-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

سينما كوباني: مشهد أنا الذي رأيت!


حسين محمد علي

 

للسينما في كوباني حضورها البهيّ وموتها الجميل! من حقّ الناس اليوم ألّا يصدقوا - حين أقرأ عليهم سِفْر الماء والينابيع التي هربت من جيوش القحط والجفاف بين الأمس واليوم - كيف حدث أنّ مدينتهم كانت جواداً من ريح وبرق وشجر يقتحم بوابات الحضارة والمدنية باكراً قبل غيرها من مدن كثيرة ؟ ! واليوم تبدو كأنها دون ذاكرة ، دون ملامح ، دون زمن ، مدينة ألغت مراياها وساعاتها ونوافذها المفتوحة على المدى!

 

قبل خمسين عاماً وأكثر شاهدتُ عرضــاً من عروض السينما وقيل لي : إن السينما بدأت عام  1955 ، أذكر أنني دخلت بصحبة شقيقي ( بوزان ( ، وحين انطفأت الأضواء وبدأ العرض ، داهمني الخوف والبكاء ، وأنا أشاهد شاشة كبيرة وخيولاً صاهلة ، كانت دار السينما تقع أسفل مبنى البريد الواقع أمام بوابة الحدود ، صاحبها رجل سرياني اسمه  زكي  ؛ وهو بالأصل خياط عمل عنده شقيقي ، ثم بُنيت صالة جديدة بالقرب من مقهى ( فتّاح ) ؛ صالة صيفية وأخرى شتوية ، كانت السينما متعة في تلك الأيام وبخاصة في الصيف ونحن صغار ، وفي تلك الأيام نتصيّد القروش لدخولها ،  كنا نحن ( قادر وعزيز وخالد وأحمد ) نعمل على تنظيف الصالة وصفّ المقاعد ورشّ الأرضية بالماء وحمل ملصقة الفلم المعروض على لوح خشبي كبير ندور به في الأسواق ، ننادي على اسم الفلم ، و نردّد عبارات تغري الناس بمشاهدته مثلأعظم فيلم في العالم ، فيلم الحب والمغامرات،  فيلم العمالقة، كنت أتوارى عن عين والدي في الأسواق ؛ كي لا يراني وأنا أحمل ذلك اللوح بطريقة ذليلة.

 

أكثر الأفلام مشاهدة الأفلام الهندية بأجوائها الرومانسية الشرقية الآسرة وأغنياتها الساحرة التي حفظناها، أحببنا الممثّلين(  شامي كابور وشنكار) ، والممثلة الجميلة الدافئة ( عائشة باريخ )، ومن تلك الأفلام علاء الدين والمصباح السحري ؛ وهو مستوحى من حكايات ألف ليلة وليلة و ( جنكلي، و كنكا وجمنا ) . ومن الأفلام المرغوبة أفلام الأساطير اليونانية مثل(  هيرقل وماشستي)  وأفلام الكوبوي وبعض الأفلام التركية والهندية . وأعترف أن تلك الأفلام لعبت دوراً حاسماً في صياغة مزاجي النفسي والفكري ، وما زلت أعاني من أعراضها.

  صالة السينما منحتْنا أوقاتاً من المرح والشغب ، وكثيراً ما تحوّلت الصالة إلى ميدان للشجار والشتائم والتخريب واحتجاجات صاخبة ، حين ينقطع الفيلم بسبب قِدم آلة العرض وقِدم الفيلم ، أذكر( مسي طانوس ) أحد مستثمري السينما يردّ على مسبّاتنا وشتائمنا من كوة عرض الفيلم بشكل مضحك فيرد صاعاً بصاع . في تلك الأيام عرض فيلم ( جميلة بوحيرد ) المناضلة الجزائرية في حفلة خاصة للتلاميذ ، طبعاً دون أن يؤدي العرض إلى مأساة إنسانية كالتي حصلت في سينما عامودا ، تناوب على إدارة السينما من بعده (ايزاكيل ) ووجوه وشخصيات وعوائل مثل عائلة ( حسن مسلم وعبد القادر قطوان) وعائلة حلبية ، وانتهت أخيراً إلى (مسي طانوس). ومن فعاليات السينما وبرامجها أنَّ يوم الأحد مساءً كان مخصصاً للنساء ، وحرمة لهنَّ كان الرجال يختفون من السوق عصراً ، وأكثر من كان يحضر من النساء الأرمنيات وقليل من النساء الكرد. وللتاريخ أذكر أن قرية( كاني عربان) أكثر شغفاً بالسينما وبخاصة رغبتهم في الأفلام الهندية وأفلام الفروسية ؛ لأنها كانت تلامس أمزجتهم وميلهم إلى كل ما هو رومانسي وفروسي . ومن الأفلام التي رسخت في مخيلتي فيلم( أحدب نوتردام) رائعة فيكتور هوغو ، إلاّ  أن مثل هذه الأفلام لم تلقَ قبولاً من الناس؛ بسبب اللغة وإيقاعها البطيء وغياب الإثارة فيها. ولعلّ الشخصيات مثل  (إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي وفريد شوقي ، وكمال الشناوي وهند رستم ) وغيرهم ماتزال عالقة في ذهني ، فقد كانت بالنسبة لنا مثلاً في الجمال والأناقة والقوة.

 أغلقت السينما أبوابهــــــا منتصف السبعينات ، واختفت كثير من الأشياء الجميلة بقدوم زمن الرماد ، اختفت الأندية وحبّ المطالعة في المركز الثقافي ومشاوير الأرمن إلى ملكوت البحيرة، اختفت قنوات الضوء المنصهر في كاني عربان، اختفت الساحات الكثيرة التي كنا نلعب بها الكرة واختفت .. واختفت .. واختفت.. !

 

لقطــــــة

لا تتحرك الأحجار إلا ريثما يرحل الناس

إنني آتٍ من الموت الذي يأتي غداً .. آت من الموت البعيد

ومنه أختتم سيرتي لأبدأ من جديد

 الذين رحلوا ما كانوا مجرّد صور وكتابات على الماء ! ما كانوا فقط أسماء ! ما كانوا فقط أعماراً انقضت ! بل كانوا أقداراً ومصائرَ ، هم أدوار في مسرحية الحياة كما قال شكسبير قبل قرون أربعة. المسرحية التي لا تنتهي فصولاً ومشاهدة هي الدائرة التي لا بدء لها ولا نهاية لها ، كل نقطة ككل نقطة ، مملكة الموتى تغذيها مملكة الأحياء ! هذا هو قانون الوجود القاسي .

 كلّ المقابر في هذا العالم تزداد سكاناً ويكثر نزلاؤها إلا مقبرة الأرمن هي أيضاً مطاردة بلعنة الرحيل من هجرة لأخرى في حركة عبثية وملهاة من الكوميديا السوداء، كأنما كُتب على هذا الشعب الممتحن بالألم والوجع أن يبني للخراب ويُولَد للموت في أصقاع هذا العالم ؛ لينتهي إلى اليباب بكلمات الشاعر العربي ( أبو العتاهية) .

 مقبرة الأرمن الأولى كانت تقع في موقع بيت ) مصطفى درويش (، شاهدت بقاياها ، كنا نرتادها صغاراً ، نقصد شجرة توت ضخمة في أبهائها لنتأرجح عليها ، تحتها حجر كبير منحوت على شكل مكعب مستطيل منحوت عليه الصليب وحروف بالأرمنية حائلة ومتآكلة. في الموقع عدد آخر من تلك الحجارة هي ما تبقّى منهم ، لا أدري لماذا تُركت وأُهملت وهجرها الأرمن إلى مقبرة أخرى ؟! كانت تقابل جنوباً المدرسة الريفية ، حينها كنتُ وأقراني في المدرسة ، يتبعنا الفضول إلى مشاهدة مراسم دفن موتاهم بكثير من الرهبة والخشوع والشدّة . هذه المقبرة أصبحت بعد هجرة الأرمن 1965 نهباً من جوارها كبيت ( حج غني ومصطفى شكو وبيت عالدمر) .  مقابر الأرمن كانت متميزة بالأبهة، وتبدو عليها علائم الترف ، وكل قبر حجر كبير منحوت عليه الصليب ومحفور عليه اسم الميت ، كنا نعدو إليها من المدرسة حين يأتي الأرمن لتكريم موتاهم وأداء الصلوات لراحة أرواحهم ويحرقون البخور في طقس مهيب وسط  كآبة الشتاء وتمتمات القسيس الغريبة ، ونحن ليس لنا إلا التأمل والانتظار وتوزيع كعك العيد الطيب وابتسامات خبيثة خجولة .

 ولا أخفي أنهم كانوا مميزين عنّا بالمظاهر والطعام واللباس والكعك الأطيب من كعكنا القاسي؛ بسبب فقرنا وقلة خبرتنا وبخل أمهاتنا بالسمن. وحين أُزيلت المقبرة من الوجود بقي بعض الأرمن حائرين في دفن موتاهم ، ولم يبقَ لهم إلا التوجُّه لجبل مشته النور ؛ هناك قبور عزلاء تقف في مهبّ الريح والفراغ ، وقد دُفن هناك خمسة مـــن بيت

(شهانو) المعمرجي ، وكان هو واحداً من المدفونين في ذاك العراء الموحش .

 أمّا مقبرتنا نحن - الكرد - فكانت تطلّ من الجنوب على بحيرة الكولة ،  لم تكن مترفة باذخة ، وكانت شواهدها منحوتةً بكلمة الفاتحة واسم المتوفّي بقلم رديء ، ربما يعود الأمر إلى قناعات دينية تقول بعدم الاهتمام بالقبور ، فخير القبور الدوارس كما في الحديث الشريف .

 أذكر من قيمنا الاجتماعية احترام الميت وحرمته ؛ فحين تمرّ الجنازة كان الناس يقفون احتراماً مهما كان جنس المُتوفّى ودينه، والنعش يُحمل على الأكتاف سيراً على الأقدام ، تلك المقبرة أُزِيلت أيضاً في حمَى التوسع السكاني ، وحُدِّد موقع آخر لبعض الوقت على مدخل الطريق لــــ ( ميناس ) قريباً من مكتب الحبوب ، لكن الموقع أُبدِل بسبب قسوة الأرض وصخريتها ، فتحوّلت إلى موقع آخر إلى سهل رخوٍ هشٍّ ، هبةً من ( حج شكري من آل بوزان عزيز ) من قرية ( تيرمك بيجان.

 

تعديل المشاركة Reactions:
سينما كوباني: مشهد أنا الذي رأيت!

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة