ دون مشاركة نقدية واعية، تتجاوز الاحتفال إلى مساءلة المعنى.

ومن هذا الأفق المتداخل بين الجمال والوجع، تنفتح أمامنا جملة من الأسئلة الجوهرية التي تستدعي نقاشاً نقدياً عميقاً حول وظيفة الفنّ، وحدود تمثيله، وآفاقه داخل التجربة الكوردية المعاصرة.

 

 


رويار بكر «فنّانة تشكيلية كوردية، تتقن اللغتين الكوردية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

شكّل كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي تحوّلاً نوعياً في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديتين، كلّ بطريقته الخاصة. ورغم أنني لست جزءاً من فريق مهرجان كوباني، ولا تربطني به أيّ صلة مباشرة، إلا أنني أراه خطوة ثقافية مهمة لسببين رئيسيين:

أولاً، لأن المهرجان يعيد تقديم اسم كوباني بصورة مختلفة تماماً عمّا رسخته سنوات الحرب والدمار، فالفنّ بما فيه السينما والموسيقى والندوات، يخلق لغة عالمية تُظهر المدينة كمساحة للإبداع بدلاً من أن تبقى محصورة في ذاكرة العنف.

ثانياً، لأن المهرجان أصبح نقطة التقاء لأبناء غربي كوردستان في المهجر، ومساحة للتواصل بين الثقافات، خاصة في المجتمع الأوروبي.

وحسب ما هو معروف، تقدمت أكثر من مئة دولة للمشاركة، مما يعكس قدرة كوباني على الدخول في حوار عالمي من خلال الفنّ.

أما مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، فهو بالنسبة لي فعل راقٍ؛ يقدّم  عفرين عبر اللون واللوحة بدلاً من العناوين السياسية أو العسكرية، التي طغت على صورتها في السنوات الماضية. الفنّ هنا يتحوّل إلى وسيلة لترميم الذاكرة الجماعية، وتثبيت حضور المدينة في مخيّلة المتلقّي بشكل إنساني وجمالي. الأعمال الفنّية التي تعرض في هذا المهرجان لا تحمل فقط قيمة جمالية، بل رسائل معنوية عميقة تتعلّق بالهوية والذاكرة والانتماء.

أما التأثير المباشر لهذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين يعيشون تحت ظلّ الحرب والتهجير، فربما لا يمكن لفعالية واحدة أن تغيّر واقعاً يومياً مليئاً بالتحدّيات، مع ذلك يبقى للفنّ دوراً صغيراً، لكنه مهم، فهو يمنح الناس مساحة رمزية للتنفّس، وللشعور بأن مدنهم ما زالت حيّة. وهو يذكّر العالم بوجودهم ويتيح لنا كناس يعيشون في أوروبا أن نعرف الآخرين بأنفسنا بطريقة حضارية، وأن نقول إن وراء الألم حياة، ووراء الدمار ثقافة لا تزال تقاوم.

 

– برأيك رويار، ما الهدف الحقيقي من إقامة مهرجان فنّي باسم عفرين؟ هل ترينه تعبيراً عن وجدان المدينة وثقافتها الجمالية، أم محاولة لإضفاء شرعية ثقافية على مشاريع سياسية أو اقتصادية، أو حتى شخصية؟ ولماذا برأيك تُستدعى الرموز الفنّية، حين يُراد الحديث باسم المكان؟

قبل انضمامي إلى فريق الإدارة، تساءلت تماماً كما يتساءل الكثيرون: هل يمكن أن تتحوّل أسماء المدن إلى واجهات لمشاريع ربحية أو سياسية؟ لكن مع دخولي إلى التفاصيل اليومية، وآلية العمل أصبح واضحاً لي أن هذا المهرجان لا يقوم على أيّ نوع من الربح بل على العكس، فالكثير من الجهود تبذل رغم التكاليف والخسائر المادية. لهذا أرى أن الهدف الحقيقي من إقامة مهرجان فنّي باسم عفرين، هو الحفاظ على الروح الجمالية للمدينة، ونقل وجدانها إلى الآخرين، وخاصة إلى المجتمع الأوروبي، الذي نعيش فيه.

عفرين اليوم ليست مجرّد جغرافية محتلّة من أبنائها، أو مدينة موجوعة في نشرات الأخبار، هي ذاكرة وألوان، ورائحة زيتون، وناس أحبّوا الحياة رغم جراحها. الفنّ يسمح بعرض هذه الصورة بطريقة يفهمها العالم، ويستطيع الاقتراب منها دون مقاومة أو خوف أو ملل.

في الحقيقة، الأوروبي لا يتفاعل مع الألم حين نقدّمه عبر الصور السياسية أو مشاهد الدم والدمار. هذه المشاهد تغلق القلوب بدل أن تفتحها، لكن حين يصل اسم عفرين عبر لوحة، أو معرض، أو لون يروي حكاية، يبدأ المتلقّي بالبحث: ما هذه المدينة؟ لماذا كلّ هذا الحنين في أعمال فنّانيها؟ ومن هنا يبدأ الفضول الإنساني، ومنه تفتح نافذة صغيرة على واقع أكبر.

 

– إلى أيّ مدى يستطيع الفنّ التشكيلي في المهجر، أن يُعبّر حقّاً عن وجع عفرين النازف، كما يعيشه أهلها في الداخل؟ وما الذي يعنيه لك أن تحملي اسم عفرين في مهرجان يُقام خارجها: أهو فعل فنيّ صرف، أم رسالة وجدانية نابعة من الحنين، أم موقف رمزي يعيد تعريف الانتماء من خلال اللون والخطّ؟

الفنّ التشكيلي في المهجر لا يستطيع أن ينقل وجع عفرين كما يعيشه أهلها في الداخل حرفياً، لكنه قادر على حمل صداه، وتقديم صورته الإنسانية للعالم بطريقة مختلفة. وجع الداخل لا يترجم بالكامل في أيّ معرض أو لوحة؛ لأن التجربة المباشرة للحرب والتهجير لها وزنها الخاص، لكن كلّ إنسان لديه دور في الحياة وطريقة ليعبّر بها عن ألمه، ونحن كفنّانين نحمل هذا الألم ونحوّله إلى لغة بصرية اللون والخط يصبحان وسيلتنا للبوح حين تعجز اللغة عن قول كلّ شيء.

كما قال فان كوخ: «حتى الأشياء القبيحة لها خصوصيتها الفنّية، التي لا نجدها في الأشياء الجميلة». بهذه الروح، يتحوّل الألم إلى شكل جمالي، ليس لأننا نريد تجميله بل لأن الفنّ يمنح الجرح مساحة للتعبير دون صراخ، اللوحة لا تمثّل فقط ما حدث، بل ما بقي في داخلنا نحن الذين نحمل الذاكرة من بعيد.

أما حمل اسم عفرين في مهرجان بالنسبة لي أكثر من مجرّد فعل فنّي؛ هو رسالة وجدانية نابعة من حنين لا ينطفئ، لكنه أيضاً موقف رمزي يعيد تعريف الانتماء من خلال اللون لا من خلال الشعارات. حين نعرض أعمالاً باسم عفرين، نحن نقول للعالم، هناك مدينة كانت وما زالت، حتى لو حاولت الحرب محوها. الفنّ هنا يعيدها إلى الخريطة، لا سياسياً بل وجدانياً وإنسانياً. الفنّ يعطي شرعية وجدانية لا سياسية. إنه يربط المدينة بإنسانيتها قبل ظروفها، ويعيد الصوت لأهلها بطريقة يفهمها المتلقّي دون الحاجة للعنف البصري أو لغة العداء. وعندما نستخدم اللون بدل الضجيج ننجح في إبقاء عفرين حاضرة في الذاكرة العامة مهما طغى الدمار.

 

– كيف تتجلّى الذات الأنثوية الكوردية في لوحاتك؟ وهل تجدين في الفنّ ملاذًا من الوجع، أم وسيلة للمصالحة مع الذاكرة والهُوية؟ وإلى أيّ حدّ يمكن للأنوثة في تجربتك، أن تتحوّل إلى قوّة تشكيلية، تعبّر عن الذات والوجود معاً؟

الذات الأنثوية الكوردية قد تتجلّى في لوحاتي من دون قصد مباشر، وكأنها تنساب من الذاكرة ومن طبقات الروح، التي ترافقت معي منذ الطفولة. أحياناً أحسّ أنها تظهر بشكل فطري لا كمشروع واعٍ أو شعار، بل كظلّ داخلي يرافق الخطوط والألوان. لكن في الحقيقة أنا أرسم كلّ النساء من مختلف الجنسيات والطوائف، لأنني أرى في المرأة طاقة إنسانية تتجاوز الانتماءات الضيّقة، ومع ذلك حين أرسم، أشعر أن حملاً يُرفع عن قلبي قليلاً، وأن هذه المساحة البصرية تصبح مكاناً أعيش فيه مشاعر متناقضة، حبّ، غضب، فرح، سعادة، ضياع… وكأن اللوحة تتحوّل إلى مرآة لهويتي التي تبحث دائماً عن معنى.

الفنّ بالنسبة لي ليس هروباً من الوجع، بقدر ما هو ملاذ داخلي، يتيح لي المصالحة مع الذاكرة والهوية. هو مساحة صغيرة بحجم ورقة، لكنها واسعة بقدر ما تحتويه من تراكمات السنوات، وفي هذه المساحة أستعيد ما فقد، وأسمح للألم أن يمرّ من دون أن يلتهمني، أستعيد غرفتي التي غادرتها، ومدينتي التي بقيت في قلبي، وملامح أطفالي الذين يكملونني، ولو كانوا بعيدين عن حضني وأقول دائماً: أنا لا أرسم تحت عنوان محدّد، أو فكرة جاهزة؛ الرسم عندي هو استحضار للروح، والروح بدورها تحمل كلّ ما مررت به منذ طفولتي وحتى اللحظة التي أمسك فيها الفرشاة.

أما الأنوثة في تجربتي، فهي تتحوّل إلى قوّة تشكيلية تعبّر عن الذات والوجود معاً، هي ليست زينة شكلية ولا رمزاً تجميلياً، هي حضور يتشكّل من عمق التجربة. الأنثى في لوحاتي ليست ضحية ولا بطلة مثالية، كائن يبحث عن نفسه، يقف بين الألم والرغبة، بين الذاكرة والمستقبل. ومن هنا تكتسب الأنوثة قوّتها من قدرتها على تحويل الهشاشة إلى معنى والوجع إلى لون، والضياع إلى شكل يعيد ترتيب العالم من جديد

 

 


روميو كوباني «فنّان تشكيلي كوردي، يتقن اللغتين الكوردية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

أسهم مهرجان كوباني السينمائي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في إحداث نَفَس جديد في المشهد الثقافيّ للمدينتين، إذ فتحا فضاءات للتعبير والإبداع بعد سنوات ثقيلة من الحرب. فقد منحت هذه الفعاليات المدنيين لحظات من الأمان النفسي، وشعوراً بالانتماء، ونافذة يطلّون منها على الأمل. كما أسهمت في إعادة بناء الروابط الاجتماعية وتعزيز الثقة بالمستقبل، عبر جمع الناس حول فنّ يخفّف وطأة الذاكرة ويقوّي حضور الحياة.

 

– أيمكن للمثقّف أو الفنّان، أن يوازن بين ضرورة الانتشار، وبين الحفاظ على صدق الرسالة تجاه مدينته أو قضيته؟

نعم، يمكن للمثقّف أو الفنّان أن يوازن بين الانتشار والحفاظ على صدق رسالته. فانتشاره يوسّع مساحة التأثير، أمّا صدقه فيحفظ جوهر القضية التي يحملها، وعندما يبقى الفنّان مرتبطاً بجذوره وقيمه، يتحوّل حضوره خارج مدينته إلى جسر يعرّف الآخرين بوجعها وجمالها معاً، دون أن يفقد هوية صوته أو نقاء رسالته.

 

– كيف تفسّر دلالة أن يقام مهرجان فنّي تشكيلي في المهجر، بينما المكان الأصلي يئنّ تحت القيود؟ هل ترى أن الفنّ، من خلال هذه التجربة، يعيد تشكيل الجغرافيا والذاكرة بشكل رمزي، أم أن توظيف الرموز المكانية والسياسية في الأعمال الفنّية، بات أقرب إلى الزينة الدعائية منه إلى الموقف الأخلاقي الإنساني الحقيقي؟

إقامة مهرجان فنّي تشكيلي في المهجر، بينما المكان الأصلي ما يزال مقيّداً، تعكس رغبة الفنّانين في إبقاء صوت مدينتهم حيّاً مهما ابتعدوا عنها. فالفنّ هنا يصبح مساحة لحماية الذاكرة، وإعادة بناء الجغرافيا رمزياً، حين تضيق بها الظروف. ومع ذلك يبقى الفرق واضحاً بين مَن يستخدم رموز المكان بصدق ومحبّة ومسؤولية، وبين مَن يوظّفها كزينة شكلية، لكن في النهاية، استمرار الفنّ خارج الحدود يثبت أن الذاكرة أقوى من القيود، وأن الرسالة الإنسانية لا تنطفئ.

 

– في رأيك، كيف يمكن للفنّ أن يتجاوز حدود الاحتفال السنوي الموسمي، ليصبح مشروعاً ثقافياً مستداماً؟ أترى أنه من الممكن أن تتحوّل مهرجانات مثل كوباني السينمائي وعفرين التشكيلي إلى منصّات، تُعيد بناء الذاكرة الجمعية، وتخدم الإنسان الكوردي وقضيته، بدل أن تبقى مجرّد لحظة جمالية عابرة؟

يتحوّل الفنّ إلى مشروع ثقافي مستدام عندما يُنظر إليه كمسار طويل لا كمناسبة سنوية فقط. فالمهرجانات مثل كوباني السينمائي وعفرين التشكيلي يمكن أن تصبح منصّات حيّة تعيد ترميم الذاكرة الجمعية، إذا ترافق حضورها مع برامج تدريب، وتوثيق، وتعاون مستمرّ بين الفنّانين. وحين تركّز هذه الفعاليات على الإنسان وقضيته، وتفتح أبوابها للحوار والإنتاج الحقيقي، تتحوّل من لحظة احتفالية عابرة إلى قوّة ثقافية تساهم في بناء الوعي، وتعزيز الهوية، وخدمة المجتمع بطريقة هادئة وعميقة.

 

 


آميتس كراد «كاتبة ومدوّنة كوردية، تتقن اللغات الكوردية والهولندية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

إن الهدف من هذه الفعاليات ليس أن تُحدِث تغييرات سياسية مباشرة. لذا لا يمكن أن نُحمّلها أكبر من حجمها الواقعي، يكفي أنها نجحت إلى الآن في خلق مساحات تعبير ولو محدودة. لذا الهدف ليس صناعة نتيجة ضخمة فوراً، بل إعادة تفعيل الإحساس، بأن الثقافة ممكنة من جديد، وهذا بحدّ ذاته إنجاز لشعب خرج من الحرب والتهجير والاضّطهاد والقمع والصدمات المتراكمة. بالإضافة إلى أن تسمية المهرجانين، الأول «كوباني» والثاني «عفرين»، هو  قيمة كبيرة تحمل معنى المقاومة. فالتمسّك باسم «كوباني» بدلاً من «عين العرب» هو فعل رفض، لمحو الهُوية والذاكرة الكوردية، وخاصّة أن القمع والاضّطهاد، الذي تعرّض له الكورد في سوريا لم يكن سياسياً فقط، بل وصل حتّى إلى الأسماء واللغة والثقافة والفنّ، وهذا يجعل الدفاع عن الاسم مقاومة بحدّ ذاتها.

كما أن اختيار تمثال المقاتلة الكوردية، كرمز للجائزة، هو أبعد من مجرّد تصميم بصري. هو تذكير بمجد تاريخي، انتصرت فيها المقاتلة الكوردية أمام كلّ معتدي من تنظيم داعش الإرهابي، وحتّى كلّ الأنظمة الديكتاتورية.

أما مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، فرغم الانتقادات التي طالته، إلا أنه قدّم أيضاً مساحة لا بأس بها، كبداية للفنّانين الكورد، كي يعرضوا أعمالهم ويشعروا بأن هناك منصّة تراهم وتفهم أعمالهم، التي غالباً تحمل القضية والذاكرة الكوردية على عاتقها، وصحيح أن كلتا الفعاليتين لا تمتلكان القوّة الإعلامية، أو الدعم المؤسّساتي، لكنهما فتحتا بوّابة جديدة على الصعيد الكوردي، وخاصّة في غربي كوردستان «روچ آڤا».

 

– برأيك، ما الدور الذي يلعبه مهرجان كوباني السينمائي الدولي، في دعم وتطوير السينما المحلّية والمستقلّة في المنطقة؟ وكيف يمكن تقييم القيمة الثقافية والفنّية للمهرجان، بالنسبة للجيل الشابّ، من المبدعين وصنّاع الأفلام والمحتوى البصري؟

حضرت مهرجان كوباني السينمائي مرّة واحدة فقط، في يومه الأخير هذا العام. وأكثر ما لفتني لم يكن فقط عرض أعمال سينمائية كوردية، إلى جانب أعمال عالمية، بل كان هناك أيضاً نقاشات حيّة، منها جلسة الحوار التي دارت مع البروفيسور "Dr. Caso Wezîr"، والمخرج "Cano Rojbiyanî"، جلسة لم تكن نقاشاً فقط حول تقنيات أو تفاصيل إنتاجية، بل كان نقاشاً مباشراً حول كيف يمكن للسينما الكوردية أن تتطوّر، وما العوائق الحقيقية التي تقف أمامها. فوجود مساحة كهذه الحوارات، تسمح بالتواصل المباشر مع المتخصّصين، ويشجّع على تبادل التجارب والخبرات، وطرح الأسئلة النقدية. وهو أمر فعّال ومهّم، خصوصاً للمبتدئين، حتى لو بدا صغيراً في حجمه؛ فصناعة سينما محلّية لا تبدأ من المؤسّسات الضخمة، بل من اللقاءات الصغيرة، التي تولد وعياً يسهم في تنظيم مسار صناعة السينما داخل المجتمع الكوردي.

إن رؤية طاقات وإمكانيات شبابية هائلة تدعم الحدث، وتعمل في كواليسه، هو جانب إيجابي، لا يمكن التغاضي عنه، فهو مشهد آخر من مشاهد كيف يصنع الكوردي وطنه بنفسه، ويعيد ترميم ما دمّره الأعداء.

 

– من منظورك كمدوّنة وكاتبة شابّة، كيف يسهم مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، في إبراز الهوية الفنّية والثقافية للمنطقة؟ وما أهمية مثل هذه الفعاليات، في تمكين الفنّانين التشكيليين الشباب، ومنحهم مساحة للتعبير الحرّ عن ذواتهم وتطلّعاتهم؟

إن الاسم في حدّ ذاته يحمل دلالة ورمزية واضحة، فاختيار عفرين ليس مجرّد عنوان جغرافي، بل تذكير ومقاومة لمدينة كوردية تعاني القمح والاضّطهاد والانتهاكات منذ عام 2018م. كما إن الهوية البصرية للمعرض تحمل رمز «نبي هوري»، أحد أهم الآثار القديمة في مدينة عفرين. لكن، وبشكل عام، فإن الهدف لا يقتصر على إبراز اسم عفرين وهوية أهلها وحدهم، بل يتجاوز ذلك، إلى فتح فسحة إضافية أمام التشكيليين الكورد عموماً، ليعرضوا أعمالهم ويتلاقوا ويتحاوروا...

ومن منظوري الشخصي، وبعيداً عن نوايا الإداريين، التي لا أعرفها، فإن ذكر اسم أيّ مدينة كوردية في عنوان فعالية ثقافية لا يختزل الفعالية بأهل تلك المنطقة، بل يمثّل كوردستان كلّها. أما اختيار اسم عفرين تحديداً، فربما لأنها اليوم هي مدينة محتلّة، وورود اسمها في حدث فنّي، يحمل معنى التذكير والتمسّك بها، رغم الاغتراب الجغرافي، ورغماً عن واقع الاحتلال.

لم أحضر دورة العام الماضي، أما دورة هذا العام ستكون في نهاية الأسبوع، وأنا متحمّسة لرؤية ما سيقدّمه الفنّانون على أرض الواقع. لذلك، ما يمكنني قوله الآن هو أن هذه الفعالية تشكّل فسحة لعرض الأعمال بالنسبة للتشكيليين الكورد، لكنني لا أستطيع تقييم مستوى التنظيم، أو أثره الفعلي قبل الاطلاع على تفاصيل هذه الدورة.

 

– على الرغم من القيمة الفنّية والإعلامية الواضحة لكلّ من المهرجانين، ما أبرز التحدّيات أو المعوّقات، التي ما زالت تحدّ من تأثيرهما، أو تحول دون وصولهما إلى جمهور أوسع محلّياً ودولياً؟

هناك عدّة نقاط أساسية يمكن التوقّف عندها، كضعف المعايير الاحترافية، محدودية الخبرة في لجان التحكيم، وضعف الميزانية. لكن برأيي، هناك نقطة أكثر حساسية، وهي استضافة بعض الفنّانين السوريين الذين لا يُعدّ أغلبهم محترفين أصلاً، ويحمل كثيرون منهم أجندات سياسية أو مواقف عنصرية ضدّ حقوق الكورد. استضافة هذه الأسماء لا تُضيف قيمة للمهرجان، وإنما تقلّل من قيمته وهويته. والأسوأ من ذلك أن المهرجان، قد يتحوّل إلى منصّة تمنحهم تغطية وتلميعاً وصورة إيجابية أمام جمهور لا يعرف خلفياتهم، في حين أن مواقفهم الحقيقية قد تكون مُهينة أو عنصرية تجاه الكورد، فضلاً عن تواضع كفاءتهم الفنّية وعدم احترافيتهم. وهذا يضرّ مباشرة بمصداقية المعيار الأكاديمي للمهرجان.

إضافة إلى ذلك، فإن تقييم الأعمال العالمية في هذه المرحلة ليس في صالح مهرجان كوباني؛ فالإمكانيات والظروف لم تصل بعد إلى مستوى يسمح بمقارعة هذه التجارب بجدارة. وهذا قد يجعل المهرجان يبدو وكأنه يحاول اللعب في ملعب غير ملعبه قبل أن يكتمل بناؤه الداخلي، ويقف بثبات على قدميه. لذلك، من الأفضل التركيز على الأعمال الكوردية، وبناء أساس قوي داخل المجتمع الكوردي، ثم التوجّه إلى العالمية لاحقاً.

أما في مهرجان عفرين، فالعائق الأكبر في العام الماضي كان التنظيم نفسه؛ إذ خرج المهرجان عن سياقه، وتحوّل إلى فعالية أقرب إلى حفلة رقص، ما أدّى إلى تشتيت الانتباه عن جوهر الحدث. الفنّ التشكيلي، وهذا النوع من الانزياح يربك هوية المهرجان، ويضعف رسالته الأساسية.

وفي كلا الحالتين، هناك ضغط مشترك يطغى على المهرجانين؛ إذ حمل اسم مدن كوردية يضع عبئاً إضافياً على الإداريين، لأن هذه المدن تحمل رمزية سياسية وتاريخية وثقافية كبيرة، وهذا يحمّل الإدارة مسؤولية مضاعفة لإرضاء أبناء تلك المدن، ويضعها أمام تحدّي الموازنة بين رؤيتها وقيمها الشخصية، وبين الرؤية والقيم الجمعية، التي تمثّل هوية هذه المدن الكوردية.

 

 


زيرين علي «فنّانة تشكيلية كوردية، تتقن اللغات الكوردية والألمانية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

لقد شكّل مهرجان كوباني السينمائي الدولي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي مساهمة جوهرية في الوعي الثقافي والاجتماعي، سواء لدى شريحة من الناس في المهجر والشتات، أو في المدن الكوردية التي وصلتها أصداء هذه الفعاليات عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فقد أعادا الحياة إلى الحالة الإبداعية بعد سنوات مثقلة بالحرب والتهجير. ورغم ما قد يعتريهما من نواقص وسلبيات، فإنهما ليسا مجرّد عروض فنّية، فهناك مَن يسهر ويقف خلفهما بجهود جبّارة لإنجاحهما، وهما مساحة حيّة للوعي الثقافي الجمعي. وأؤمن بأن الفنّ قادر على ترميم الناس قبل ترميم الحجر.

في كوباني، وفي إعادة زرع الزيتون في عفرين، بنى المهرجانان جسراً من التواصل بين المدينتين المنكوبتين، عبر لغة السينما وما تحمله الأفلام المشاركة من رؤى عالمية، وعبر اللون والخطاب البصري المتنوّع الذي يمسّ الناس مباشرة. ورغم أنني لست عضوة في أيّ من المهرجانين، فإن لدي إلماماً بالفعاليات التي تُقام سنوياً باسميهما. لقد حمل مهرجان عفرين رسالة مقاومة ثقافية في وجه طمس الهوية والتغيير الديمغرافي، وحافظ على ذاكرة المكان من خلال اللوحات.

إن مثل هذه الفعاليات تمنح الناس متنفّساً وجرعة من الأمل، في الداخل والخارج، وتؤكّد أن الانتماء إلى الهوية الثقافية أقوى من ركام الحرب وويلاتها.

 

– كيف ترين معنى إقامة مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في أوروبا؟ أهو محاولة لزرع ذاكرة المكان الكوردي في فضاء غربي، أم هو انفتاح للروح الكوردية على عوالم تشكيلية أوسع؟

ربما تستطيع مهرجانات الفنّ التشكيلي أن تمنح الكثير لو كانت أكثر احترافية، تقف خلفها مؤسسات راعية لا مجرّد محاولات شخصية وجهود فردية. فبإمكانها أن تقدّم صورة مصغّرة عن الوطن تنعكس في بلاد المهجر، وأن تحمل الهوية الكوردية الحقيقية إلى العالم.

وأرى أن مهرجان عفرين، رغم ما ذكرته سابقاً، يضطلع بدور ثقافي وإنساني مهم في التعريف بهوية الإنسان الكوردي. وأتمنى ألّا تبقى الأعمال فيه مجرّد لوحات للعرض، وأن تتحوّل إلى قصص كوردية تُروى من التجربة المعاشة، وتنقل ذاكرة الناس إلى الجدران عبر الألوان. فهذا ما يجعل المهرجان وسيلة صادقة لإيصال صوت الكورد إلى الآخر، وإعادة الاعتبار لوجودهم الثقافي، بعيداً عن المواضيع النمطية الجاهزة.

 

– في مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، ما الذي تبحثين عنه: الاعتراف الأوروبي الغربي بالفنّ التشكيلي الكوردي، أم فتح جسور حوار ثقافي كوردي – أوروبي، لاستعادة صوت غُيّب في ضجيج الحرب؟

بالنسبة لي، لا أرى أن المسارين منفصلان، بل متكاملان. فاعتراف أوروبا بالفنّ التشكيليّ الكوردي خطوة مهمّة، لأنها تُسهم في توثيق حضورنا الثقافي على خارطة الفنّ العالمية، وتمنح الفنّ الكوردي مساحة مرئية يستحقّها. غير أن ما أبحث عنه في العمق هو بناء جسور لحوار ثقافي حقيقي، بين التجربة الكوردية وتجارب الشعوب الأخرى؛ حوار يعيد إلى اللون ما غُيِّب طويلاً بفعل الحرب والتهجير.

إن مشاركة الفنّ الكوردي في فضاء أوروبي ليست سعياً إلى بطاقة تزكية أو اعتراف شرعي، هي عملية محاولة لإعادة تعريف الذات عبر اللقاء بالآخر، ولجعل الفنّ مرآة تعكس الألم والأمل معاً، وتتشارك الإنسانية في قراءته، فحين يتحوّل الفنّ إلى لغة للتواصل، يصبح الاعتراف نتيجة طبيعية، لا غاية نلهث وراءها.

 

– كيف تنظرين إلى تطوّر مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي عبر دوراته الثلاث؟ أتشعرين أنه أصبح منصّة لتأسيس «مدرسة تشكيلية كوردية» في المهجر، أم فضاء للحوار الإنساني الحرّ؟

أرى أن مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي، عبر دوراته الثلاث، يحاول أن يجمع بين الجانبين معاً. فمن جهة، بدأ يُشكّل ملامح مدرسة تشكيلية كوردية في المهجر، من خلال توحيد التجارب والرؤى بين الفنّانات والفنّانين الكورد في الخارج، والاحتكاك المباشر بالتجارب الغربية. هناك فنّانات وفنّانون – لا ضرورة لذكر الأسماء – شرعوا في تأسيس هوية بصرية متطوّرة، تحمل موروثاً ثقافياً غنياً، وتمزجه بروح الحداثة وأسئلة الاغتراب. ومع تراكم الخبرة واتساع المشاركات، قد يتحوّل هذا المسار إلى تيار فنيّ واضح السمات، له خطّه وأسلوبه الخاص.

ومن جهة أخرى، ينبغي للمهرجان أن يحافظ على فضاء حرّ للحوار الإنساني، لا يقتصر على الكورد وحدهم، بل يفتح نوافذ للتلاقي مع ثقافات متعدّدة. ومع ذلك، ما زال هناك قصور في الوصول إلى حالة من الندّية مع التجارب الأوروبية، وأخشى أن تُبنى هوية مغلقة إن استمرّ هذا النقص؛ هوية قد لا تتيح مساحة كافية للتفاعل الإنساني الذي تمتزج فيه ريشة الألم بالجمال، وتغوص فيه الذاكرة نحو مستقبل يُعيد التفكير في القضايا الإنسانية الكبرى.

 

 


ريزان صالح إيبو «مدوّن وناشط كوردي، يتقن اللغات الكوردية والألمانية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

لطالما كان هذا النوع من المهرجانات بعيداً عن واقعنا، ومغايراً لمفاهيمنا التقليدية في التعامل مع المناسبات والفعاليات. إلا أن هذين المهرجانين شكّلا نقطة تحوّل، وكانا في طليعة مَن أسهم في تغيير النظرة الشعبية تجاه الفعاليات الفنية، متجاوزين الصورة النمطية التي اختزلت هذه المناسبات في سهرات غنائية أو أمسيات شعرية فحسب.

ما يمكن أن نقدّمه نحن، أبناء المهجر، لذلك المدني القابع في كوباني أو عفرين المحتلة، لا يتجاوز في كثير من الأحيان كلمة ترفع من معنوياته وتمنحه شعوراً بأنه ليس وحيداً في معركته. لا تزال أزمة الهوية تلاحقنا؛ حتى بات كل شخص غير كوردي ينطق بكلمة كوردية، يُعدّ بنظرنا بطلاً قومياً، في دلالة واضحة على مدى عطشنا لأيّ اعتراف أو التفاتة تعوّض شيئاً من محاولات الطمس والإنكار التي عشناها طويلاً. هذه المعاني مجتمعة تُسهم مباشرة في تعزيز معنويات أهلنا في الداخل، فضلاً عن كونها تُسجّل إنجازاً ثقافياً باسم مدننا، وتعيد حضورها إلى الواجهة.

 

– كيف يمكن لمهرجان كوباني السينمائي، أن يساهم في إعادة تعريف هوية المدينة، بعد سنوات من الحرب والدمار؟ وهل استطاع فعلاً أن يعكس روح كوباني ورمزيتها القومية التحرّرية، أم أنه انزلق إلى الطابع الاحتفالي أكثر من تعمّقه في المضمون الفنّي؟

ما زلنا نعيش في حالة حرب، حيث يعلو صوت السلاح على صوت الفنّ والأدب، ومع ذلك، فإن كل نافذة تُفتح في وجه هذا الظلام تُعد بمثابة باب يقود إلى الحرّية للكثيرين. فالمهرجان، ورغم أهميته، لا يستطيع وحده أن يُعرّف بهوية كوباني، ما لم يكن مدعوماً بإنتاج نوعي وغزير، يغطّي مختلف جوانب الحياة، وعلى رأسها الأفلام.

ألاحظ تطوراً ملموساً في الجانب التنظيمي عاماً بعد عام، إلا أن بعض الشوائب لا تزال قائمة. فكل داعم مادي يُستقبل وكأنه ملك أو أمير، وكأننا نعيد إنتاج التراتبية الطبقية التي نحاول تجاوزها عبر تبنّي مفاهيم حضارية مثل فكرة المهرجان نفسها.

من وجهة نظري، لم يُسئِ المهرجان يوماً إلى سمعة المدينة، لكنه – ولو عن غير قصد – أساء إلى كرامة أهلها، خصوصاً في بعض المواقف التي تم فيها استقدام «فنّاني VIP»، ممّن يملكون ماض وحاضر مليء بالإساءات ضدّ الشعب الكوردي. وقد بلغني وقوع صدامات بين بعض الإداريين بسبب هذه الاختيارات، ما يعكس حجم الحساسية وحجم الألم في آن واحد.

 

– أتعتقد أن السينما قادرة على إعادة تعريف نفسها لديك، حين تكون الصورة غائبة؟ وما الذي يمنح العناصر الصوتية – من موسيقى، وإيقاع، وحوار – القدرة على خلق «تجربة بصرية داخلية» لدى المشاهد الكفيف، تعوّض غياب البُعد البصري المألوف؟

لا يمكن الحديث عن «التعويض» بمعناه الحرفي، فهو يختلف باختلاف التجربة وتنوّع الإحساس من شخص لآخر. أما بالنسبة لي، فكل ثانية تمرّ على الشاشة السينمائية تحمل في طيّاتها رسالة، حتى وإن لم تُنطق، لهذا أدرك دوماً أثناء مشاهدة أيّ فيلم أن شيئاً ما قد فاتني، حتى لو كان العمل مزوّداً بوصف صوتي يسهّل الفهم ويقرّب الصورة. ومع ذلك، تبقى في السينما لحظات تُحَسّ؛ وكأنها تهمس لي بما عجزت اللغة عن قوله، وتشاركني مشاعر تُعاش بطريقة جميلة.

 

– إلى أيّ مدى يُراعي صانعو السينما اليوم تجربة المتلقّي الكفيف؟ وما الأنماط السردية أو التقنيات الفنّية، التي تجدها تعبّر عنك وتدمجك فعلياً في التجربة السينمائية، بدل أن تُقصيك عنها بسبب غياب الصورة؟

لا شكّ أن الحوار يُشكّل العنصر الأهم في المسرح، إذ يبنى عليه الإيقاع والدراما، أما في السينما، فالعنصر البصري لا يقلّ أهمية، وأحياناً يفوق في تأثيره العنصر السمعي، نظراً لطبيعة الفنّ السينمائي القائم على الصورة والرمز. وفي هذا السياق، ظهرت تقنيات «الوصف الصوتي» كأداة لتمكين ذوي الإعاقة البصرية من متابعة الأفلام وفهم تفاصيلها. غير أن هذه التقنية لا تزال بعيدة عن تصوّرات معظم صانعي الأفلام ومنتجيها، في منطقتنا، وحتى في الغرب.

ورغم التقدّم التقني، لا يزال الاهتمام الحقيقي بتكامل الوصف الصوتي في الإنتاجات السينمائية دون المستوى المطلوب، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، مما يطرح تساؤلات حول جدية صناعة السينما في تبنّي مبدأ الشمول والدمج بشكل فعلي.

 

 


جيندا يوسف «كاتبة وشاعرة كوردية، تتقن اللغتين الكوردية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

منذ آلاف السنين وإلى اليوم، يُعرف الشعب الكوردي بروح المقاومة التي لا تهدأ؛ يرقصون على أنغام الحرب، ويتباهون بنضالهم وقوّتهم الذاتية النابعة من الإصرار على حياة كريمة تليق ببطولاتهم. وبين حروب لا تنتهي، هاجر بعضهم بحثاً عن الأمان، فيما بقي آخرون يواجهون صعوبات الحياة داخل وطن تحكمه الفوضى والدمار. ومع ذلك، تبقى الحياة بالنسبة لهم فعل مقاومة وصمود وإثبات هوية. وبين الجاليات الكوردية في الخارج، ظهرت مهرجانات ثقافية وفنّية تحمل أسماء مدن كوردية، مثل مهرجان كوباني السينمائي وعفرين للفنّ التشكيلي، قيل إنها وفاء لبطولات تلك المدن ورموزها، لكن السؤال: هل نالت هذه المدن حقّها فعلاً في هذه التسميات، أم استُخدمت لجذب الحضور واستمالة العاطفة؟ لقد كانت التسمية أحياناً استغلالاً رمزياً سهلاً، إذ يستجيب الحضور فور سماع اسم مدينتهم، فيغدو الاسم ميدالية معلّقة لا أكثر.

رغم جمع هذه الفعاليات للفنون من غناء وشعر وأفلام ولوحات، فإنها لم تتمكّن من نقل المشهد الحقيقي لمعاناة المدنيين، بل اكتفت بصورة فنّية سطحية دون الغوص في عمق المأساة. فالفنّ، بوصفه جسراً للسلام ومجالاً لمداواة الوجع، كان يفترض أن يقدّم اعترافاً صريحاً بآلام الشعب، لكن هذه الفعاليات بقيت أسيرة أخطاء تنظيمية متكرّرة، دون دعم حقيقي للفنّانين أو للمجتمع، ولذلك يتناقص الحضور عاماً بعد عام، ويزداد عدد المستقلّين، فيما تتكرّر الأعمال ذاتها بلا تطوير، وتبقى المهرجانات عاجزة عن تأسيس مؤسّسة فنّية أو خلق أثر ملموس على حياة الناس، هكذا ينهار الداخل التنظيمي بصمت، وتبقى المدن أسماء تُستخدم أكثر مما تُكرَّم.

 

– كيف تنظرين إلى فكرة إقامة مهرجانات ثقافية وفنّية كوردية في أوروبا، مثل مهرجان كوباني السينمائي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي؟ وهل ترين أنها نجحت في إيصال صوت الفنّ الكوردي إلى العالم، أم ما زالت تدور في فضاء الجاليات الكوردية؟

نحن كشعب عانى ويلات الحرب لسنوات طويلة، ما زلنا نواجه ظروفاً قاسية دفعت الكثيرين إلى الهجرة بحثاً عن حياة كريمة. ورغم الألم، يمتلك شعبنا قدرة لافتة على التأقلم والاندماج السريع مع المجتمعات الجديدة، الأمر الذي ساهم في ظهور فكرة إقامة مهرجانات ثقافية وفنّية كوردية في أوروبا، لتكون مساحة تجمع الجاليات الكوردية وتمنحهم حضوراً فاعلاً في المشهد الفنّي.

هذه المهرجانات، بما تتضمّنه من فقرات موسيقية وتراثية وعروض سينمائية مثل فيلم أحداث كوباني، استطاعت أن تجمع فنّانين وشخصيات ثقافية وسياسية وجمهوراً متنوّعاً من مختلف المذاهب والقوميات، ممّا عزّز التلاقي بين الشعوب. لكن، وعلى الرغم من إقامتها السنوية في ألمانيا، بقيت هذه الفعاليات منغلقة على نفسها، بلا انفتاح حقيقي على العالم. فلم تحضرها قنوات أجنبية، ولم تُدعَم من أيّ سينما عالمية، كما اقتصرت معظم أعمالها على اللغة الكوردية، ما حدّ من جودة التواصل ومن انتشارها. فالفنّ رسالة تتجاوز الحدود، لكن هذه الرسالة بقيت محصورة داخل الإطار الكوردي، مما جعل تأثير المهرجانات محدوداً محلّياً وإقليمياً.

ورغم الحديث عن تطوير سنوي، لم تضفِ الفعاليات لمسات جديدة قادرة على جذب جمهور عالمي، وظلّت مرتبطة بالجمهور الكوردي بالدرجة الأولى، خصوصاً مع استخدام أسماء مدن مثل كوباني وعفرين، التي استُغلّت أحياناً؛ لاستثارة العاطفة أكثر من تمثيل الألم الحقيقي أو تكريم الصمود. إن مهرجانات كهذه، وهي تحاول تمثيل حضارة شعب كامل، تحتاج إلى ترويج أوسع ورؤية أكثر انفتاحاً، لتصل بأصوات الفنّ والذاكرة الكوردية إلى العالم بما يليق بتجاربها وآلامها.

 

– ما الدلالات الرمزية، لإقامة مهرجان يحمل اسم «كوباني» أو «عفرين» في قلب أوروبا، في ظلّ الواقع الكوردي الراهن؟ أهو استمرار لفعل المقاومة الثقافية والسياسية، أم محاولة لتوثيق الذاكرة الجمعية بأسلوب فنّي معاصر؟

لا شكّ أن الفنّ رسالة سلام تعبّر عن تطلعات الشعوب، وتمنحهم القدرة على إيصال أصواتهم إلى العالم، ومن هذا المنطلق ظهرت مهرجانات مثل كوباني السينمائي وعفرين التشكيلي بوصفها محاولات لإبراز الصورة الفنّية الكوردية، وتعزيز حضور الفنّ الكوردي في أوروبا، وإتاحة مساحة تجمع الجاليات الكوردية عبر عروض سينمائية، وثائقية، وأعمال نحت ورسم وفقرات غنائية وشعرية.

ورغم هذا الحضور الفنّي المتنوّع، يبقى السؤال قائماً، هل أحدثت هذه الفعاليات أثراً ملموساً على المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين اللتين تحملان اسميهما؟ حين تتعرّض مدينة للحرب وتعيش أقسى الظروف، يصبح من الضروري أن ينعكس ألمها على شاشات العالم، وأن تتحوّل المهرجانات إلى منصّة لتوثيق الوجع الكوردي ونقل الواقع كما هو، لا مجرّد احتفال فنّي بعيد عن جذور المعاناة، غير أنّ ما حدث هو انحصار دور هذه الفعاليات في إطار الجاليات فقط، دون أن تتوسّع لتشمل العالم، ودون أن تخلق تأثيراً ثقافياً يتناسب مع حجم الألم الذي مرّت به المدينتان، كما بقيت هذه المهرجانات منغلقة لغوياً وثقافياً على نفسها. فمعظم الأعمال قُدّمت باللغة الكوردية فقط، ما حدّ من انتشارها عالمياً، ولم تُبنَ جسور حقيقية مع فنّانين وصنّاع محتوى في الداخل، رغم أن ذلك كان سيمنحها مصداقية أكبر، ويساهم في دعم المواهب التي تعيش وسط ظروف قاسية.

ومع الإفراط في التصوير والسعي للظهور الإعلامي، فقدت بعض الأعمال الفنّية قيمتها الجوهرية، وتركّز الاهتمام على الشكل بدل المضمون، بينما كان الأولى أن تتحوّل هذه الفعاليات إلى مساحة حقيقية لعرض المسؤولية الأخلاقية تجاه الألم الكوردي، وتوثيق الواقع الراهن، وإبراز التحدّيات التي تواجه السينما والفنّ داخل الوطن.

إن المهرجانات الثقافية الكوردية تمتلك القدرة على بناء جسور مؤثّرة مع العالم، لكنها تحتاج إلى رؤية أوسع، وانفتاح ثقافي ولغوي، وارتباط مباشر بما يجري في الداخل، كي تتحوّل من فعالية شكلية إلى قوّة فنّية تحمل صوت الناس وتنهض بالفنّ الكوردي حيثما كان.

 

– إلى أيّ مدى يمكن للسينما والفنّ التشكيلي أن يساهما في ترميم الوعي الجمعي الكوردي بعد الحروب والتهجير؟ وهل يمكن لهما أن يكونا محفّزين فعليّين للحركة الثقافية والفنّية داخل المدن الكوردية، مثل كوباني وعفرين وقامشلو وديرك؟

لنطرح هذا السؤال بصدق، بعيداً عن المجاملات والشعارات الوطنية: هل استطاعتِ الفعاليات الثقافية التي تُقام باسم مدننا الكوردية أن تعبّر فعلاً عن معاناة شعب عاش الحروب بكلّ قسوتها وآثارها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟
لقد شهد الفنّ الكوردي تدهوراً واضحاً في السنوات الأخيرة، رغم جهود العديد من الفنّانين والرسّامين الساعين لمواكبة النهضة الفنّية، لكن غياب الدعم المادي والمؤسّسات الفنّية والتقنيات الحديثة جعل هذا التقدّم بطيئاً ومتعثّراً.

الفنّ قادر، لو أُحسن توظيفه، على خلق أرضية صلبة تلفت انتباه العالم، وتمنح أعمالنا معنى جوهرياً يعكس وجع الناس وإرادتهم الحرّة، ليصبح إرثاً باقياً. لكننا اليوم أمام واقع صعب، حيث باتت بعض الأحداث الفنّية تأخذ أبعاداً لا تمثّل حقيقة الشعب المظلوم، بل تبتعد تدريجياً عن روحها الوطنية، فهل قدّمت هذه المهرجانات صورة حقيقية لمعنى المهرجان؟ وهل أسهمت في ترميم صورة الفنّ وحماية نوعيته؟
إن كلّ خطوة لحماية الرموز الفنّية الكوردية، هي فعل مقاومة للوجود، وإن إقامة فعاليات تحمل أسماء مدن كوردية يجب أن يصبّ في خدمة تلك المدن أولًا، لا في تعزيز حضور شكلي في الخارج.

الناس في الداخل يحاولون استعادة أنفسهم رغم الحرب، ويحافظون على وجودهم من خلال الفنّ والثقافة. لذلك يجب أن يكون الهدف الأساسي للمهرجانات في المهجر هو دعم الفنّ داخل الوطن، لا الاكتفاء بواجهة احتفالية؛ فالفنّ بحاجة إلى مؤسّسات تقنية وتوجيهية ودعم مادي يتيح له التطوّر وتوسيع آفاقه أمام الجيل الجديد، وحين يعود الناس إلى مدنهم بعد الحرب، يمكن لتلك المهرجانات – إن امتلكت رؤية حقيقية – أن تسهم في ترميم ما تهدّم، أما اليوم، فهي بعيدة عن الداخل، ولا تمتلك حضوراً فعّالاً فيه، بينما يظلّ الفنّ الكوردي يخسر الكثير من مقوّماته تحت وطأة الحرب والفوضى.

نحتاج إلى أشخاص حقيقيين، أكاديميين ومخلصين، قادرين على الارتقاء بالفنّ وحماية التراث، ودعم المواهب الشابة التي تمتلك قدرات كبيرة، كي نحمل الفنّ الكوردي إلى العالم بصورة راقية تستحقّه.

 

 


محمّد شاهين «فنّان تشكيلي كوردي، يتقن اللغتين الكوردية والعربية»:

– ما التحوّل الذي أحدثه كلّ من مهرجان كوباني السينمائي الدولي، ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديّتين؟ وكيف انعكست هذه الفعاليات على حياة المدنيين، الذين ما زالوا يرزحون تحت وطأة ذاكرة الحرب والتهجير والعنف، ويواجهون تحدّيات يومية تمسّ الأمان النفسي والاجتماعي؟

أحدث مهرجان كوباني السينمائي الدولي ومهرجان عفرين للفنّ التشكيلي تحوّلاً واضحاً في المشهد الثقافي والاجتماعي للمدينتين الكورديتين، إذ أعادا تفعيل الحياة الفنّية بعد سنوات من الحرب والتهجير. فقد وفّرا منصّات تتيح للفنّانين التعبير عن ذاكرتهم ، وتقديم سرد بصري يعيد صياغة علاقة الناس مع مدنهم وهويتهم.

انعكست هذه الفعاليات مباشرة على حياة المدنيين عبر تخفيف العبء النفسي، وخلق فضاء آمن للحوار والتلاقي، وتعزيز الشعور بالأمل والانتماء. وهكذا تحوّل الفنّ إلى وسيلة علاجية ومجتمعية تسهم في ترميم الروابط الاجتماعية ودعم الاستقرار النفسي في مواجهة تحدّيات ما بعد الحرب.

 

– إلى أيّ مدى يمكن لمهرجان فنّي، يحمل اسم مدينة مثقلة بالرموز الفنّية والاجتماعية والفكرية والسياسية، أن يكون فنّياً خالصاً بعيداً عن التوظيف الإيديولوجي؟ وكيف يمكن لمثل هذه الفعاليات الموسمية، أن تسهم في تغيير النظرة النمطية عن الكورد في الإعلام العالمي؟

رغم أن المهرجانات التي تحمل أسماء مدن مثقلة بالرموز الفنّية والسياسية يصعب أن تكون بعيدة تماماً عن التأويلات الأيديولوجية، إلا أن قدرتها على الحفاظ على طابع فنّي خالص تكمن في التركيز على الجودة الإبداعية، واستقلالية الفنّان، وتقديم تجارب بصرية متنوّعة لا تخدم سردية سياسية محدّدة.

أما على مستوى الصورة العالمية، فهذه الفعاليات الموسمية تفتح نافذة جديدة أمام الإعلام الدولي، إذ تقدّم الكورد كفاعلين ثقافيين يمتلكون تجربة فنّية معاصرة وليست فقط هوية مرتبطة بالحرب. وبذلك تساهم في تغيير النظرة النمطية، ونقل صورة مجتمع قادر على إنتاج الفنّ والحوار والجمال، لا مجرّد ضحية لأحداث سياسية.

 

– ما الذي يمثّله مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي بالنسبة للفنّانين التشكيليين الكورد في الداخل؟ أتراه فرصة فنّية أم مساحة رمزية للتعبير عن هُوية مدن منسية؟ وهل تمّت دعوتكم رسمياً للمشاركة بلوحاتكم في المهرجان؟

يمثّل مهرجان عفرين للفنّ التشكيلي للفنّانين الكورد في الداخل أكثر من مجرّد فعالية فنّية؛ فهو يجمع بين كونه فرصة لعرض التجارب الإبداعية وتبادل الخبرات، وبين كونه مساحة رمزية لإحياء هوية مدينة غُيّبت بفعل الحرب والتهجير. فبالنسبة لكثير من الفنّانين، يتحوّل المهرجان إلى فعل مقاومة ثقافية يحفظ الذاكرة البصرية لعفرين ويعيد تأكيد حضورها في الوعي الجمعي، إلى جانب كونه منصّة مهنية تتيح إثبات الذات وإبراز الدور الثقافي للكورد ضمن المشهد الفنّي السوري والعالمي.

نعم تمّت دعوتي للمهرجان، بدعوة رسمية، ولكن لم أشارك بأي لوحة من أعمالي في المهرجان.

 

– هناك حديث عن عرض بعض لوحات الفنّانين المقيمين في الداخل، ضمن المهرجان رغم غياب أصحابها، كيف تنظر إلى هذا النوع من المشاركة؟ ومن وجهة نظرك، هل يمكن اعتبار مشاركة اللوحات دون حضور الفنّانين تمثيلاً حقيقياً لهم، أم أنها مشاركة رمزية فقط؟

إن عرض لوحات لفنّانين مقيمين في الداخل رغم غيابهم الجسدي يحمل بعدين أساسيين: فهو من جهة يتيح حضور أعمالهم داخل الفضاء الثقافي للمهرجان ويضمن استمرار صوتهم الإبداعي، ومن جهة أخرى يبقى مشاركة منقوصة لغياب التفاعل المباشر بين الفنّان والجمهور.

وبرأيي، يمكن اعتبار هذا النوع من المشاركة تمثيلاً فنّياً حقيقياً من حيث القيمة الجمالية للعمل ذاته، لكنه يظلّ تمثيلاً رمزياً من حيث التجربة الكاملة، لأن حضور الفنّان يبقى جزءاً أساسياً من عملية التأويل والحوار وتقديم رؤيته الفنّية.

 

google-playkhamsatmostaqltradent